في العصر العباسي الأول الذي عاش فيه الجاحظ، انتشرت الحشوية، أو أهل الحديث، من عرب وغيرهم، فراحوا يقنّنون مفاهيم اجتماعية باسم الدين، ووضعوا مجموعة واسعة من الأحاديث التي تحطّ من شأن المرأة. راع الجاحظ ما رآه، وهو المعتزلي الذي يُعمل العقل، ولو في مسائل محددة، فأخذ يتصدى لهؤلاء في رسائل تناول فيها قضايا المرأة، والتي للأسف لم يصلنا منها إلا أقل القليل.
شهد العصر المذكور نمواً كبيراً لاختلاق ووضع الأحاديث النبوية، حتى شملت توافه وصغائر الأمور، وغطت على روح الدعوة الإسلامية في القرآن الكريم. وحظيت المرأة في تلك الظروف بنصيب كبير من الأحاديث المكذوبة التي حطّت من شأنها، بشكل لم يُعهَد في عهد النبي وخلفائه، وفي فترة الحكم الأموي.
ولم يقف الباحثون بعد على تحديد أيّ قوى اجتماعية بالضبط أخذت بالإسلام ناحية الحطّ من مكانة المرأة.
لماذا يكره أهل الحديث المرأة؟
تبدو مكانة المرأة في الحديث النبوي، وبعضه موضوع، متدنية مقارنةً بالقرآن. فالمسائل التي تؤخذ على القرآن تجاه حقوق المرأة يمكن فهمها في إطار سياق عصرها، مثل قضية المواريث، التي نصّ القرآن فيها على "للذكر مثل حظ الأنثيين" (النساء: 11). وسياق عصرها مرتبط بإطار توريث المرأة عند عرب ما قبل الإسلام، وبفهم النصّ القرآني كدعوة إلى عدم حرمانها من الميراث، لا كحكم مطلق عليها بأن ترث النصف.
فعند نزول الحكم كان الرجل يحتكر صناعة الثروة بشكل كبير، أمّا اليوم فتغيّر السياق وصارت المرأة مشارِكة للرجل في صنع الثروة، ما يحتم علينا أن نعيد فهم القرآن في ضوء روحه التي حثت على توريث المرأة في مجتمع كان أغلبه لا يمنحها شيء، وأن نستلهم هذا المبدأ في توسيع حقوق المرأة لتساوي حقوق الرجل في الميراث. فلو ظهرت الدعوة الإسلامية في عصر تشارك المرأة فيه بقوة في صنع الثروة، لأكدت على حقها في أن ترث مساواةً بالرجل.
مقابل ذلك، تبدو الروايات الحديثية أشد قسوةً على المرأة، كما في حديث "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر" (البخاري ومسلم).
ويشير الباحث في الدراسات الإسلامية هاني عمارة إلى أنّ هذا الحديث مروي بجميع طرقه عن ابن عباس، ويقول لرصيف22: "دلالته سياسة، وهي إثبات أحقية العباس، عم النبي، في ميراث النبي، كونه أولى ذكر، بينما رأت الشيعة أنّ فاطمة حجبت الذكور من غير أبناء النبي، ولها كل الميراث، بما فيه الحكم، ولذلك تحجب المرأة عند الشيعة الذكور، وترث الأب، بعد أداء حقوق الأب والأم والزوجات".
النماذج حول الأحاديث المستخدمة ضد المرأة كثيرة. وذكر الجاحظ في رسائله أمثلة عن ذلك، منها ما حرّم اختلاط المرأة بأيّ رجل من أهل زوجها عدا مَن لا يحلون لها. يقول الحديث الذي رواه البخاري: "إياكم والدخول على النساء!، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت"، والحمو هو قريب الزوج الذي لا تحرّم عليه امرأته، كأخيه وعمّه وهكذا.
استُخدم هذا الحديث في تكريس القهر الاجتماعي للمرأة، فقضية حجبها عن الرجال عدا المحارم ليست قضية هيّنة، إذ يترتّب عليها منعها من الخروج من المنزل إلا بضوابط صارمة، وحرمانها من حق العمل والمشاركة الاجتماعية والسياسية، وترسيخ قوامة الرجل عليها.
مكانة المرأة في فكر الجاحظ
اهتم الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر الليثي الكناني البصري (776-869)، بقضايا مجتمعه، وتناول كثيراً منها في مجالات الاجتماع والاقتصاد والتعليم والأخلاق.
في قضية مكانة المرأة قياساً على الرجل يقول الجاحظ: "ولسنا نقول ولا يقول أحد ممن يعقل: إن النساء فوق الرجال، أو دونهم بطبقة أو طبقتين أو بأكثر، ولكنّا رأينا ناساً يُزرُون عليهن أشد الزراية، ويحتقرونهن أشد الاحتقار، ويبخسونهن أكثر حقوقهن. وإن من العجز أن يكون الرجل لا يستطيع توفير حقوق الآباء والأعمام إلا بأن ينكر حقوق الأمهات والأخوال".
"إن من العجز أن يكون الرجل لا يستطيع توفير حقوق الآباء والأعمام إلا بأن ينكر حقوق الأمهات والأخوال"... دفاع الجاحظ عن المرأة في مواجهة أهل الحديث
وفي موضع آخر يقول: "وإن رأينا أن فضل الرجل على المرأة، في جملة القول في الرجال والنساء، أكثر وأظهر، فليس ينبغي لنا أن نقصر في حقوق المرأة. وليس ينبغي لمن عظّم حقوق الآباء أن يصغّر حقوق الأمهات، وكذلك الإخوة والأخوات، والبنون والبنات. وإنْ كنت أرى أن حق هذا أعظم فإن هذه أرحم".
ربما لم يؤكد أحدٌ قبل الجاحظ من المفكرين العرب المسلمين على حقوق المرأة بشكلٍ مستقل، مقابل حقوق الرجل. ولم يكن تأكيد الجاحظ على هذه الحقوق شفقةً على وضع المرأة، بل أتى في إطار رؤية كلية للأسرة والعاطفة والنفس البشرية والعلاقات الاجتماعية، وتناول ذلك في حديثه عن العشق بين الرجل والمرأة، والزواج، وتكوين الأسرة...
وتصدّى الجاحظ لمسألة التحريم والتحليل في سياق حديثه عن المرأة، لانتشار التحريم بشأن أغلب ما يتعلق بها، من اختلاط بالرجال، والسفر، وتولي الأعمال، وانتقاص قدرها في العبادات، مثل الحديث في كتاب مسلم، الذي يتهمها بقطع الصلاة، ويساويها بالكلب والحمار في ذلك ("يقطع صلاة المرء المسلم المرأة والحمار والكلب الأسود")، وهو أمر لا يتفق مع رؤية القرآن.
كتب الجاحظ في ذلك: "وكل شيء لم يوجد محرماً في كتاب الله وسنة رسول الله فمباح مطلق، وليس على استقباح الناس واستحسانهم قياس، ما لم تخرج من التحريم دليلاً على حسنه، وداعياً إلى حلاله".
ويؤكد على مبدأ المعتزلة تجاه الأخذ بالحديث وفق ضوابط منهجية مشددة، وإعمال العقل (تحسين وتقبيح العقل للفعل) في التشريع، ورفض الفهم الحرفي للنصوص، والأهم اتّباع قاعدة "الأصل في الأشياء الإباحة"، وليس تحريم كل شيء، وضرورة وجود دليل على التحليل كما فعل الشافعي في كتبه الأصولية، وتابعه جل الفقهاء على ذلك. بل يقول الجاحظ والمعتزلة إنّ العقل يمكنه تحليل ما يراه النصّ حراماً، ثمّ يتبع ذلك إعادة فهم النصّ في ضوء العقل.
غير أننا لا يجب أن نُخرج الجاحظ من سياق عصره، ونصوره على أنه تقدمي بمقياس عصرنا، بل تظل تقدميته مرتبطة بعصره، ففي رسائله نجد الآتي: "النساء حرث للرجال، كما النبات رزق لما جعل رزقاً من الحيوان".
وفي نص آخر يتحدث عن المرأة من وجهة نظر الرجل يقول: "ولولا المحنة والبلوى في تحريم ما حرم وتحليل ما أحل، وتخليص المواليد من شبهات الاشتراك فيها، وحصول المواريث في أيدي الأعقاب، لم يكن واحد (الرجل) أحق بواحدة (المرأة) منهن من الآخر، كما ليس بعض السوام أحق برعي مواقع السحاب من بعض".
تبدو المرأة هنا كمتاع مرتبط بالرجل، إذ أن ضوابط اقتران الرجل بها وُضعت لمصلحته ولا دور للمرأة فيها.
لكن الجاحظ الذي لم يخرج عن سياق عصره كان تقدمياً بمقاييس عصره، وهو تقدّمي حتى بمقياس مقارنته مع بعض الجماعات التي لا تزال إلى اليوم تحطّ من قدر النساء.
قضية مخالطة المرأة للرجال
راع الجاحظ ما شهده عصره من تشديد حشوية أهل الحديث على وجوب عدم اختلاط المرأة بالرجال، وتحريم النظر إليها، ما يعني حجب المرأة عن العالم، عدا أفراد قلائل. ولم يكن انتقاده لهذا الحجب مراعاةً لحق المرأة فقط، بل ولحق المجتمع أيضاً، إذ كان يرى أن تأسيس الأسرة الصحيحة تحتاج إلى اجتماع الزوج والزوجة على حب وألفة بينهما، وهو أمر لا يحدث إلا قبل الزواج، لذلك أسهب في وصف العشق وألوانه، والدفاع عنه.
تصدّى الجاحظ لمَن حرّموا الغناء، وأهمية ذلك لا تكمن في تقرير إباحة الغناء فقط، بل تتعدى ذلك إلى تقرير منطق حب الحياة، وأن كل شيء في الحياة مباح ما لم يكن هناك تحريم لعلة عقلية، وقد يزول الحكم إنْ زالت العلة
ولما كان اعتماد الحشوية على وضع الأحاديث لفرض رؤيتهم تجاه المرأة، عَمِد الجاحظ إلى بيان كذب كل رواياتهم بالعودة إلى مجتمع عرب ما قبل الإسلام، ومجتمع عهد النبي، والخلفاء الأربعة، والأمويين، وهي الفترة التي كانت السيادة فيها للعرب.
وذكر قصة زواج عمر بن الخطاب من عاتكة زوجة أبي بكر، بعد وفاته، وفيها أن عمر أولم للمهاجرين والأنصار، فدخل علي أبن أبي طالب وقصد بيت حجلتها (قبة العروس)، فرفع السجف (الستر) ونظر إليها، وقال لها شعرا معاتباً إياها على زواجها من عمر بعد أن سبقت وقالت شعراً في الوفاء لأبي بكر بعد مماته، فساء عمر ما رآه من خجلها، ولام عليّ. والشاهد من القصة أنّ عمر لم يكن يرى أن النظر إلى المرأة أو محادثتها حرام، وما أزعجه هو خجل عاتكة فقط.
ويقول الجاحظ: "هذا وأنتم تَرون أن عمر كان أغير الناس، وأنّ النبي قال إني رأيت قصراً في الجنة فسألت لمَن هذا القصر قيل لعمر بن الخطاب فلم يمنعني من دخوله إلا لمعرفتي بغيرتك (غيرة عمر لأن صيغة الحديث موجهة إليه)... فلو كان النظر والحديث والدعابة يغار منها لكان عمر المُقدّم في إنكاره، لتقدمه في شدة الغيرة، ولو كان حراماً لمنع منه، إذ لا شك في زهده وورعه وعلمه وتفقهه".
ثم يذكر قصة أخرى اشترك فيها أربعة من أولاد كبار الصحابة، وهم الحسن بن علي، عاصم بن عمر بن الخطاب، عبد الله بن الزبير، وأخيه المنذر، مع حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر. تزوج الحسن حفصة، وكان المنذر يهواها، فأشاع عنها كلاماً أغضب الحسن فطلقها، فخطبها عاصم فتزوجته، فأعاد المنذر الكرة فطلقها عاصم، فخطبها المنذر فتزوجته بناء على نصيحة لها، كي يعرف الناس أنّه كذب في ما قاله عنها.
بعد ذلك، استأذن الحسن وعاصم من المنذر أن يروا حفصة ويجلسوا ليتحدثوا إليها، فشاور أخيه عبد الله فأشار عليه بالموافقة، فجلسا إليها بحضور المنذر، وتسامروا. وكان الحسن يتردد إليها ليتسامر معها. والشاهد هنا أن خمسة من أولاد وبنات كبار الصحابة لم يروا في مخالطة الرجل للمرأة أو النظر إليها حراماً أو عيباً.
يقول الجاحظ: "وهذا الحديث وما قبله يُبطلان ما روت الحشوية من أن النظر الأول حلال والثاني حرام، لأنه لا تكون محادثة إلا ومعها ما لا يُحصى عدده من النظر، إلا أن يكون عنى (الحشوية) بالنظرة المحرمة النظر إلى الشعر والمجاسد وما تخفيه الجلابيب مما يحل للزوج والولي ويحرم على غيرهما".
ويضيف الجاحظ إلى ما سبق مثالاً من حياة كبار الفقهاء الأوائل، ويحدّثنا عن موقف فقيه العراق، الشعبي، من النظر إلى المرأة. يحكي الجاحظ أن الشعبي دخل على مصعب بن الزبير، والي العراق في عهد خلافة أخيه عبد الله بن الزبير، فقال مصعب للشعبي: "يا شعبي، من معي في هذه القبة؟ فقال له: لا أعلم أصلح الله الأمير. فرفع السجف إذا هو بعائشة بنت طلحة، زوجته". والشعبي فقيه أهل العراق وعالمهم، ولم يكن يستحل أن ينظر إنْ كان النظر حراماً، يقول الجاحظ.
والأمثلة على مشاركة المرأة للرجل في الحياة العامة كثيرة، ألم تكن السيدة عائشة تخطب في الحرم بعد مقتل عثمان بن عفان، وتلهب الجموع في معركة الجمل، رغم أنها خُصّت كزوجة للرسول بالحجاب. ورغم ذلك لم ينكر أحدٌ عليها خروجها. يكتب الجاحظ: "لم يزل الرجال يتحدثون مع النساء في الجاهلية والإسلام، حتى ضُرب الحجاب على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم خاصة". وفرض الحجاب على أزواج النبي ليس كقدوة لبقية النساء، بل بسبب دخول المسلمين بكثرة بيت النبي وحديثهن إلى زوجاته بشكل فاق الحد، ولولا ذلك لما فرض الحجاب عليهن.
ولم يغفل الجاحظ الدوافع النفسية لوضع أحاديث تقلل من شأن المرأة، ويعتبر أنه لا يُعقل أن يحكم على المرأة بالحجب بسبب خيانة بعض النساء لعهود الزواج، لأن الرجال يخونون هذه العهود أضعاف ما تفعل النساء، ولم يحكم عليهم أحد بالحجب.
ويؤكد الجاحظ قاعدة مهمة: "قلنا إن الأحكام إنما تقع على ظاهر الأمور، ولم يكلف الله العباد الحكم على الباطن، والعلم على النيات، فيقضي للرجل بالإسلام بما يظهر منه ولعله ملحد فيه، ويقضي أنه لأبيه ولعله لم يلده الأب الذي دُعي إليه قط".
المرأة والغناء
تصدى الجاحظ لمَن حرّموا الغناء، وأهمية ذلك لا تكمن في تقرير إباحة الغناء فقط، بل تتعدى ذلك إلى تقرير منطق حب الحياة، وأن كل شيء في الحياة مباح ما لم يكن هناك تحريم لعلة عقلية، وقد يزول الحكم إنْ زالت العلة.
يقول الجاحظ: "ولا نرى بالغناء بأساً إذا كان أصله شعراً مكسواً نغماً، فما كان منه صدقاً فحسن، وما كان منه كذباً فقبيح".
ويفنّد حجج أهل الحديث بقوله: "إنْ كان إنما يحرمه لأنه يُلهي عن ذكر الله فقد نجد كثيراً من الأحاديث والمطاعم والمشارب والنظر إلى الجنان... تصد وتلهي عن ذكر الله".
وفي مسألة الغناء يقرر الجاحظ أنّ الأصل فيه أنه صنعة للمرأة، وهو إقرار بحقها في الاختلاط بالرجال، والعمل في الفنون، فإنْ كانت قد اكتسبت هذا الحق فمن باب أولى أن يكون لها الحق بالعمل بشكل عام، والسفر بمفردها، وحرية الحركة.
لم يتناول الجاحظ في ما وصل إلينا من مؤلفاته مسألة تغطية شعر المرأة، وإنْ كان أقرّ بحقها في كشف وجهها.
تناول الجاحظ قضايا تهمّ عصره، واليوم يقع على عاتقنا تناول كل القضايا التي تهمنا، دون التقيّد بآراء الأقدمين التي لم تخل من دوافع نفسية ومشاكل اجتماعية وغير ذلك.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...