في المسلسلات السورية، عندما يريد شخص أن يطلب معروفاً من الآخر، يسأله: "إلك ولا للديب"، وفي أغلب الأحيان يكون جواب هذا الأخير: "خسى الديب"، مصحوباً بهزة رأس وقرع على الصدر، كرمز للاستعداد الكامل لتلبية الطلب مهما كان صعباً.
صحيح أن هذا المثال البسيط قد يدلّ على الشهامة والطيبة والسخاء، إلا أنه في الوقت ذاته قد يكون مؤشراً على شخصية اعتمادية، تربط سعادتها بتلبية رغبات الآخرين والعيش فقط من أجل إسعادهم.
والواقع أنه في حياتنا اليومية نصادف بعض الأشخاص الذين يعيشون فقط من أجل هدف واحد: إسعاد الآخرين وإرضاؤهم، ولو كان ذلك على حساب راحتهم أو مصالحهم الشخصية، فلا يستطيعون قول "لا" بالفم الملآن، كما أنهم يقمعون مشاعرهم الحقيقية، يطمسون آراءهم الخاصة ولا ينطقون إلا بلسان حال الأشخاص من حولهم، أما في حال كانت هناك وجهات نظر مختلفة، فعندها يقفون على الحياد ويكتفون بالتصفيق لهذا والتطبيل لذاك، دون أن يتمكن أحد أن يأخذ منهم حقاً ولا باطل.
من الخجل من طرح فكرة سياسية معارضة، وصولاً إلى الخشية من التحدث عن تفضيلاتنا والكشف عن قلقنا وتعبنا واستيائنا من موقف اجتماعي معيّن، فإن البعض منّا يسعى دوماً لإسكات الصوت الداخلي في ذاته والاستجابة فقط لما يتوقعه الآخر، على اعتبار أن ذلك من شأنه تفادي المشاكل والنبذ الاجتماعي، غير أن إرضاء الآخرين و"الوقوف على خاطرهم" باستمرار له تداعيات خطيرة، سواء على الصحة النفسية وحتى الجسدية.
فن الخداع
فن الإرضاء هو فن الخداع (مثل فرنسي).
هل أنتم قلقون بشأن ما يعتقده الآخرون عنكم؟ هل تتخذون قراراتكم بناء على ما يرضي الغير؟ هل تمتنعون مثلاً عن مشاركة أفكاركم ومعتقداتكم بسبب الخشية من إزعاج غيركم، والخوف من الرفض وإثارة الغضب والحساسيات؟ في حال كان الأمر كذلك، فهذا قد يكون مؤشراً على أنكم تعانون من متلازمة إرضاء الآخرين People-pleaser.
وصفت الكاتبة والأخصائية في علم النفس، فيرجينيا ساتير، الأشخاص الذين يعيشون من اجل إرضاء الآخرين بالقول: "يشعرون بأنه لا قيمة لهم باستثناء ما يمكنهم فعله لشخص آخر"، بمعنى آخر، يكون لديهم حاجة عاطفية لإرضاء الآخرين على حساب احتياجاتهم أو رغباتهم الخاصة.
نصادف بعض الأشخاص الذين يعيشون فقط من أجل هدف واحد: إسعاد الآخرين وإرضاؤهم، ولو كان ذلك على حساب راحتهم أو مصالحهم الشخصية
لا شك أن الرغبة في إرضاء الناس هو شعور مألوف وطبيعي لكوننا نرغب بأن يكون الناس من حولنا سعداء، فنتصرف بطرق نعتقد أنها ستجعل شخصاً آخر سعيداً معنا، ولكن قد نبالغ أحياناً بتركيزنا المفرط على ما يعتقده الآخرون عنّا وما يريدونه منّا، لدرجة أننا نهمل احتياجاتنا ونفقد هويتنا ونشعر بالإرهاق والاستنزاف العاطفي.
والحقيقة، إن إرضاء الناس بشكل مستمر قد يستنفد أثمن مواردنا: الوقت والطاقة، إذ يكفي أن نفكر في مقدار الطاقة التي نهدرها بالهوس بما يفكر به الطرف الآخر عنّا، أو الوقت الذي نخسره ونحن نحاول القيام بما يرضي الآخرين.
الفرق بين اللطف وداء إعجاب الآخرين
في كتابها Disease to Please، تحدثت الكاتبة هارييت برايكر، عن مسألة إرضاء الناس، بالقول: "غالباً ما يقول الناس: نعم، وهم يريدون قول: لا، ما يؤدي إلى مجموعة كاملة من المشاكل العاطفية".
وأشارت برايكر إلى أن هذه المخاوف المنهكة من الغضب والمواجهة، تجبر الأشخاص الذين يعانون من داء إعجاب الآخرين على استخدام درع "اللطف" لحماية أنفسهم.
في هذا الصدد، قد يخلط البعض بين مفهومين: اللطف الصادق والذي يكون نابعاً من القلب، مقابل السعي المزيّف والمَرَضي لإرضاء الآخرين.
فما هي العلامات التي تدلّ على أن الشخص وقع ضحية داء "إسعاد الآخرين وإرضائهم" على حساب قيمه الشخصية؟
التظاهر بالتوافق مع الجميع: لا شك أن الاستماع لآراء الآخرين، حتى وإن اختلفتم معها، هي مهارة اجتماعية، إلا أن التظاهر بأنكم تتفقون مع الجميع قد يجعلكم تنخرطون في سلوك يتعارض مع مبادئكم.
الشعور بالمسؤولية تجاه ما يشعر به الآخر: من الصحي التعرف على كيفية تأثير سلوككم على الآخرين، لكن التفكير بأن لديكم القدرة على جعل أي شخص سعيداً هو أمر خاطئ، فالأمر متروك لكل فرد ليكون مسؤولاً عن عواطفه.
الاعتذار بشكل متكرر: سواء كنتم تلومون أنفسكم بشكل مفرط أو أنكم تخشون أن يلومكم الآخرون، فقد يكون الاعتذار المتكرر علامة على مشكلة تتعلق باهتزاز ثقتكم بأنفسكم.
الشعور بالضغط بسبب الأشياء التي يجب عليكم القيام بها: لا أحد مسؤول غيركم عن كيفية قضاء وقتكم، ولكن إذا كنتم من الأشخاص الساعين لإرضاء الآخرين، فمن المرجح أن يبقى جدول أعمالكم ممتلئاً بالأنشطة التي تعتقدون أن الآخرين يريدونها منكم.
عدم القدرة على قول كلمة "لا": هل تجدون صعوبة شديدة في رفض طلبات العائلة والأصدقاء وحتى الغرباء؟ هل تقولون "نعم" لكل ما يُطلب منكم، في حين أن هناك صوتاً في داخلكم يصرخ: ارحموني؟ هل تخشون من فقدان صداقة والتعرض للانتقاد لمجرد رفض تلبية مطالب الآخرين؟ اعلموا بأنكم لن تستيطعوا الوصول إلى أهدافكم ما لم تتمكنوا من التحدث بصراحة عما يدور في داخلكم.
الشعور بعدم الارتياح إذا كان هناك شخص ما غاضب منكم: مجرد وجود شخص غاضب لا يعني بالضرورة أنكم ارتكبتم خطأ ما، ولكن إذا لم تتمكنوا من تحمل فكرة أن شخصاً ما غير راض عنكم، فهذا قد يدفعكم للتخلي عن قيمكم ومبادئكم من أجل نيل رضاه.
التصرف مثل الأشخاص من حولكم: من الطبيعي أن يتمكن الآخرون من الإضاءة على جوانب مختلفة من شخصيتكم، إلا أن الدراسات تظهر أن الأشخاص الذين يسعون لإرضاء الآخرين ينخرطون في سلوكيات مدمرة للذات، في حال اعتقدوا بأنها تساعد على شعور الآخرين بالراحة، فعلى سبيل المثال، قد يتناول المرء كميات كبيرة من الطعام لمجرد أنه يرى بأن تناوله للطعام يمكن أن يسعد من حوله بشكل أو بآخر.
عدم الكشف عن المشاعر الحقيقية: لا يمكن بناء علاقات حقيقية مع الآخرين إلا إذا كنتم على استعداد للكشف عن مشاعركم الحقيقية، والاعتراف مثلاً بأن مشاعركم قد تعرضت للأذى، إذ إن إنكار شعوركم بالغضب أو الحزن أو الحرج أو الإحباط سوف يبقي علاقاتكم مع الآخرين سطحية.
التداعيات النفسية
للوهلة الأولى، يخال لنا أن الأشخاص الذين يعانون من متلازمة إعجاب الآخرين، هم بغاية اللطف، وبوسعهم استيعاب الآخر والوقوف على مسافة واحدة من الجميع، إلا أنه مع الوقت نلاحظ ان هناك حقيقة مظلمة تدور حول سلوكهم تخلّف وراءها بعض الدوافع المخفية، وعلى رأسها: السعي المرضي للحصول على المودة، والتعطّش لأن يكونوا "المحبوبين" داخل أي مجموعة.
واللافت أن هذا النوع من الأشخاص يكون لطيفاً لأقصى الحدود حتى يتمكن من الحصول على ما يريده (ولو كان ذلك مجرد جرعة صغيرة من الحب والعطف)، وقد تكون محبته مرتبطة بدوافع خفية، الأمر الذي يجعله يتلاعب بغيره من دون قصد، فهو في الأساس شخص يتمتع بطينة جيدة، وكل ما يبحث عنه هو بعض الحب والقبول واستعادة الثقة بالنفس.
وعندما ينجح هؤلاء الأفراد في إرضاء الآخرين، يمكن أن يصبح سعيهم إلى إسعاد الآخر كالإدمان، وفي مثل هذه الحالات، قد تنزلق الرغبة في إرضاء الآخرين إلى الحاجة إلى التحكّم بهم من أجل دعم إحساس المرء بذاته، أو لتجنب الصراعات والخلافات، كما يمكن أن تتحول إلى استراتيجية لحماية النفس من خيبة أمل الآخرين، أما حين يفشلون في عملية إسعاد الآخرين، فإنهم يشعرون بالرعب والذعر من أن تكون علاقتهم بخطر، كما أنهم ينظرون إلى أنفسهم على أنهم غير جيدين بما فيه الكفاية، فتهتز ثقتهم بأنفسهم.
في هذا الصدد، تحدثت الأخصائية في علم النفس، لانا قصقص، عن داء إعجاب الآخرين الذي يُعرف في علم النفس باضطراب الشخصية الاعتمادية Dependent personality disorder والتي قد تكون نتاج التربية والتنشئة الاجتماعية، بحسب قولها: "تتكوّن هذه الشخصية في مرحلة الطفولة وذلك بسبب تعرّض الطفل إما للإهمال أو للحماية الزائدة over-protection من قبل الآباء المتسلّطين".
وفي حديثها مع موقع رصيف22، أوضحت قصقص أن الأهل يتلاعبون أحياناً بعواطف أبنائهم ويمارسون عليهم نوعاً من أنواع "الابتزاز العاطفي"، كأن يقولوا لهم: "لن أحبك إلا إذا فعلت هذا وذاك"، "سوف أعاقبك في حال خالفت أوامري..."، وبالتالي يخلقون لدى الطفل حالة من الاعتمادية الزائدة على الآخرين.
وأشارت لانا إلى أن الشخصية الاعتمادية التي تعيش على هاجس إرضاء الناس وإسعادهم، وتتسم بالقلق والحاجة دوماً للحصول على دعم الآخرين من دون القدرة على تكوين وجهات نظر خاصة، شارحة ذلك بالقول: "هؤلاء الأشخاص لا يستطيعون اتخاذ أي قرار في حياتهم، لا يشعرون بالأمان إلا إذا حصلوا على موافقة الآخرين، والاختلاف بالنسبة إليهم يعني النبذ الاجتماعي، لذا نراهم ينخرطون في علاقات مسيئة وغير صحيّة، وذلك لكونهم متسامحين مع تصرفات الآخرين رغم الأذى الذي يتعرضون له".
التحرر من إرضاء الناس
في حين أن إرضاء الآخرين هو أمر نسعى إليه جميعنا، بالأخص وأننا نطمح لأن نكون محبوبين وموضع تقدير، إلا أنه لكل شيء حدوده.
ففي حال كنتم من الأشخاص الذين يسعون دوماً لإرضاء الناس، ابدؤوا بكسر هذه العادة عن طريق قول "لا" للأمور الصغيرة، عبّروا عن رأيكم ببساطة وصدق وتمسكوا بموقفكم تجاه قضية تؤمنون بها، فهذه الخطوات قادرة على جعلكم تكتسبون المزيد من الثقة في قدراتكم، وفي إظهار حقيقة أنفسكم دون أقنعة أو ابتسامات زائفة أو مجاملات كاذبة.
ففي نهاية المطاف، يمكنكم أن تكونوا معطائين من دون السماح لأحد باستغلالكم، لطفاء من دون أن يستغل أحد "طيبتكم" ومحبوبين دون الحاجة إلى بيع روحكم والتخلي عن معتقداتكم وأفكاركم الشخصية.
وبالتالي، لا تسمحوا لمخاوفكم بأن تحولكم إلى أشخاص يعيشون على هامش الحياة ويسعون فقط إلى إسعاد الآخرين، بل خصصوا وقتاً لإرضاء أهم شخص في حياتكم وهو: أنتم.
يمكنكم أن تكونوا معطائين من دون السماح لأحد باستغلالكم، لطفاء من دون أن يستغل أحد "طيبتكم" ومحبوبين دون الحاجة إلى بيع روحكم والتخلي عن معتقداتكم وأفكاركم الشخصية
فعنما تهتمون بأنفسكم يكون بوسعكم الاهتمام بالآخرين وإسعادهم بشكل حقيقي وصادق، ولعلّ الإرشادات التي نسمعها أثناء رحلاتنا في الطائرة هي خير دليل على ذلك: "إذا حدث فقدان مفاجئ للضغط في المقصورة، تسقط أقنعة الأكسجين من الرفّ الموجود فوق رأسكم مباشرة، قوموا بتأمين قناعكم الشخصي قبل مساعدة الآخرين".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...