تحدد البنى المجتمعية اختيارنا للأمومة أو التخلي عنها، وخلقت أنواع أمومة شرعية وغير شرعية. فالهندسة الاجتماعية لا تطالب فقط بالأمومة، إنما تطالب بها من خلال علاقة زوجية، غيرية، شرعية، معترف بها رسمياً ومجتمعياً. تحركنا هذه الهندسة الاجتماعية، وتبني لدينا مساراً مسبقاً، يبدأ بالزواج وينتهي بالأمومة، تحثنا باستمرار على اتخاذه بمقولات ترافقنا خلال جميع مراحل حياتنا، فبعد الدفع نحو الزواج، تبدأ المطالبة بالإنجاب والكشف عن قاموس من التعابير مثل: "جيبيله ولد يضبه" و"جيبيلي أحفاد".
قد ترسخت هذه التعابير في وعينا الجمعي كنساء، فنجد أننا ندور في دوامة تشوه قراراتنا بشأن الزواج والأمومة، حتى وإن كنا واعيات تماماً للأدوار الاجتماعية المفروضة، نظل محاصرات بترسبات هذه المواريث، وقد لا نعي إن كانت قراراتنا حرّة أم تحصيل حاصل لضغط مجتمعي قديم.
"عربية وعمرك 27 سنة ولسه مش متجوزة؟ تجوزي وإحبلي سريعاً شو بتستنّي؟"
لأسباب مختلفة، تلجأ بعض النساء لضمان "خطة بديلة" لتحقيق الأمومة في حال خذلهن جسدهن وفقدن القدرة على الإنجاب، وذلك من خلال "تجميد البويضات"، وهي طريقة لحفظ الحق بممارسة الأمومة لغير المتزوجات أو المتزوجات المتقدمات في السن. تسحب بويضات ناضجة وصحية من مبيض المرأة عن طريق عملية جراحية، وتحفظ خارج الجسم بظروف بيئية مناسبة لاستعمالها في وقت لاحق للإنجاب، لكن هل يضمن هذا "الضمان" للمرأة الخروج من تلك الدّوامة؟
الأمومة؛ خيار أم تحصيل حاصل؟
عن حتمية الأمومة وقرار الإنجاب، تتساءل النساء حول ما إذا كان هذا القرار ينبع من رغبة حقيقية مستندة إلى تفكير ووعي معمقين وتخطيط مسبق، أم أنه قرار "غريزي" وتحصيل حاصل لسلة الأدوار المجتمعية التي تحملها النساء لمجرد كونهن ولدن مع أرحام؟ تقول نرمين (اسم مستعار)، وهي في الثلاثينيات من عمرها: "أنا مش رح أقدر أعرف إذا قراري بإنّي بدي أصير أم هو قرار حر، جزء كبير من القرار مذوّت فيّ من وأنا صغيرة، بس أنا حابة. يمكن لأنهن بعملوا من الأمومة إشي عظيم، وشعور رهيب وبصير رغبة عند كلّ وحدة تجربه".
إن عدم تحقيق الأمومة يدفعنا كنساء لهامش المجتمع، يحد من شرعيتنا، ينزع حقنا بحرية قرارنا على أجسادنا ويحصرنا بثنائية المتزوجة وغير المتزوجة، أم وغير أم. كما ويفرض علينا تلقائياً أدواراً مجتمعية وألقاباً مثل العانس، ومعناها الحرفي الغصن اليابس، والعاقر، وغيرها من الوصمات التي توهمنا بأننا ناقصات.
ريهام (اسم مستعار) في ثلاثينياتها أيضًا، تتعثر في هذه المسألة، فهي ليست في علاقة زوجية، ولا ترى أفقاً لها، لكن ترغب في أن تكون أماً: "أنا كثير بدي أكون أم، بحب الأطفال، بحب أشوفهن، بصير عندي طاقات ثانية وحلوة بس أشوفهن، كل حياتي بحب ألاعبهن، هاد الرابط كثير مهم إلي. شوفتهن وعبطتهن بتسوى كل إشي".
وتضيف: "في خوف، بس أنا بدي أكون أم وبدي العيلة تكمل. كمان أمي كبرت، بدي إياها تنبسط وتلعب مع أحفادها، أمي داعمة ومتحرّرة، بس بعرفش إذا رح تدعمني بهاد القرار، في عندي الشعور إني خذلتهن بمحل معين. الشعور كثير صعب، إني مقدرتش أحققلهن رغبتهن بإنهن يكونوا أجداد. بس كمان مش رح أستنّى تضيع منّي الفرصة عشان شو بفكّر المجتمع".
تلجأ بعض النساء لضمان "خطة بديلة" لتحقيق الأمومة في حال خذلهن جسدهن وفقدن القدرة على الإنجاب، وذلك من خلال "تجميد البويضات"، وهي طريقة لحفظ الحق بممارسة الأمومة لغير المتزوجات أو المتزوجات المتقدمات في السن
سلطة أبوية ومادية على البويضات
إن تقنية تجميد البويضات في صفوف النساء في الأراضي المحتلة عام 1948، اتّبعت من قبل العديد من النساء اللواتي يعانين من مشاكل إنجابية صحية. وفي عام 2011 سُنّ قانون إسرائيلي يتيح إجراء تجميد للبويضات لأسباب شخصية واجتماعية، وفق عدة شروط، من بينها بلوغ النساء سن الثلاثين حتى سن الواحد والأربعين، بحيث يمكنهن الخضوع إلى أربع عمليات استخراج للبويضات والحصول على عشرين بويضة.
تنطوي عملية تجميد البويضات على تحفيز إنتاج البويضات بحُقن هرمونية تقوم غالبية النساء بحقنها بأنفسهن، ومن ثم تجرى عملية لشفط البويضات تحت التخدير، وتجميدها لمدة خمس سنوات مع إمكانية تمديدها. تغطى تكاليف هذه العملية فقط في حال إجرائها لأسباب طبية، عدا ذلك فإن تكلفتها قد تصل إلى أكثر من 20 ألف شاقل (5800 دولار).
وبالنظر إلى اتخاذ هذا الإجراء في صفوف النساء الفلسطينيات في الأراضي المحتلة عام 1948، يتحتم علينا قراءة هذا التحدي في سياقه. فنحن نتحدث عن فئة مجتمعية تتقاطع هوياتها وفقاً لنظرية التقاطع بين أشكال التمييز، هويتها السياسية كامرأة فلسطينية تعيش تحت احتلال يساهم في قمع وإفقار مجتمع بأكمله، وهويتها الجندرية كامرأة تعيش في مجتمع أبوي، ينزع الشرعية عن قراراتها واختياراتها.
بالتالي، يجعل هذا التقاطع النساء الفلسطينيات المجموعة الأكثر استضعافاً والأكثر فقراً والأقل شأناً في مستوى التحصيلات العلمية والتمثيل في أماكن صنع القرار والسياسات، وكذلك الأقل حصولاً على مثل هذه الخدمات. وعليه، تصير مسألة "تجميد البويضات" حكراً على فئة من النساء لديها القدرة على تحمل العبء المادي المطلوب. من جانبها، ترى نرمين في القضية المادية إشكالاً حتى في العائلات التي تنجب داخل مؤسسة الزواج التقليدية، فهي تختار الإنجاب بالرغم من ظروفها المادية الصعبة، متبعة سياسة "الولد بجيب رزقته معه"، فتكون الأعباء المادية لهذه القرارات ثقيلة.
تضاف إلى السلطة المادية والاجتماعية سلطة المؤسسة المتمثلة بالسلطة الطبية الأبوية التي تضطر النساء إلى مواجهتها. تتحدث نرمين عن لقائها الأول مع طبيب نسائي قبل سنوات، عندما توجهت لفهم حالتها، وكان رد فعل الطبيب أن استغرب أمرها قائلاً: "عربية وعمرك 27 سنة ولسه مش متجوزة؟ تجوزي وإحبلي سريعاً شو بتستنّي؟" لم تختر نرمين أن تمر بهذا المسار بخيار "مجتمعي"، كما تُصنف الخيارات لتجميد البويضات في القانون الاسرائيلي، لذلك فهي معفية مادياً من تكلفة التجميد، لكن حتى في هذه الحالة لا تُعطى "الصكوك المجتمعية". فبالرغم من الخلفية الطبية للقرار، تقول نرمين: "لن أتحدث عن هذا الموضوع إلا مع دوائري الآمنة الصغيرة، لأّني سأبقى بعين المجتمع المريضة والعاقر والعانس، وغيرها من وصمات لن أقوى على تحملها".
الحياة المهنية تحت نصل الأمومة
تقول سهير (اسم مستعار)، 37 عاماً:"أنا طالبة أدرس الدكتوراة، وأبحث في مجال تتواجد فيه امرأة فلسطينية لأول مرة. أريد التقدم والتطور أكثر والحصول على الدكتوراة". رغبة سهير في الانخراط في مجال الأبحاث والدراسة يأخذ جل تفكيرها ووقتها، وهي لا ترى خيار الزواج والأمومة مناسباً في هذه المرحلة المهنية في حياتها.
تضيف سهير: "حاسة الزواج ممكن يأخرني، ومش حاسة حالي جاهزة أكون زوجة وأم، ومن جهة ثانية حاسة بضغط، ساعة بتّكتك وبتقلّي يلا استعجلي بدك تلحقي تخلّفي. بحس إننا لشو ما نوصل من إنجازات بالحياة، رح نشعر إنه مكتملناش لأنه ممشيناش حسب المكتوب ومصرناش إمهات".
صراع سهير يرافق الكثير من النساء اللواتي يسعين إلى التطور والتعلم والعمل وبناء سيرة مهنية، إلا أنّ خيار الأمومة بالنسبة لهن سيحدّ من هذا التقدم وسيغير الأولويات. فالكثير من الأمهات تراجعن عن إكمال تعليمهن أو اخترن عملاً يتلاءم مع أمومتهن ودورهن المجتمعي في تربية الأطفال، فيغدو القرار صعباً و"التضحية" التي تتصف بها النساء منذ الصغر هي ليست وساماً فخرياً، بل في أغلب الأحيان تدفع أحلامها ثمناً لذلك، من أجل تلبية طلبات المجتمع وتأدية الدور الاجتماعي الذي وضعه لها.
بالنظر إلى اتخاذ هذا الإجراء في صفوف نساء فلسطينيات في الأراضي المحتلة عام 1948، فنحن نتحدث عن فئة تتقاطع هوياتها وفقاً لنظرية التقاطع بين أشكال التمييز، هويتها السياسية كامرأة فلسطينية تعيش تحت احتلال يساهم في قمع وإفقار مجتمع بأكمله، وهويتها الجندرية كامرأة تعيش في مجتمع أبوي، ينزع الشرعية عن قراراتها واختياراتها
الغربة في المسار
إن اتخاذ قرار تجميد البويضات هو البداية فقط، أما المسار نحوه فهو طريق شخصية تراها كل امرأة من منظور مختلف، يقودنا نحو اختلاف في مفهوم الأمومة ومفهوم الشراكة. تقول ريهام: "المسار حزين، كان عندي كثير صعوبة وأنا أعبّي الأوراق، بكلّ خانة كان لازم أعبي (الزوج)، وكلّ مرة أشير إنه فش زوج. أنا بهاد المسار لحالي. كنت كثير حساسة اتجاه الشعور بالفرصة الأخيرة والشعور إنه إذا عملت هيك معناها أنا (بالنهاية)، وإني بلغي أي فرصة ثانية. خايفة تأجيل الموضوع يفقدني الفرصتين. بديش أضيع وقت. أنا بدفع ثمن لحريتي، ومفكرة أسافر إذا ملقيتش شريك حياة، وأنجب لحالي. رح يكون هاد الثمن لأنه المجتمع مش رح يقبلني".
مخاوف أخرى ترافق نرمين، التي تقول:" تخوفي إنه أمي تعرف إني عملت علاقات جنسية. حقيقة إنه عملية سحب البويضات بتكون من المهبل خلّتني أتردد. خفت أمي تعرف من التقارير أو من الأطباء، خفت أخذلها. بديش تكتشف". تجعل هذه التخبطات المسار مليئاً بالتحديات، واضعاً النساء في دوامة الخوف من الرفض، والنفي والفقدان، فتقول سهير: "ولدت بنفس الاسبوع اللي توفي فيه أخي، خلقت وكبرت مع وجع الموت مقابل الحياة. هذا الوجع خلاني ما بدي أكون أم. ما بدي أعيش هاد الألم. عاشت أمي وهي حاملة وجع فقدان ابنها. شعرنا فيه طوال عمرنا في كل لحظة، كأنه مرض. بتساءل أحياناً، أخي عنده أولاد بحبهم كتير وهن جزء من حياتي، ألا يكفي؟ ليش لازم أصير أم؟".
لا يمكن المقارنة بين المواد الإرشادية والتعريفية المتوفرة باللغة العربية وتلك المتوفرة باللغة العبرية حول الموضوع.
سأصير أماً رغماً عن أنف الاحتلال
لا يمكن المقارنة بين المواد الإرشادية والتعريفية المتوفرة باللغة العربية وتلك المتوفرة باللغة العبرية حول الموضوع، ففي الوقت الذي تتزاحم فيه المقالات العلمية، والأبحاث والمعطيات والتقارير التلفزيونية باللغة العبرية، والتي تنطلق طبعاً من السياق المجتمعي الإسرائيلي والخطاب الإسرائيلي إلى تجربة النساء الإسرائيليات، لا تتوفر مواد في اللغة العربية إلا في مواقع محدودة تعمل على توفير معلومات مترجمة قليلة جداً وغير وافية، ولا تولي اعتباراً مباشراً أو غير مباشر بسياقنا العربي الفلسطيني، ولا حتى من منظور خدماتي. فجميع النساء اللاتي شاركن في هذا التقرير استقين معلوماتهن من مواقع عبرية، وسمعن عن تجميد البويضات لأول مرة من زميلاتهن الإسرائيليات في العمل أو التعليم. تقول نرمين: "بإحدى المرّات خربطت بحقن الإبر. لما الدكتور عرف تحوّل لوحش وصار يصيح بصوت عليّ عالي، بكيت كثير. عاملني كإنّي طفلة صغيرة".
إنّ عدم توفر المعلومات هو جزء لا يتجزأ من تعاطي مؤسسة الاحتلال مع الفلسطينيين. إذ إن إتاحة المعلومات وترجمتها والاهتمام بإيصالها هي من بين القضايا التي تصب في لب النضال اليومي أمام الاحتلال. ولا يعبر رد فعل الطبيب إلا عن هذا السياق وعن الاستعلاء لدى المحتل ونظرته الدونية.
وفي السياق الاستعماري، اختبرت سناء سلامة دقة، 50 عاماً، تجربة مختلفة. فتجميد البويضات منحها حق الأمومة، ومنح حلم الأبوة لزوجها، وليد دقة، الذي يقبع أسيراً منذ 35 عاماً داخل زنازين الاحتلال، منع خلالها من زيارات فرديّة مع زوجته سناء، فواجها سوية أصعب مشاهد القمع والحرمان. وعلى الرغم من هذا المنع، لم يستطع الاحتلال أن يقف أمام تجميد البويضات وتهريب نطفة من زنزانة وليد وتحقيق حلمهما بالأمومة والأبوة. اسمها "ميلاد" وهي تجلّي لميلاد حياة جديدة لأمومة انتزعها الاحتلال من جسد سناء. دعونا نحتفل بخياراتنا، بأن نصبح وبأن لا نصبح أمهات، بأن نختار مساراتنا، بأن لا نبرر ماذا يحصل أو لا يحصل داخل أرحامنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون