في ثمانينيات القرن السادس عشر، أخذت السفن الإنكليزية تقتحم البحر المتوسط لمنافسة البنادقة والأتراك على التجارة، ونتيجة لذلك أَسَر قراصنة شمال أفريقيا الكثير من ركاب هذه السفن. العديد من الأسرى اعتنقوا الإسلام لاحقاً.
يذكر قرباش بلقاسم، في دراسته المُعنوَنة "مسألة الإسلام في إنكلترا 1571- 1700"، أن التفاعل البريطاني مع العالم الإسلامي خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر ارتكز على منطقتين رئيسيتين، هما شمال إفريقيا والدولة العثمانية.
ويشرح بلقاسم أن المنطقة الأولى كانت منطقة صراع حسب ما أورد الإنكليز في أدبياتهم، والثانية كانت منطقة تجارية ارتكز عليها البريطانيون بعد تأسيس "شركة المشرق" عام 1580، والتي أصبحت الممثل التجاري والسياحي الأول لإنكلترا في العالم الإسلامي، حيث استمرت في تعيين القناصل في المناطق الإسلامية لغاية القرن الثامن عشر.
أول مُعتنق للإسلام
ورد اسم أول بريطاني اعتنق الإسلام في كتاب "الرحلة إلى طرابلس" للرحالة البريطاني توماس ساندرز، عام 1583، وكان اسمه جون نلسن الذي عُرف بكونه ابن أحد حراس الملكة إليزابيث.
بعد ذلك، ذُكر من اعتنقوا الإسلام من البريطانيين في كتب الرحلات، وفق ما أورد نبيل مطر في كتابه "الإسلام في بريطانيا 1558– 1685"، وترجمه للعربية بكر عباس.
بحسب مطر، ليس في الإمكان تحديد أعداد الرجال والنساء الذين أُسروا في تلك المرحلة، أو اعتنقوا الإسلام بعد أسرهم، غير أن ما بقي من السجلات والسير الذاتية في تاريخ إنكلترا يتضمن إشارات عدة إلى هؤلاء.
من الظاهر، وفق المراجع، أن البريطانيين منذ غزواتهم الأولى في البحر المتوسط خلال القرن السادس عشر، انشغلوا بمكافحة أسر مواطنيهم من قبل المسلمين أو تحولهم عن ديانتهم أو الأمرين معاً.
بين عامي 1580 و1588، حثّ ممثلو الشركة الإنكليزية في إسطنبول الملكة إليزابيث على "حفظ رعاياها من الأسر في المستقبل في الأراضي الخاضعة للسلطان العثماني، لأن فديتهم خلال عشرين سنة كلفت المملكة 4 آلاف جنيه"، كما اشتكوا من أن "العديد من الأشخاص لم يُستنقذوا، وللأسف فقد تترّك بعضهم (اعتنقوا دين الأتراك)".
ويذكر بلقاسم أن المخيال الإنكليزي خلال القرنين السادس والسابع عشر كان يُشير إلى الإسلام بمصطلَحَي "المغاربة" و"الأتراك"، وما هو معلوم أن كلمة "turk" كان يمكن أن تشمل المغاربة، أما كلمة "moro" ففي الغالب كانت تشير إلى سكان شمال إفريقيا، والسبب في ذلك أن تسمية "المسلمين" لم تكن معروفة في أوروبا خلال تلك الفترة.
أسر البريطانيين من المياه الإنكليزية
مرّ أسر البريطانيين وتحولهم للإسلام بمحطات عدة، ففي فترة حكم جيمس الأول، وبسبب عدم كفاية القوة البحرية الرادعة، كانت السفن الإنكليزية تُلاحَق بلا هوادة، فيتم أسر من عليها أو إغراقهم من قبل المسلمين، وذُكر أنه في الفترة ما بين 1609 و1616 هوجمت 466 سفينة إنكليزية، وفق ما روى مطر.
وفي عام 1624، عُقد اكتتاب عام للتبرعات في المملكة من أجل تخليص 1500 أسير إنكليزي في الجزائر وتونس وسلا (على ساحل الأطلسي من مراكش) وتطوان.
أول بريطاني اعتنق الإسلام كان جون نلسن بحسب ما ورد في كتاب "الرحلة إلى طرابلس" عام 1583... نلسن وكثر غيره شغلوا بريطانيا في القرنين السادس عشر والسابع عشر بسبب تركهم للمسيحية، فيما وصفتهم المسرحيات الإنكليزية في تلك الفترة بـ"الأشرار"
لم يتغيّر الوضع عندما اعتلى شارل الأول العرش عام 1625 إلى الأفضل، بل زاد تعقيداً، فبحلول أيار/ مايو من عام 1626 ذُكر أن هناك 3 آلاف أسير بريطاني في الجزائر و1500 في سلا.
واللافت أن هجمات الأتراك في تلك الفترة لم تقتصر على البحر المتوسط والمحيط الأطلسي، بل امتدت إلى الجزر البريطانية وقراها، ففي آب/ أغسطس عام 1625 أسَرَ الأتراك من كنيسة منيجسكا في مقاطعة كورنوال الإنكليزية بالجنوب الغربي حوالي 60 من الرجال والنساء والأطفال، حسب مطر.
كما هاجم الأتراك السفن الإنكليزية في المياه البريطانية، حيث أسروا في عام 1634 مركبين من ماينهد كانا متجهين إلى إيرلندا بحمولة من الركاب والبضائع، وفي أيلول/ سبتمبر عام 1635 استولت ست بوارج من سلا على سفينة بالقرب من جزر سيلي التي تبعد 40 كيلومتراً عن بريطانيا.
ومع تزايد هذه الحوادث بشكل كبير، أعلن البرلمان الإنكليزي في كانون الأول/ ديسمبر عام 1640 تشكيل "لجنة الجزائر"، للإشراف على تخليص الأسرى الإنكليز، وضمّت في عضويتها عسكريين ورجال دين وأعضاء في البرلمان.
وفي سنوات متعاقبة، أُقرت قوانين عديدة لجمع تبرعات لتخليص الأسرى في الجزائر.
وفي فترة الكومنولث ثم عودة الملكية كان الأسطول الإنكليزي قد امتلك القوة الكافية لفرض معاهدات سلام على القراصنة المغاربة، لكن عمليات الأسر استمرت.
متحولون طواعية
المُلاحَظ بحسب المراجع أن جزءاً كبيراً من الذين تحولوا إلى الإسلام اختاروا ذلك طواعية، وقد أصر إدوارد كِلت في كتابه "العودة من الجزائر" عام 1628 على أن الكثير من الإنكليز يتحولون إلى الإسلام بعد "الاستسلام لإغراءات المسلمين لا بسبب العنف".
بعد قرن من الزمن، أيّد جوزف بتس الذي تحول للإسلام ثم عاد للمسيحية أن مثل هذا التحول ما زال يحدث، فـ"هناك كثيرون يتحولون (إلى الإسلام) باختيارهم دون أن يتعرضوا لأي تخويف أو قسوة"، كما ورد في كتابه بعنوان "بتس".
وذكر بتس في سيرته الذاتية قصة إيرلندي قام بالحج إلى مكة، وكذلك قصة إنكليزي اسمه جون غراي تحول إلى الإسلام وأتقن العلوم الإسلامية.
وفي فترة عودة الملكية في إنكلترا، أرسل شارل الثاني (1630- 1685) الكابتن هاملتن لافتداء بعض الإنكليز الذين أُسروا في ساحل المغرب، لكنه لم ينجح في مهمته لأن أولئك الرجال كانوا قد اعتنقوا الإسلام ولم يكن لديهم رغبة في العودة إلى بلادهم، فكتب قائلاً "إنهم مغرّون بنبذ ربهم من أجل حب النساء التركيات (المسلمات)، وهن على وجه العموم جميلات جداً".
وفي المعاهدة التي عُقدت بين إنكلترا وطرابلس عام 1676، حاول السير جون ناربره الذي فاوض باسم الملك شارل الثاني وقف هذا التحول الاختياري، فأدخل مادة تنص على أنه "لا يُسمح لأي من رعايا ملك بريطانيا العظمى بأن يتحول إلى تركي أو مغربي في مدينة طرابلس ومملكة طرابلس، ولا استدراجه بأي نوع من المغافلة أياً كان ما لم يحضر بطوعه واختياره أمام الداي أو الحاكم مع ممثلي القناصل الإنكليز ثلاث مرات في أربع وعشرين ساعة ويصرح كل مرة بقراره أن يتحول إلى تركي أو مغربي".
مكانة المتحولين في البلاد الإسلامية
"بتس" التي تعد أول رواية إنكليزية على لسان متحول إلى الإسلام، إلى جانب روايات أخرى عن الأسر من قبل شخصيات لم يتحولوا، تلقي ضوءاً على خلفية من اعتنقوا الإسلام ومكانتهم الاجتماعية، إذ كانوا على وجه التقريب من الطبقات الاجتماعية الدنيا كالبحارة، وطباخي السفينة وخدامها، وصيادي السمك، والجنود، وكانوا في حالات أقل أشخاصاً من ذوي المكانة مثل بنجامين بشوب الذي عُين قنصلًا في مصر عام 1606، وبعدها اعتنق الإسلام ثم اختفى من البيانات العامة.
ويذكر مطر أن المسلمين لم يكن لديهم تمييز على أساس الأصل الاجتماعي أو الإثني للمتحول، سواء جاء الرجل من إنكلترا أو إيرلندا، أو كان مواطناً مسلماً بالولادة، أو متحولاً من المسيحية أو اليهودية، إذ كان يستطيع الترقي إلى مركز من مراكز القوة بغض النظر عن جنسه أو نسبه، وكان التساوي في الفرص في الإمبراطورية الإسلامية معروفاً تمام المعرفة في إنكلترا.
وفي أواخر القرن السابع عشر، كان من المعروف أن أربعة عشر "باي" أو "ريّس" في شمال إفريقيا كانوا من أصل مسيحي، وهؤلاء كانوا موضع إعجاب في إنكلترا كما يُستدل من الاستقبال الذي أُجري في أيلول/ سبتمبر عام 1637 لسفير مراكش القائد جورار بن عبدالله أثناء زيارته لندن، رغم أنه كان "برتغالياً مرتداً".
وذكر الرحالة الفرنسي جوزف غريلون في كتابه "رحلة في الآونة الأخيرة إلى القسطنطينية" عام 1638 أن "بعض الأسرى، بعد أن يطلق سراحهم، ويأتون إلى أوروبا، لا يجدون ما كانوا يتوقعونه، فيعودون بأنفسهم إلى رقّ أكثر متعة عند الأتراك".
أول عرض للمسيحي المتحول إلى الإسلام كان في مسرحية توماس كِد عام 1588، وفيها يعتنق باسليكو الإسلام لأجل امرأة، لكنه يظهر كذلك كجندي يحصل على أجر أعلى، ويلقى في الجيوش الإسلامية معاملة أفضل مما يلقاه في مجتمعه المسيحي
ويتحدث كِلت في كتابه عن رقيق قضوا وقتاً طويلاً بين المسلمين وتعلموا العربية والتركية، وعملوا كمترجمين، وكثيراً ما كان يستخدمهم المسلمون لإقناع أبناء جلدتهم باعتناق الإسلام.
وأصبح هؤلاء مسلمين من حيث الدين والولاء السياسي، ووظفوا مهاراتهم الحربية لمساعدة الأتراك ضد أبناء ملتهم السابقة، كما اكتسب الأتراك عن طريقهم التكنولوجيا الأوروبية المسيحية التي أثبتت فعاليتها في ساحات المعارك والبحر.
في المسرحيات الإنكليزية… شرير وخصيّ
في عصر الملكة إليزابيث الأولى (1558 – 1603) وما بعده، دأب كتاب المسرحية على تصوير من وصفوهم بالمرتدين بأنهم تجسيد للشر، واستخدموا في ذلك كل ما يقدرون عليه من مؤثرات شعرية لتصوير "الثمن الباهظ" الذي سيدفعه "المرتدون" لتخليهم عن دينهم وخضوعهم للإسلام.
ويذكر مطر أن أول عرض للمسيحي المتحول إلى الإسلام كان في مسرحية توماس كِد "مأساة سليمان وبيرسيدا" عام 1588، وفيها يعتنق باسليكو الإسلام للحظوة بحب امرأة، وهو موضوع يتكرر في الأدب الإنكليزي لتعليل تحول رجال مسيحيين إلى الإسلام، كما أنه كجندي– مثل كثير من الجنود المسيحيين في ذلك الوقت – يحصل على أجر أعلى، ويلقى في الجيوش الإسلامية معاملة أفضل مما يلقاه في مجتمعه المسيحي.
وقصد كِد في مسرحيته أن ينتقد حالة فقر الجنود في إنكلترا، لكنه أراد كذلك أن يحط من قدر الجنود الذين يخدمون المسلمين ويتحولون إلى الإسلام، ولذلك قدم في المسرحية وصفاً لطقوس الختان بأسلوب ساخر كما حين قال "وقصوا قطعة من أرق أعضائي وأحاطوني باحتفالات بهيجة".
وتظهر الصورة التالية في مسرحية هيود "فتاة الغرب الجميلة" (1604- 1610)، حيث انتقلت صورة "المرتد كلم" خطوة أخرى، إذ لم يكن يُختن وإنما يُخصى ليصبح رئيس الخصيان لدى ملك شمال إفريقيا.
وفي مسرحية جون ميسُن بعنوان "التركي" عام 1607 يظهر خصي آخر، لكنه كان إيطالياً لا إنكليزياً.
نهاية ملفقة
في عام 1612، ظهرت مسرحية روبرت دابورن بعنوان "مسيحي يتترّك" أو "مأساة حياة وموت القرصانين الشهيرين وورد ودانسكر"، وفيها يعتنق القرصان وورد الإسلام ليكسب حب امرأة مسلمة، ثم يقدم طقوس تحوله للإسلام على المسرح عبر مشاهد صامتة تُلقي الذهول والفزع في نفوس المتفرجين.
وأحاط المؤلف شخصية المسرحية بالشر، حيث أراد أن يُبيّن عواقب الردة، ولفّق له نهاية مؤلمة، ففي الوقت الذي كانت فيه المسرحية تُمثل في لندن كان وورد الحقيقي في تونس يعيش حياة مرفّهة.
وكان الشائع في إنكلترا أن وورد وصل إلى السلطة والثروة من خلال إسلامه، بل إن الأغاني هناك تغنت بثروته: في تونس بالمغرب/بنى في جلال/قصراً فخماً ومقاماً ملكياً/مزيناً بأبهى زخرف.
وبعد نحو عقد من الزمان، وتحديداً عام 1624، كتب فيليب مسنجر مسرحية "المرتد"، والتي تدور حول خصي إنكليزي اسمه كرازي يكون الخادم الخاص للملكة المسلمة، لكنه يعود إلى المسيحية ليبين مسنجر "انتصاره على الإسلام".
"مُرتد" فاضل
ظلت صورة معتنق الإسلام سلبيّة في الكتابات الإنكليزية إلى أن ظهرت مسرحية جون درايدن بعنوان "دون سباستيان ملك البرتغال" عام 1689، وفيها ظهر النبيل البرتغالي دوراكس في صورة تختلف كثيراً عن الصورة الفجة التي رسمها دابورن ومسنجر، فكان رجلاً فاضل الأخلاق، رفيع المنزلة، سواء عندما أسْلَم أو بعد عودته إلى المسيحية.
ربما يكون السبب وراء هذه الصورة هو أن دارايدن كتب مسرحيته عندما أخذت جاذبية الإمبراطورية العثمانية وقوتها في الانحدار، ومع أن مسيحيين في تلك الفرة اعتنقوا الإسلام إلا أن أعدادهم لم تكن مثيرة للقلق كما كانت في النصف الأول من القرن، ولذلك أصبح في وسع كاتب في إنكلترا – من الناحية النفسية أقله – أن يرى "المرتد" من زاوية تحليلية محايدة.
وبحسب عرض درايدن، فإن دوراكس لم يعتنق الإسلام بسبب إعجابه بالأخير، بل لأنه لقي معاملة سيئة في العالم المسيحي، وهكذا لم يكن دوراكس عند المؤلف منافقاً أو شريراً، بقدر ما كان رجلاً غاضباً نفّره مجتمعه وأراد الانتقام من أبناء ملته، ليعود بعدها إلى المسيحية، معتبراً قراره "انزلاقاً مؤقتاً".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...