عبر ثلاثة مداخل رئيسة هي سوريا والعراق والحبشة، تسربت المسيحية إلى شبه الجزيرة العربية من خلال المبشرين الذين استطاعوا إقناع سادات القبائل باعتناقها بوسائل عدة.
وبحسب الدكتور سميح دغيم في كتابه "أديان ومعتقدات العرب قبل الإسلام" (ص67)، لم تنتشر المسيحية في القرون الثلاثة الأولى انتشاراً مقبولاً بين العرب ولا حتى بين الشعوب الأخرى، فالرومان حاربوها بداية، وكذلك اليونانيون لم يقبلوها وهم الذين لديهم معتقداتهم وفلسفتهم، لكن تنصر الرومان في ما بعد سمح للمسيحية بالانتشار في الغرب أولاً، ثم بين الشعوب التي كانت تجاور الإمبراطورية الرومانية وتخضع لها ومن بينها العرب الذين يقطنون شمالي شبه الجزيرة العربية، ثم باقي أنحائها.
لكن الباحث في التاريخ القبطي الدكتور ماجد عزت إسرائيل يرى أن المسيحية انتشرت في شبه الجزيرة العربية بدءاً من القرن الأول الميلادي، وقد ساهم في ذلك قربها من فلسطين التي شهدت ظهور المسيحية، وهذا ما أتاح لسادات القبائل أن يسمعوا عن معجزات المسيح وتعاليمه، فاعتنقوا المسيحية.
يقول إسرائيل لرصيف22: "من المعروف تاريخياً أن القديس توما قام بالتبشير في بلاد الهند وشرق آسيا، وربما تكون الجزيرة العربية من المناطق التي مرّ بها وبشّر فيها وهو في طريقه".
الطب ووسائل الإقناع
يذكر الدكتور محمد سهيل قطوش في كتابه "تاريخ العرب قبل الإسلام" أن بعض النُسّاك والرهبان دخلوا إلى الجزيرة العربية للعيش فيها بعيداً عن ملذات الحياة، وبفضل ما كان لهم من علم ومعرفة بالطب والمنطق ووسائل الإقناع وكيفية التأثير في النفوس، تمكنوا من استقطاب بعض سادات القبائل، فأدخلوهم في دينهم أو حصلوا منهم على المساعدة لحمايتهم.
وبحسب قطوش، "نُسب تنصّر بعض سادات القبائل إلى مداواة الرهبان لهم ومعالجتهم حتى تمكنوا من شفائهم مما كانوا يعانون من أمراض، ونسبوا ذلك إلى فعل المعجزات والبركات الإلهية".
حصل ذلك مع ملك الحيرة النعمان بن المنذر (582- 609) على يد الراهب مار أيشو عزخا الذي أخرج الشيطان من جسده وفق ما يُروى، كما شفوا النساء العقيمات من مرض العقم، ومن سادات القبائل من توسل إلى الله أن يهب له ولداً ذكراً فاستُجيبت دعوته، كما حدث لسيد قبيلة الضجاعمة الذي دخل بسبب ذلك في النصرانية وتعمّد هو وأفراد قبيلته، وفق قطوش.
ويذكر الدكتور جواد علي في كتابه "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام" أن تواريخ الكنيسة تتضمن قصصاً عن أمثال هذه المعجزات المنسوبة إلى القديسين، مثل القديس سمعان العامودي (المولود نحو سنة 392).
وكانت الاعتقاد بالمعجزات تلك سبباً في تنصّر عدد من الأمراء وسادات القبائل، وبسبب تنصرهم دخل كثير من أتباعهم في هذا الدين، كما حصل حسب الروايات مع القديس أفتميوس الذي نصّر جمعاً من الأعراب وأسكنهم في أماكن خاصة أنشأ فيها كنائس أطلق عليها في اليونانية ما معناه "المحلة" أو "المعسكر".
ولا يستبعد علي أن يكون المبشرون قد أدخلوا النصرانية إلى اليمن عن طريق الحجاز، فقد كانوا ينتقلون بين العرب لنشر هذا الدين، وليس بمستبعد أيضاً أن تكون قد دخلت عن طريق الساحل أيضاً مع السفن، فقد كان المبشرون ينتقلون مع البحارة والتجار لنشر النصرانية، وقد تمكنوا بمعونة الحكومة البيزنطية من تأسيس جملة كنائس على سواحل جزيرة العرب.
ولا يُستبعد أيضاً أن يكون للمبشرين الذين جاءوا من العراق دور في إيصال النصرانية إلى اليمن، وفق علي.
وحسب ما يذكر الأب جرجس داود داود في كتابه "أديان العرب قبل الإسلام ووجهها الحضاري والاجتماعي"، فإن السبب المباشر لمجيء حملة أبرهة إلى اليمن على ما يبدو هو قتل أهل نجران النصارى الذين بشرهم فيمون، على يد ذي نواس الحميري اليهودي المتعصب، المعروف بصاحب الأخدود الذي ورد ذكره في القرآن الكريم في سورة "البروج".
"بعض النُسّاك والرهبان دخلوا إلى الجزيرة العربية للعيش فيها بعيداً عن ملذات الحياة، وبفضل ما كان لهم من علم ومعرفة بالطب والمنطق ووسائل الإقناع وكيفية التأثير في النفوس، تمكنوا من استقطاب بعض سادات القبائل"
"لم ينفصل عمل المبشّرين عن الظروف السياسية آنذاك... الرومان والبيزنطيين كان بينهما صراع شرس على مد نفوذهما في شبه الجزيرة العربية"، فكيف جرى التبشير بالمسيحية في تلك المنطقة قبل الإسلام؟
وبحسب داوود، "كان من بين سكان مكة عند ظهور الإسلام، غرباء مستوطنون بعضهم من النصارى، ومن المرجح أنهم دخلوا هذه المدينة تجاراً ومبشرين وحرفيين وأرقاء، وكان بعضهم يعرف القراءة والكتابة، ولا يُستبعد أن يكونوا قد أثروا في محيطهم ونصّروا البعض من أهل مكة، فقد كان الناس يختلفون إلى مجالسهم ومساكنهم لسماع قصص الأقدمين من الأنبياء".
ولم يعبأ المبشرون بالمصاعب والمشقات، فتوغلوا في عمق أراضي الجزيرة العربية، ومنهم من رافق الأعراب وعاش في كنفهم في الخيام، فعُرفوا بأساقفة الخيام، وأساقفة أهل الوبر، وأساقفة عرب البادية وغيرها، وفق ما ذكر قطوش.
المبشرون النساطرة
بعد استقرار المسيحية في بعض القبائل، اتجه بعض المبشرين إلى الترويج لمذهبهم، مثلما فعل النساطرة (يعتقدون أن للمسيح طبيعتين لاهوتية وناسوتية)، إذ اتخذوا من الحيرة (مدينة تاريخية قديمة تقع في جنوب وسط العراق وهي عاصمة المناذرة وقاعدة ملكهم) مركزاً لانطلاق حركتهم التبشيرية، فاتبعوا طرق التجارة الداخلية والساحلية ونشروا النصرانية في شرق الجزيرة العربية، وهكذا دخلت إلى هذه المنطقة العربية من العراق، بحسب قطوش.
ويذكر قطوش أن أول إشارة إلى مبشّر في الساحل الشرقي للجزيرة العربية يدعى عبد يسوع، وهو عربي درس اللاهوت في المدرسة اللاهوتية في "فوني" على الضفة الغربية لنهر دجلة، لكنه فشل في مهمته، فعاد إلى الحيرة وأنشأ فيها أول مجموعة نسطورية من الرهبان، وذلك في النصف الثاني من القرن الرابع، ثم أضحى للنصرانية النسطورية مع مرور الزمن أتباع في البحرين وهجر (تقع شرقي الجزيرة العربية ومكانها الحالي مدينة الاحساء السعودية) وقطر وعمان وبعض جزر الخليج.
الأديرة والتبشير
لعبت الأديرة أيضاً دوراً مهماً في التبشير بالمسيحية بين التجار العرب والأعراب، كما ذكر إسرائيل شارحاً أن مصر عرفت الرهبنة في القرنين الثالث والرابع الميلاديين، وهذا ما أدى إلى انتشار الأديرة في بقاع عديدة من الصحراء، منها صحراء شبه الجزيرة العربية التي ذهب إليها الرهبان للتعبد.
وشرح علي في كتابه أن التجار العرب "وجدوا في أكثر هذه الأديرة ملاجىء يرتاحون فيها ومحلات يتجهزون منها بالماء، كما وجدوا فيها أماكن للهو والشرب، يأنسون بأزهارها وبخضرة مزارعها التي أنشأها الرهبان، ويطربون بشرب ما فيها من خمور ونبيذ معتق امتاز بصنعه الرهبان، وقد بقيت شهرة تلك الأديرة بالخمور والنبيذ قائمة حتى في أيام الإسلام".
من الرهبان ومن قيامهم بشعائرهم الدينية، عرف التجار العرب شيئاً عن ديانتهم وعما كانوا يؤدونه من شعائر، بينما كان الرهبان يحملون المصابيح بأيديهم لهداية القوافل في ظلمات الليل.
ومن الرهبان ومن قيامهم بشعائرهم الدينية، عرف التجار العرب شيئاً عن ديانتهم وعما كانوا يؤدونه من شعائر، بينما كان الرهبان يحملون المصابيح بأيديهم لهداية القوافل في ظلمات الليل.
وبحسب علي، انتشرت هذه الأديرة حتى في المواضع القصية من البوادي، وكانت تتلقى الإعانات من كنائس العراق والشام ومن الروم، حتى تمكنت من التبشير بين أكثر القبائل.
صراع الإمبراطوريات
لم ينفصل عمل المبشرين بحال من الأحوال عن الظروف السياسية آنذاك.
وذكر رئيس مجلس الإعلام والنشر في الكنيسة الإنجيلية المشيخية الدكتور إكرام لمعي لرصيف22، أن الرومان والبيزنطيين كان بينهما صراع شرس على مد نفوذهما في شبه الجزيرة العربية، وكذلك المناطق المجاورة لها خاصة في غرب آسيا وجنوب شرقها، بهدف السيطرة على طرق التجارة العالمية.
وانعكس هذا الصراع بشكل مباشر على رغبة كل من الإمبراطوريتين في نشر المسيحية في شبه الجزيرة العربية، فأرسلت كل إمبراطورية عدداً من المبشرين، ووفرت لهم كل الإمكانات والتسهيلات التي يحتاجونها لأداء مهماتهم.
ويروي قطوش أن الإمبراطور البيزنطي قسطنطينوس الثاني أرسل عام 354 بعثة نصرانية إلى ملوك حمير في اليمن، برئاسة ثيوفيلوس آندس، لتوطيد النفوذ البيزنطي السياسي والديني، ونجح في إنشاء كنيسة في عدن وأخرى في ظفار وثالثة في هرمز، وعيّن للمتنصرين رئيساً ثم رحل.
وأضحت ظفار عام 356 مقراً لرئيس أساقفة يشرف على شؤون نصارى نجران وهرمز وسقطرى.
ويذكر علي أن البيزنطيين بنوا الكنائس الفخمة الجميلة على طراز فني أنيق جميل غير معروف بين من سيُبشرون بهذا الدين، وبذلك تبهر عقولهم فيشعرون أن للدين الجديد مزايا ليست في دينهم، وأن معابده أفخم من معابدهم، ورجال دينه أرقى من رجال دينهم، وبذلك يأتون إليها.
"سعت القسطنطينية لنشر المسيحية بين العرب، وعملت كل ما أمكنها عمله للتأثير على سادات القبائل لإدخالهم في دينها، بدعوتهم لزيارة كنائسها، وبإرسال المبشرين اللبقين إليهم لإقناعهم بالدخول فيها".
في المقابل، "سعت القسطنطينية لنشر المسيحية بين العرب، وعملت كل ما أمكنها عمله للتأثير على سادات القبائل لإدخالهم في دينها، بدعوتهم لزيارة كنائسها، وبإرسال المبشرين اللبقين إليهم لإقناعهم بالدخول فيها، وبإرسال الأطباء الحاذقين إليهم لمعالجتهم وللتأثير عليهم في اعتناق النصرانية، كما دعتهم لزيارة العاصمة لمشاهدة معالمها ولإبهار عقولهم بمشاهدة كنائسهم والاتصال برجال الدين فيها لتعليمهم أصول النصرانية، وأظهروا لهم مختلف وسائل المعونة والمساعدة إن دخلوا في ديانتهم"، حسب كتاب علي.
ويشير قطوش إلى أن رؤساء الكنائس اهتموا بنشر النصرانية في بلاد الشام والجزيرة العربية، بهدف تنمية موارد الكنيسة بما يتدفق على خزائنها من هبات وتبرعات، وهو ما يصب في النهاية في زيادة نفوذها.
التجارة والرقيق
عدا التبشير، دخلت المسيحية لشبه الجزيرة العربية عن طريق التجارة كذلك.
وبحسب إسرائيل، لعبت القوافل التجارية التي كانت تأتي من الشمال- حيث مملكة الغساسنة في الشام- إلى الجنوب- حيث نجران واليمن - أو العكس دوراً كبيراً، إذ تعامل العرب مع التجار المسيحيين وتأثروا بهم.
وفي هذا السياق، لعب الرقيق الأبيض المجلوب من فارس وبيزنطة دوراً أيضاً، بحسب قطوش الذي يشرح كيف "وُجد في مكة والطائف ويثرب ومواضع أخرى رقيق نصراني كان يقرأ ويفسر العهدين القديم والجديد ويقص على العرب قصصاً نصرانية، وتمكن بعضهم من إقناع بعض العرب بالدخول في النصرانية، ومنهم من أثّر في بعضهم فأبعدهم عن الوثنية لكنه لم يفلح في إدخالهم في دينه".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...