"لو كنتُ قائداً عربيّا، لن أقبل أبداً بعقد اتفاقيّة مع إسرائيل، هذا شيء طبيعي، لقد أخذنا أرضهم... صحيح أنّ الربّ وعدنا بهذه الأرض، لكن كيف يمكن أن يعنيهم هذا الأمر بشيء، فإلهنا ليس إلههم. كانت هناك اللاساميّة، والنازيّة، وهتلر، وأشوفيتس... لكنّ ليس لهم ذنب في كلّ هذا. فهم لا يرون إلا شيئا واحدا : أنّنا أتينا وقمنا بسرقة أرضهم، فلماذا عليهم إذن أن يقبلوا بما قمنا به".
هذه كلمات دافيد بن غوروين نفسه، مؤسّس إسرائيل ورئيس وزرائها بين عاميّ 1955 وعام 1963، ذكرها لنا السياسيّ والكاتب الإسرائيليّ ناهوم غولدمان في كتابه "التناقض اليهودي" le paradoxe juif. واقتبس الفيلم الوثائقيّ "الدبّابة وشجرة الزيتون : تاريخ آخر لفلسطين" Le char et l’olivier : une autre histoire de la Palestine، والذي هو موضوع مقالنا، مطلع هذه المقولة التاريخيّة المفتاحيّة، لتظهر على الشاشة في المشهد الأول من هذا الفيلم الوثائقيّ التاريخيّ الذي قام بإخراجه المخرج الفرنسيّ رولان نورييه Roland Nurier.
كيف يطرح الفيلم مشروع إسرائيل الاستيطاني في فلسطين؟
يقدّم لنا الفيلم كما تشير مجلة "تليراما" Téléramaالثقافيّة الأسبوعيّة الفرنسيّة" تاريخ فلسطين منذ القدم حتى اليوم، بعيداً عما تكتفي وسائل الإعلام بوصفه النزاع الفلسطينيّ الإسرائيليّ le conflit israélo-palestinien، وهذا من خلال متخصّصين دوليين ومؤرّخين ودبلوماسيين في الأمم المتّحدة والقانون الدوليّ، وهناك أيضاً شهادات لمواطنين عاديين. وهي إضاءة أساسيّة تعتمد على عناصر حقيقيّة لا يمكن تجاهلها، تساعدنا على التخلّص من الكليشيهات ومن الأفكار الجاهزة". وقد تمّ إنتاج هذا الفيلم العام الماضيّ، وكان عرضه السينمائيّ الأول في 16 أكتوبر 2019، وتصل مدّته إلى ساعة و41 دقيقة.
يقدم فيلم رولان نورييه إضاءة جوهرية تعتمد على عناصر حقيقية لا يمكن تجاهلها عن تاريخ فلسطين منذ القدم حتى اليوم، تساعد على تخليص المشاهد من الكليشيهات والأفكار الجاهزة عما يسمى "بالنزاع العربي الإسرائيلي
أما المتحدّثون في هذا الفيلم الوثائقيّ فهم: دومينيك فيدال، الكاتب والصحفيّ المتخصّص في دراسات الشرق الأوسط، وبيير ستامبول الناشط في الاتحاد اليهوديّ الفرنسيّ من أجل السلام، وألن غريش، الصحفيّ الفرنسيّ ورئيس تحرير سابق لجريدة اللموند ديبلوماتيك، ومؤسّس صحفية إلكترونيّة مختصّة بشؤون الشرق الأوسط "أوريون XXI"، وأيضاً إلياس صنبار، الكاتب والمؤرّخ وسفير فلسطين في اليونسكو، وميشيل وارشوسكي، الناشط وداعية السلام الراديكاليّ الشيوعيّ الإسرائيليّ، وكذلك ليلى شهيد التي كانت سفيرة فلسطين في فرنسا، ثمّ لاحقاً سفيرة فلسطين لدى الاتحاد الاوروبيّ، بالإضافة لبعض الناشطين في الدفاع عن الحقوق الفلسطينية.
ويعرض الفيلم السياق التاريخيّ الذي نشأت فيه فكرة بناء وطن قوميّ لليهود في فلسطين بدءاً من هيرتسل، ووعد بلفور، ومروراً بعام 1948 حتى وقتنا الحاضر، لنشاهد صوراً من الأرشيف للمخيّمات وأطفال المدارس ومن حياة المدن الفلسطينيّة في بداية ومنتصف القرن. ويقدّم خرائط وأرقاماً محدّدة بشكل دقيق يظهر مهنيّة عاليّة في عرض المعلومات وتتابعها ليعطي صورة واضحة لما جرى في الواقع، دحضاً وتقويضاً لأيّ ادّعاء بأنّ هذه القضيّة، الفلسطينيّة الإسرائيليّة، معقّدة ومن غير السّهل الدخول في غمارها والخروج بخلاصات واضحة والحصول على بيّنات تاريخيّة قاطعة. فتعقيد المسألة وتشويش كافة جوانبها هدف خفيّ ومعلن لسياسات إسرائيل التي تخلط الأوراق أمام المشاهد الغربيّ وتربكه في الحصول على تحليلات معمّدة بالحقائق من خلال اللعب بالتاريخ وتهميش تفاصيل وأحداث، وإضاءة أخرى، وعدم التورّع عن اختلاقها عند الضرورة.
الخرائط والأرقام والمعلومات المؤرشفة التي يعرضها فيلم "الدبابة وشجرة الزيتون" عن حياة الأطفال في المدن والمخيمات الفلسطينية لا تترك مجالاً للشك أمام المشاهد الغربي في مشروع إسرائيل الكولونيالي الاستيطاني
انتقادات للفيلم في الصحف الفرنسية
الفيلم مكوّن من مقابلات صحفيّة مع المتحدثين، ثمّ صور ومشاهد تظهر قسوة الواقع سواء كان في المخيمات أو في المدن، وتعكس المراحل المختلفة التي مرّت عليها القضيّة الفلسطينيّة. وهدف الفيلم، أولا، مواجهة العبارة المألوف سماعها في الغرب "هذه القضيّة معقّدة، لا أفهم شيء مما يجري" كما أشار المخرج. وثانياً أن يبيّن لنا بالدلائل القاطعة أن الخطاب الصهيونيّ الذي أسّس لدولة إسرائيل هو في جوهره مشروع كولونياليّ استيطانيّ، لذا فالمعضلة ليست مجرد خلاف بين الفلسطينيين والإسرائيليين كما تصوّره غالباً وسائل الإعلام الأوروبيّة، بل أعمق من ذلك.
بعض الصحف الثقافيّة الفرنسيّة، والمتخصّصة منها في السينما، تناولت هذا الفيلم من زوايا نظر مختلفة. الصحيفة "جون أفريك" Jeune Afrique، ذات الميول اليساريّة، ومحدودة الانتشار مقارنة مع صحيفة تليراما، عبّرت بقلم الصحفيّ رونو واشبرون عن رأيها بهذا الفيلم الذي اعبرته في نهاية المطاف لا يقدّم إلا وجهة نظر من جانب واحد، قائلةً إنّه "لن يفيد ويقنع إلا المقتنعين أصلاً، فسيجدون بلا شكّ في ثناياه ما سيعزّز من قناعاتهم، وسيشكّل (سلاحاً سينمائيّا) لكي يرافق ويصحب نضالهم من أجل الفلسطينين. لكنه سلاح لن يساعدهم في إقامة جدال مع أعدائهم الفعليين، الذين لم تُعرض حججهم أمامنا، سواءً كانت صحيحة أم لا". فيبدو لها أنّ الفيلم "موجّه" ويفتقد للشمول.
صحيفة جون أفريك: الفيلم موجه ويفتقد للشمول، لأنه لا يعرض حجج الإسرائيليين
ومع أنّ عرض وجهات النظر المتناقضة مسألة منطقيّة وضروريّة في عرف الصراعات، تماما كما أشارت الصحيفة، إلا أنّ الحقيقة التي غابت عن بالها هي أنّ هدف هذا الفيلم هو إسماع الرواية الفلسطينيّة التي لا صوت لها في الإعلام الأوروبي، والتي تمّ تجاهلها وتهميشها لعقود طويلة، بينما تمّ بالمقابل إعطاء مساحة شاسعة للرواية الاسرائيليّة، التي يتكرّر صداها على معظم ومختلف المنابر العالميّة.
إضافة لذلك، يبدو أنّ قدر فلسطين تاريخاً وجغرافيا، كلما تمّ الحديث عنها صار لزاما في عرف الصحافة والسياسة الدوليّتين ذكر وجهة النظر المعارضة والمناقضة لها. مثل أن يُفرض عليكَ في كل مرّة تَذكُر فيها اسمك أن تذكر اسم عدوّك كي تحصل مقولتك على المصداقيّة والتقبّل من الآخرين ! مثلما يمكن أن يلاقي عملك الفنيّ تقبلا ومصداقيّة أكبر كلما جمع فلسطينيّا وإسرائيليّا.
صحيح أنّ أحداث التاريخ يمكن أن تُقرأ من زوايا متعدّدة وتأخذ تفسيرات مختلفة، وربما متناقضة أحياناً، لكن كيف يمكن أن تجد تفسيرا آخرا لما حدث في 1948 غير أنّه تطهير عرقيّ وتفريغ بلد من حاضره وتاريخه ليحلّ محله شعب آخر ؟ ما هي النظريّات والتوجّهات المعاصرة في دراسات التاريخ التي يمكن أن تتجاوز أو تهمّش أو تبرّر حقيقة مسح أكثر من 500 قرية فلسطينيّة عن وجه الأرض بعد عام 1948 ؟
ربما لهذا السبب بالذات أنّ أكثر المثقفيْن الإسرائيلييْن راديكاليّة في طرحهم، ومساندةً للرواية الفلسطينيّة هم عموما المؤرّخون، وليسوا الشعراء، ولا الروائيين، ولا السينمائيين رغم وجود بعضهم. وهذا ما نجده بشكل خاص لدى المؤرخين الجدد، كإيلان بابييه وشلومو ساند وآخرون. بالإضافة لذلك فالرأي الآخر ليس غائب تماما في الفيلم، من خلال الاستشهاد بأقوال بن غوريون ذاته. وحقيقة أنّ معظم المتحدّثين من أصول يهوديّة، أهمهم الصحفيّ الفرنسيّ ألن غريش الذي هو ابن ناشط شيوعي قديم تعرّض للإغتيال في باريس، وأيضا ميشيل وارشوسكي ودومينيك فيدال، وبيير ستامبول الذي هو كما ذكرنا ناشط في الاتحاد اليهوديّ الفرنسيّ من أجل السلام ! وفي نهاية المطاف، فإنّ كلّ الأرقام والإحصائيّات المذكورة تستطيع التأكّد من دقّتها ووضوحها لأن مصادرها مذكورة وموثّقة بالصوت والصورة والشواهد.
وإذا كان هدف الصحيفة محاولة إيجاد وجهات نظر "متوازنة" تقرّب من آراء الطرفين بشكل أو بآخر، فإنّ صعوبة تحقيق ذلك تعود لسبب أكثر عمقا، فمن الصعب الحياد اتجاه أحداث تاريخيّة مريعة كهذه، لاسيما بالنسبة لمختصين دولييْن ومؤرخيْن ذي مصداقيّة ومهنيّة، وهنا تكمن المعضلة في الأساس. فأمام مشروع كولونياليّ كهذا، يقول ميشيل وارشوسكي، أحد المتحدثين في الفيلم "أنّ مجابهة الاحتلال ليس حقّا بل واجبا".
"فيلم سيزعج البعض ويريح البعض الآخر"
صحيفة "باستا" Basta عن الفيلم: "يقدّم مفاتيح لجمهور يرغب بامتلاك أدوات للفهم كي يستطيع بالتالي تكوين رأيه الخاص"
بالمقابل فقد أشادت بالفيلم أكثر من صحيفة إلكترونيّة وورقيّة إلى جانب صحيفة "تليراما" كما ذكرنا الذي جاء فيها بقلم أحد صحفييها ماتيلد بلوتيير "بأنه فيلم مذهل في دقّته"، فأشادت الصحيفة الإلكترونيّة الراديكاليّة "باستا" Basta بالفيلم وأشارت أنّه "يقدّم مفاتيح لجمهور يرغب بامتلاك أدوات للفهم كي يستطيع بالتالي تكوين رأيه الخاص". بينما وصفته الصحيفة السينمائيّة "ليفيش دو سينما" Les fiches du cinéma بقلم الصحفيّ كائيل ريير أنّه "فيلم بلا شك كثيف، بمفردات راديكاليّة، سيزعج البعض ويريح البعض الآخر".
آراء وتعليقات المشاهدين المكتوبة على الصفحة الإلكترونية "ألو سيني" Allocinéتشيد في معظمها بدقّة وعمق وشموليّة المعلومات التي يقدّمها لنا المخرج بوضوح وبمنهجيّة، تتقاطع فيها القدرات السينمائيّة مع البحث التاريخيّ. وقد جاء في تعليق أحد المشاهدين "هذه قصّة فلسطين الحقيقيّة التي لا تحتمل أن تكون كاذبة، فهي تُروى من قبل مجموعة مثقفين من خلفيّات متعدّدة، وهذا أيضا الشيء ذاته بخصوص صور الحرب الموثّقة".
هذا الفيلم الجريء الذي انتهت فترة عرضه في الصالات السينمائيّة، من الممكن مشاهدته من خلال استئجاره أو شرائه عن طريق الصفحة الإلكترونيةVOD ، وهو اذا كان يعمّق من قناعات المقتنعين أصلا، فإنه سيشكّل بالنسبة للفضوليين، الباحثين عن الحقيقة التاريخيّة، مصدرا لقلب وجهات النظر التي تم تشرّبها ببطء، من خلال وسائل إعلام فرنسيّة وأوروبيّة تحاول غالبا البحث عن معادلة من التوازن في عرض وجهات النظر في أحس الأحوال.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 19 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين