تلعب الألوان دوراً مهماً في حياتنا وتترك تأثيراً قوياً على مزاجنا وعواطفنا. لكلّ لون معناه الخاص والذي يكون إدراكه اللوني هو نفسه تماماً في جميع الثّقافات. جميعنا سمعنا عن مدينة شفشاون المغربية ذات اللون الأزرق والتي يعود سبب طلائها باللون الأزرق إلى القرن الخامس عشر عندما بدأ اليهود نزوحهم من إسبانيا بسبب محاكم التفتيش، وعندما سكنوا مدينة شفشاون قاموا بطلاء منازلهم بلون السماء ليذكرهم دوماً باللّه، فتحوّلت المدينة تدريجياً الي اللون الأزرق وحافظ السكّان الأصليون عليه، لكن شفشاون ليست وحدها المدينة الزرقاء في العالم، إنما هي الأكثر شهرة.
في ولاية راجستان الهندية وعلى بُعد حوالي 350 كيلو متر تقع مدينة جودبور "المدينة الزرقاء" وهي إحدى مدن راجستان والتي تأسست حوالي عام 558، ويقال إنه تمّ اكتشافها من قبل "راو جودا" رئيس عشيرة راثور والملك الخامس عشر لجودبور عام 1495، وسمّيت المدينة على اسمه وقبلها كان اسمها "مروار"، وهي ثاني أكبر مدينة في ولاية راجستان.
وتعدّ زيارة جودبور جزءاً من رحلة المثلث الذهبي، وهو مسار سياحي شهير يتضمّن زيارة ثلاث مدن؛ نيودلهي، أجرا، وجايبور، عاصمة ولاية راجستان وأكبر مدنها، ويطلق عليها "رحلة المثلث الذهبي" لأن السفر إليها يأخذنا في رحلة تشبه المثلث.
"اللورد شيفا"، أحد الآلهة الهندوسية، والذي يظهر في أغلب الصور بجلد أزرق، وأغلب سكان المدينة من أتباع اللورد شيفا قاموا بطلاء منازلهم بالأزرق تشبهاً به
لكن ما الدافع الذي يدفع مدينة باكملها إلى طلاء مبانيها وشوارعها باللون الأزرق؟ المدن الزرقاء في العالم لديها سبب محدد لطلائها باللون الأزرق عكس جودبور التي لا يُعرف تحديداً سبب طلائها بهذه اللون، وهناك العديد من النظريات والأسباب التي تفسر سبب طلائها بالأزرق؛ إحدى هذه النظريات هي أن جودبور كانت موطناً للعديد من "البراهمه" والذين يعَدّون أعلى فئة في نظام الطبقات في الهند (الطبقة العُليا ورجال الدين)، ويقال إن البراهمه قرروا تلوين بيوتهم باللّون الأزرق حتى يتميزوا عن غيرهم في المدينة.
ويبدو أن هذا الاعتقاد ليس صحيحاً لأن هناك طبقات أخرى تعيش بجوارهم وأن السّكان المحليين أنفسهم قرّروا تلوين بيوتهم لإبقائها أكثر برودة بسبب طقسها المشمس طوال العام، والذي يزعمون أن إله الشمس، "سوريا"، يقيم هناك لفترة طويلة. يعدّ هذا أحد الأسباب البارزة لطلاء المنازل باللّون الأزرق. وهناك نظرية أخرى تتحدث عن "اللورد شيفا" أو "الربّ شيفا"، أحد الآلهة الهندوسية، والذي يظهر في أغلب الصور بجلد أزرق، وأغلب سكان المدينة من أتباع اللورد شيفا قاموا بطلاء منازلهم بالأزرق تشبهاً به.
واياً كان السبب فقد أصبحت المدينة وجهة سياحة هامة بفضل لونها النابض بالحياة ومعالمها السياحية وتصميماتها المذهلة التي تمزج بين العديد من أنماط البناء، كقلعة "مهرانغاه" التي بُنيت عام 1459، وتقع على ارتفاع 400 قدم فوق المدينة، وهي واحدة من أكبر الحصون في الهند، وقصر "أوميد بهوان" الذي تمّ بناؤه من قبل مهراجا أوميد سينغ عام 1929، واكتمل تشييده عام 1943 على أعلى نقطة في المدينة. ويعتبر هذا القصر واحداً من أكبر وأجمل المساكن في العالم، فهو يضمّ 347 غرفة نوم، كما أنه مزيج من التأثيرات المعمارية الشرقية والغربية، ويوفر إطلالة رائعة على المدينة الزرقاء، ما يمكّن الزائرين من التقاط صور رائعة، وأيضاً ضريح "جاسوانت ثادا" الذي بُني عام 1899 من قبل مهراجا سردار سينغ تخليداً لذكرى والده مهراجا جاسوانت سينغ الثاني.
تعدّ زيارة جودبور جزءاً من رحلة المثلث الذهبي، وهو مسار سياحي شهير يتضمّن زيارة ثلاث مدن؛ نيودلهي، أجرا، وجايبور، ويطلق عليها "رحلة المثلث الذهبي" لأن السفر إليها يأخذنا في رحلة تشبه المثلث
يتميّز ضريح "جاسوانت ثادا" بمنحوتاته المعقده وحديقتة المتعددة المستويات وشرفاته وبركته الرائعة ، وحدائق "ماندور" الشهيرة التى تحتوي على متحف كبير يضمّ قطعاً أثرية وتماثيل وأعمدة منحونة بشكل معقد، وغيرها من الأماكن الخلابة إلى جانب مهرجاناتها الشعبية التي تقام كل عام.
أعادت جودبور إلى ذاكرتي رحلتي إلى مالانج في مقاطعة جاوة الشرقية في إندونيسيا، عندما زرتُ عن طريق الصدفة قريةً اسمها "كامبونغ بيرو أريما" وكانت هذه القرية ملفتة جدّاً، فقد كانت كلّها زرقاء، وعرفت أنها تمّ طلاؤها حديثاً باللّون الأزرق المطابق للون فريق "أريما" لكرة القدم بعد أن كانت قبل بضع سنوات واحدة من أكثر الأحياء العشوائية فى إندونيسيا وعلى وشك الهدم حتى توصل مجموعة من طلاب الجامعات المحلية إلى حلّ بديع غيّر مسار الحيّ بأكمله عن طريق تجديد المدينة وطلائها باللون الأزرق لتجذب الأنظار ويصبح المكان واحداً من أهمّ مواقع الجذب السياحي في مالانج. وبدأ الطلاب بالفعل في تجديد المدينة وكان ذلك في إبريل عام 2017، فرسموا القرية بأكملها.
تجاور هذه المدينة قرية أخرى تسمّى "كامبونج وارنا-وارني جوديبان" وهي أيضاً كانت قرية مهملة مثلها مثل "كامبونج بيرو أريما" وقام الطلاب بتلوينها بالألوان المتعددة ليس فقط جدران المنازل، بل أيضاً الشارع بأكمله، والسلالم، والممرّات، وأضافوا الجداريات والمظلات المعلقة فوق الممرّات ليصبح كلّ شيء مليئاً بالألوان لتشبه قوس قزح.
ولم يتوقف الطلاب عند هذا الحدّ بل قاموا أيضاً بتثقيف السكان حول طرق التخلص من النفايات بدلاً من رميها في النهر وقاموا بوضع صناديق للقمامة في كل مكان بالقرية، وكذلك المراحيض العامة وموقف للسيارات حيث يسهل الانتظار للحافلات السياحية.
وساهم هذا التطور في تعزيز الدخل الاقتصادي لتلك القرية من خلال بيع السّلع والأطعمة والهدايا التذكارية محلية الصُنع للسُّياح والمحليين الذين يأتون لزيارتهم.
بهذه الألوان الناصعة أصبحت هذه القرى والمدن من أهمّ الوجهات السياحية في مالانج وجودبور، ودليلاً على أن الألوان والفن والإبداع يمكن أن تغير الحياة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...