شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
إلى بيروت التي وُلدت لاجئة فيها صدفة: لماذا تنكرينني؟

إلى بيروت التي وُلدت لاجئة فيها صدفة: لماذا تنكرينني؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 4 أبريل 201904:10 م

"صباح الخير يا بيروت،

أعلم أنّك تعرفينني جيّداً وتحفظين ملامح وجهي وتفاصيلي، حتّى وإن قلتِ غير ذلك.

قرّرتُ أن أكتب إليك، بعد أن جرّبتُ شعور البعد عنك لوقت قصير. كانت هذه الأيام كفيلة لأن أشتاق إلى طرقاتك التي رسمتُ عليها خُطاي، ولبحرك الذي اعتدت السكن بجانبه. اشتقتُ يا بيروت إلى ازدحام شوارعك صباحاً، وانقطاع الكهرباء عنك كلّ يوم، اشتقت لطقسك المتقلّب الذي يُشبه مزاجي.

عدت إليك بلهفةٍ كبيرة، كأنني نسيت كل ما عانيته فيكِ، كنتِ أوّل من احتضنني حين ولدتُ فوق ترابك، كبرتُ إذن فيكِ، درستُ في مدارسك، أكلتُ من خيرات زرعك، كتبتُ أحلامي على حائط مدرسة الأونروا التي بُنيت فوق أرضك، وشربتُ من مائك العذب. أحببتُ أوّل مرّة واحداً من أبنائك، وتلوّن لساني بالكثير من كلامك، تحمّلتُ ويلات الحروب فيك، كبرتُ على حرب تموز ثمّ على التفجيرات المتتالية، حفظتُ تاريخك عن ظهر قلب، من يوم نشأة دولة لبنان الكبير إلى يومنا هذا.

أعرف الكثير عنك وأعتقد أنّك تعرفين كل شيء عنّي. تعرفين يا بيروت أنّني لم أختر أن أكون هنا بإرادتي، ولم أختر طريقة لجوئي إليك، أنا فقط ولدت هنا، بلقب لاجئة ورثته عن والديَّ اللذين بدورهما ورثاه عن والديهما، أترين؟! كلّ هذا كان خارج إرادتي.

منذ أسبوع، حطّت الطائرة في مطار بيروت الدولي، وحطّ قلبي معها بين يديك.

كنت أُمسك بجواز سفري الأزرق كأنّه كل ما تبقى لي في هذه الحياة. الجميع يعتقد أنّني أنتمي إليك إذ أحمل جواز سفرٍ أزرق عليه أرزة لبنانيّة، الجميع، إلّا نحن يا عزيزتي، يعرف بأنّنا منك ونعود إليك. وقفتُ حائرة عند الأمن العام، لا أدري في أي اتجاه أمضي: على يميني تقف الشقراوات صاحبات القامات الممشوقة، واللواتي لا يفقهن شيئاً باللغة العربيّة، أمّا على يساري، كان أولادك فقط.

وقفتُ أنا في المنتصف، لا أدري في أي اتجاه عليّ أن أسير. وددتُ لو كان هناك ضابط أمنٍ في الوسط، ليساعدني ويعرّفك عليّ ويذكّرك بي. على اليسار ورقة كُتب عليها "اللبنانيّون فقط"، ومن هم اللبنانيّون يا بيروت؟ هل هم أولادك الذين خلقوا من رحمك، وحملوا بالصدفة البحتة، أوراقك الثبوتيّة وعرّفوا أنفسهم أمام العالم، بأنهم أحفاد الفينيقيين وأنهم ينتمون إلى كلّ شارعٍ فيك؟ وماذا عنّا نحن الذين خلقنا بين يديك؟

صوتٌ قويٌّ أيقظني من حلمي ودفعني لأقف في صفّ الشقراوات، حينها أدركت أنّه كان عليّ الصراخ عالياً عندما صرت في صفٍّ واحدٍ، مع من يزورك الآن لأوّل مرّة ولا يعرفك..."

أعرف الكثير عنك وأعتقد أنّك تعرفين كل شيء عنّي. تعرفين يا بيروت أنّني لم أختر أن أكون هنا بإرادتي، ولم أختر طريقة لجوئي إليك، أنا فقط ولدت هنا، بلقب لاجئة ورثته عن والديَّ اللذين بدورهما ورثاه عن والديهما.

 ومن هم اللبنانيّون يا بيروت؟ هل هم أولادك الذين خلقوا من رحمك، وحملوا بالصدفة البحتة، أوراقك الثبوتيّة وعرّفوا أنفسهم أمام العالم، بأنهم أحفاد الفينيقيين وأنهم ينتمون إلى كلّ شارعٍ فيك؟ وماذا عنّا نحن الذين خلقنا بين يديك؟

لبيروت، هذه المدينة الغريبة التي تحتضن الجميع أنتقي كلامي وأكتبه هنا، لا أريد معاتبتها على أيّة حال، أظنّها تعلم الكثير عنّي لكنّها لا تستطيع فعل شيء. بيروت تعرف أنّني قضيت أربع سنوات من عمري أدرس في جامعاتها الخاصّة، لكي أتخرّج بشهادة أعلّقها على الحائط، لأنه فقط لا يحق لي العمل هنا. بيروت تعرف أنّني أسكن بيتاً بالإيجار، لأنّه لا يحق لي أن أتملّك سكناً فيها، وهي تعلم أيضاً أنّني بالصدفة، ولدت فوق أراضيها وأصبحت لاجئة.

ألّا تجد مكاناً تنتمي إليه، هو حقاً شعور قاسٍ عليك، أن تجد نفسك مرّة واحدة مجرّداً من إحساس الأمان والاستقرار، في مكانٍ بنيت فيه حياتك ومستقبلك، ثم بعد موقف واحد تدرك أنّك لا تستطيع حتى أن تحلم في بلادٍ ليست بلادك.

في وطننا العربيّ الكبير، أحتاج تأشيرة دخول بين قريتين تبعدان عن بعضهما أقلّ من عشرين كيلومتراً. هذا ولم نتطرّق إلى موضوع الحصول على الفيزا، والشروط التعجيزيّة التي نفرضها على بعضنا البعض. ترى من قسّم الأرض بين البشر على هذا النحو، وجعل لهم سيادة وسلطة عليها؟ أسأل نفسي دائماً إذا ما كان تراب عكّا يشبه تراب بيروت، ويمتدّ نفسه وصولاً إلى الشام وعمّان، وجميع بلادنا العربيّة، إذا كان التراب نفسه يجمعنا، لماذا علينا أن نقسّم أنفسنا على حدود لا وجود لها؟!

يا بيروت، وحدك تعرفين لحظات ضعفي وانكساري، وحدك من كنت شاهدة على بكائي، عندما خسرت وظيفتي لأنني لا أحمل جنسيّة أولادك، وحدك كنت معي عندما دفنت جدّتي تحت ترابك، وصار لي فيكِ طفولة وشباب وجثمان جدّة، وحدك تعلمين بأنّني أحبّك، لكنني أحبّ بلادي أكثر، وأنتمي إليك كما أنتمي لبلادي وأكثر.

لا تستطيع الأم أن تنكر أبناءها يا عزيزتي فلماذا تنكريننا؟

"إلى هنا، أنهي كلامي إليك وأترك رسالتي هذه على مقعدٍ باردٍ في غرفة الانتظار عند مدخل بوابة الطائرة.."


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image