شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
أموت رعباً كلما فكرت برحلة علاج كورونا في مصر

أموت رعباً كلما فكرت برحلة علاج كورونا في مصر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 9 يونيو 202005:56 م

لنا أحلامنا الصغرى، كأن نصحو من النوم معافين من الخيبة، لكن في زمن "كورونا المستجد" يصبح الاستيقاظ سليماً حلماً كبيراً لا صغيراً، ويصبح تحسس جسدك والتأكد من سلامته صباحاً فطورك الحقيقي.

في البدء خشيت من هذا الوباء المجهول، فلا أحد يعرف ماهيته أو قادر على علاجه، لكن الخوف كان محدوداً كما كانت الإصابات في مصر وقتها، وخلال الشهرين الماضيين تغير كل شيء، تخطت الإصابات الـ32 ألف، بعد أن كانت في أول أيار/ مايو 5895، ومع هذا الارتفاع، تحولت أرقام المصابين إلى أشخاص أعرفهم، وتعرفت على رحلتهم، بداية من البحث عن علاج حتى الشفاء إن وجدوه، أو الموت على أبواب المستشفيات، ولأنه فيروس يتربص بنا في كل مكان، بت أنتظره فيّ أو في أسرتي، تقبّلت فكرة الإصابة وبت لا أخشى كورونا كثيراً، لكني أموت رعباً كل يوم من تلك الرحلة التي خاضها المصابون، سواء تعافوا أم فارقوا الحياة، تلك الرحلة موت آخر.

أخاف الاستيقاظ مصاباً بالأعراض التي تتنوع بين ارتفاع درجة الحرارة والسعال وفقدان حاستي الشم والتذوق، لأبدأ كالآخرين بالبحث عمن يخبرني هل أصبت أم لا، وقتها سألجأ للخط الساخن لوزارة الصحة، وهو المسؤول عن استفسارات كتلك، ولن تكون البداية مبشّرة، كثير من المصابين اشتكوا من عدم الرد عليهم، في الوقت الذي تؤكد وزارة الصحة تلقّى آلاف المكالمات يومياً، وبين المبررات الحكومية والاستغاثات، يبقى "أول القصيدة كفر"، فاحتمالية الرد ضعيفة، ولن يكون أمامي سوى استشارة أطباء "أون لاين" باتوا على استعداد لتقديم المساعدة.

 ولأنه فيروس يتربص بنا في كل مكان، بت أنتظره فيّ أو في أسرتي، تقبّلت فكرة الإصابة وبت لا أخشى كورونا كثيراً، لكني أموت رعباً كل يوم من تلك الرحلة التي خاضها المصابون، سواء تعافوا أم فارقوا الحياة، تلك الرحلة موت آخر

تبدأ الخطوة الثانية بإجراء التحاليل اللازمة لإثبات الإصابة أو نفيها، وبعدها يبدأ العلاج، أتخيل بعد تشخيصي كمصاب لأبدأ الخطوة الثالثة في البحث عن الأدوية التي طرحتها وزارة الصحة من أجل تقوية المناعة، مع العزل المنزلي، تلك الأدوية التي اختفت من الصيدليات، وبات الحصول عليها يتطلب جهداً كبيراً، وقليلون من استطاعوا الحصول عليها، وأمامي أرى استغاثات كثيرة للبحث عنها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وقتها سيزيد الألم، ألم الخلايا التي تفتك بالجسد، وألم البحث عن أدوية، لتصبح أسير "تعليق" على "بوست" قد تكون فيه النجاة، أو صديق يتطوع لإرشادك إلى بعض منظمات المجتمع المدني التي تعمل على توفير الأدوية، ناهيك أن العزل المنزلي وحده إشكالية، فكثيرون لا يملكون شققاً يعيشون فيها وحدهم مثلي، وكثيرون لا يطمأنون للعزل مع أسرهم، خشية إصابتهم.

نعم أعيش كل يوم في رعب أن أضطر للجوء للبحث عن مستشفى، إن تدهورت حالتي أو حالة أحد من أسرتي، وقد عشت التجربة مع صديق لي، ظل يبحث عن سرير رعاية لخاله بعد إصابته طوال الليل، ولم يستطع، حتى فارق خاله الحياة، وليس بعيداً أن أصبح مكانه، فالمستشفيات الحكومية عجزت عن استقبال الحالات المتزايدة، فطالبت المستشفيات الخاصة أن تخصص أماكن للعزل، والأخيرة استغلت الفرصة ففرضت أسعاراً مرتفعة لا يقدر عليها كثيرون، رغم أن وزارة الصحة أعلنت عن أسعار استرشادية، لكن ذلك لم يطبق، وهكذا حين أصاب أو يصاب أحد أفراد أسرتي، سأجد نفسي حائراً بين "واسطة" قد تجد لي أي مكان في مستشفى حكومي، أو مطالب بدفع مبالغ ضخمة، وصل بعضها لمائة ألف جنيه في اليوم الواحد، كما يقول الدكتور حمدي السيد، نقيب الأطباء الأسبق، وخلال تلك الحيرة، سأعيش الموت كل لحظة.

ما سبق ليس إلا مرور سريع على رحلة عذاب، فيها آلاف التفاصيل التي تعرض لها مئات المصابين وهم يبحثون عن علاج، وشعروا خلالها بالموت كل لحظة، بداية من إحساسهم بأنهم رخيصون لتلك الدرجة في وطنهم الذي تبرأ منهم في أول أزمة حقيقية، فلا أدوية أو مستشفيات أو حتى رقماً ساخناً قادر على تلبية حاجات الجميع، ووصولاً لإدراكهم أن علاجهم يتوقف على كونهم يملكون المال، أو لديهم أصدقاء يساعدونهم أو واسطة تنقذهم، وفي وقت يموت فيه المرء تدريجياً، يصبح وقوعه تحت تلك الافتراضات أقسى.

 يموت المرء كل لحظة وهو يشعر كيف أصبح رخيصاً إلى هذا الحد،  ويرى بعينيه أوجاع من يحبهم حتى يفارقوا الحياة، وسط ذلك كله، تطلب منهم الدولة "أن يكونوا أقوياء نفسياً"، لأن ذلك عامل مهم في المواجهة، تلك التصريحات ليست إلا "وقاحة"

نعم، تلك هواجسي أنا وكثيرون ممن لم يصابوا بعد، فمن خاضوا الرحلة باتوا ليلتهم آمنين وفي الصباح بدأوا هذا المشوار الكئيب، أسأل نفسي: هل لو كان كل شيء متوفراً، أو على الأقل هناك بنية صحية أقوى قليلاً، وهناك من يطمئنك بالأفعال لا الأقوال، وقتها سيصبح الأمر مختلفاً والمرض أقل وحشية وهو يواجه إنساناً مليئاً بالأمل، ويشعر أن وطنه يبذل كل ما في وسعه كي ينقذه، أما ما يحدث فغير ذلك، يموت المرء كل لحظة وهو يشعر كيف أصبح رخيصاً إلى هذا الحد، ويقتله انتظار المساعدة التي لا يعرف موعدها ولا من أين ستأتي، ويرى بعينيه أوجاع من يحبهم حتى يفارقوا الحياة، وسط ذلك كله، تطلب منهم الدولة "أن يكونوا أقوياء نفسياً"، لأن ذلك عامل مهم في المواجهة، تلك التصريحات ليست إلا "وقاحة".

المرض أقل قسوة من رحلة علاجه، ولا ألوم المواطن الذي هرول لشراء أدوية تكفيه وأسرته خشية الموت، هذا سلوك طبيعي، أنا ألوم الدولة التي أعرف أنها تفعل ما تريد، فحين أمرت بتفتيش هواتف المواطنين تم ذلك ضاربة بالدستور عرض الحائط، فلا أحد يحدثني أنها غير قادرة على إجبار شركات الأدوية على ضخ كميات كبيرة، أو فرض "تسعيرة" تناسب المواطنين في وقت الأزمة، على المستشفيات الخاصة التي تملك "50 ألف سرير رعاية"، أو إشعار المواطن، ولو لمرة واحدة، أن له قيمته، وأنه ليس أسير المجهول سواء تعافى أم لا، لا أريد ذلك كله.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard