يقدّم الأطباء والطواقم الطبية تضحيات جسام أثناء عملهم على مواجهة فيروس كورونا المستجد، وتطبيب المصابين به، ولذلك يحظون بثناء كبير من الناس. ولكن هناك جانب آخر من القصة. فالأطباء الذين يُكال لهم المديح في العام، يتعرّضون في حياتهم اليومية لمواقف تسبب لهم الكثير من المضايقات... والألم.
منذ بداية انتشار فيروس كورونا في مصر، منتصف شباط/ فبراير الماضي، سجل عدد من الأطباء شكاوي من سوء المعاملة، وتحدثوا عن وقائع من تعرّضهم للتنمر، ليس لأي سبب إلا لأنهم يواجهون الوباء عن قرب.
رفضوا دفنها
الواقعة الأكثر بؤساً سُجّلت في الحادي عشر من نيسان/ أبريل، عندما رفض بعض أهالي قرية شبرا البهو، في محافظة الدقهلية، شمال شرق القاهرة، دفن الطبيبة سونيا عبد العظيم (64 سنة)، التي توفيت جراء الإصابة بالكورونا، واعترضوا سيارة الإسعاف التي كانت تحمل جثمانها، معللين ذلك بالخوف من انتشار المرض بينهم.
ورغم تدخل قوات الأمن لدفن الجثمان بالقوة واعتقالها عدداً من الأهالي المعترضين، ومحاكمتهم بتهمة ممارسة الإرهاب، وتقديم رئيس الحكومة المصرية الدكتور مصطفى مدبولي الاعتذار والعزاء لزوج الطبيبة الدكتور محمد هنداوي، إلا أن الواقعة خلفت آثاراً بالغة في نفوس المصريين بشكل عام والأطباء خصوصاً، ودفعت بعضهم للإعلان عن وقائع تنمر مشابهة.
حاولوا طردها من المنزل
لم تكن الدكتورة دينا مجدي عبد السلام، أخصائية الأمراض الجلدية في مستشفى القنطرة في محافظة الإسماعيلية، شرق مصر، تتوقع أن يهاجمها جيرانها، بعد يوم عصيب قضته في العمل، وأن يحاولوا طردها من منزلها بذريعة أنها مخالطة لمصابين بالكورونا وربما تنقل لهم العدوى.
تروي الطبيبة العشرينية لرصيف22 أنه، في الحادي عشر من نيسان/ أبريل، تقرر نقلها إلى مستشفى حميات الإسماعلية، أحد المستشفيات المخصصة لعزل المصابين بفيروس كورونا في مصر، وما أن علم جيرانها بذلك قرروا إقناع صاحبة المنزل الذي تقيم فيه بطردها خشية نقل العدوى لهم، رغم أنها تعيش بمفردها ولا تختلط مع الجيران.
وتضيف: "فوجئت بتجمهر عدد منهم أمام منزلي يطالبونني بالرحيل، ويدّعون أنني مصابة بالفيروس، على غير الحقيقة. في البداية، حاولت أن أشرح لهم أنهم يفهمون الصورة بشكل خاطئ وأنه لا مجال للقلق، لكنهم أصروا على طردي من المنزل، لذلك اتصلت بالشرطة التي جاءت على الفور واتخذت الإجراءات اللازمة".
وعن طبيعة عملها، تقول دينا إنها تختص بفحص الحالات المشتبه بإصابتها بالكورونا وتوجيه بعض الأسئلة لهم، ضمن الاختبارات والفحوصات المبدئية للتأكد من الإصابة، وتؤكد أنها تتخذ كافة الإجراءات الاحترازية التي أقرتها وزارة الصحة المصرية، كما تُجري اختبارات ذاتية بشكل دوري للتأكد من عدم إصابتها بالفيروس.
وبصوت يغلب عليه الحزن تعلّق: "الطواقم الطبية تحارب في معركة كبيرة جداً. بعض الزملاء بدأت تظهر عليهم أعراض والبعض انتقل إلى رحمة الله بسبب الفيروس ومنهم الطبيب أحمد اللواح، وننتظر من الناس أن يتحلوا بقدر من المسؤولية والوعي، وألا يزيدوا آلامنا، عبر تصرفات مدفوعة بجهل للموقف وبعدم الإحاطة بالمعلومات الكافية عن الموضوع".
وتضيف: "نتمنى أن يشعر الجميع بحجم الخطر الذي يواجهنا. عشرات الآلاف يموتون يومياً في مختلف دول العالم، والملايين مصابون، واللقاح لا يزال في علم الله، لكن البحث جارٍ والعمل مستمر، ومطلوب من الناس أن تلتزم بالإجراءات وتتوخى الحذر".
أجبره الركاب على مغادرة سيارة الأجرة
تعرّض حبيب أحمد، أخصائي تمريض في قسم رعاية القلب المركزة في مستشفى عين شمس الجامعي، لموقف مشابه، حين اعترض عدد من المواطنين على تواجده في إحدى وسائل النقل العام، أثناء عودته من العمل، وطالبوا السائق بطرده، خشية العدوى أيضاً.
ويوضح الطبيب الشاب (28 سنة) أنه تعرض للتنمر والمضايقة أثناء عودته من عمله، ويروي لرصيف22: "انتهيت من العمل في ساعة متأخرة الأسبوع الماضي، وكنت مرهقاً جداً، لأني عملت لمدة 24 ساعة متواصلة. كان الضغط على المستشفى شديداً، وكنت أنتظر الساعة التي أعود فيها إلى منزلي بأية طريقة. المهم انتهيت من عملي، وبدّلت ملابسي، وبدأت أحلم باللحظة التي أصل فيها إلى المنزل لأنام".
ويضيف: "لا أملك سيارة مثل المئات من زملائي وعادة أركب المواصلات العامة عند عودتي إلى المنزل، وفي تلك اللية كنت سأركب ‘ميكروباص’، وكانت الساعة السابعة مساءً، أي قبل الحظر الجزئي الذي تفرضه الحكومة في البلاد بنحو ساعة. المهم ركبت سيارة الأجرة، مع عدد من المواطنين، وبعد دقائق اتّصلَت بي زميلة لي لتستفسر عن إجراء يخص مريضاً كنت أقوم برعايته، وكانت تكمل المهمة.
يروي طبيب مصري أنه فوجئ بورقة معلّقة أمام منزله مكتوب عليها "الدكتور كورونا"، بغرض تحذير الناس منه، رغم بُعد تخصصه عن الاختلاط بالمصابين، فهو طبيب نفسي
ويتابع: "بدأت بالشرح، وظهر من كلامي أنني كادر طبي، وفوجئت قبل أن أنهي المكالمة بشخص يطالب السائق بالتوقف وإنزالي عنوة من السيارة في وسط الطريق. حاولت إقناعه بأنني لن أجد مواصلات أخرى بسبب حظر التجوّل، وأنني أعرف مسؤولياتي وطهرت نفسي جيداً قبل مغادرة المستشفى، لكنّي فوجئت بتضامن جميع الركاب معه، ما اضطرني إلى مغادرة السيارة، والتوجه إلى أقرب نقطة للشرطة، وإظهار هويتي لعناصرها، فساعدوني على العودة إلى البيت، إذ أوقفوا سيارة خاصة كان صاحبها في طريقه إلى منزله، وهو طبيب، وطلبوا منه إيصالي إلى أقرب مكان، واستجاب على الفور".
ويضيف: "تركت الواقعة في نفسي أثراً سلبياً بالطبع. شعرت بالاكتئاب وفكرت في الاستقالة أو طلب إجازة طويلة، وبالفعل طلبت إجازة لكن بعد تفكير تراجعت عن الأمر. في النهاية، أنا أقوم بواجبي، وهذه واقعة لا تعبّر عن جميع الناس لأن الغالبية يقدرون الجهد الذي نقوم به ويوجهون الشكر لنا دائماً ويعبّرون عن محبتهم لنا".
تحوّل إلى مصدر رعب لجيرانه وعائلته
يروي الدكتور محمد عبد الغني، أخصائي الأطفال وحديثي الولادة، ومكافحة العدوى، في مستشفى الجابري للأطفال والولادة في محافظة الجيزة، تفاصيل أخرى عن أشكال التنمر الاجتماعي التي يتعرض لها الأطباء بسبب كورونا، حتى وإنْ لم يكونوا ضمن الخطوط المباشرة لمواجهة المرض.
لاحظ محمد تغيراً جذرياً في تعامل جيرانه وأقاربه معه منذ بداية انتشار الفيروس، فقد صاروا يتعاملون معه بحذر مبالغ فيه وخوف وتشكك دائمين.
يقول لرصيف22: "لا أحد يقترب مني، توقفت عائلتي عن الاتصال بنا أو دعوتنا إلى أي لقاء أسري، بالرغم من أننا نتخذ إجراءات احترازية مشددة تقتضي بعدم التقارب الاجتماعي والحفاظ على المسافات، لكن ما يحدث معي ومع أسرتي تجاوز هذه الفكرة. الأمر وصل حد ابتعاد الجيران عن أي طريق أو مكان أمرّ منه، والهلع من إمكانية انتقال العدوى لهم عبر أسرتي، إذ يسارعون إلى تعقيم أنفسهم كلما التقوا بهم بشكل يترك أثراً سلبيا على أطفالي وزوجتي، وإنْ كنت أتفهم الأمر، لكنه يبدو في أغلب الأحيان مبالغاً فيه، خاصة أنه يحدث معنا فقط".
"الأمر وصل حد ابتعاد الجيران عن أي طريق أو مكان أمرّ منه، والهلع من إمكانية انتقال العدوى لهم عبر أسرتي، إذ يسارعون إلى تعقيم أنفسهم كلما التقوا بهم بشكل يترك أثراً سلبيا على أطفالي وزوجتي"
ويتابع الطبيب الثلاثيني أن عائلته اعتادت التجمع في المناسبات مثل شم النسيم، و"كانت أسرتي دائماً أول المدعوين، لكن هذا العام كان الأمر مختلفاً. فعلى الرغم من اجتماعهم، مع مراعاة الاحتياطات والحفاظ على مسافات بينهم، لم توجَّه الدعوة إلى أسرتي، وعلمنا أن بعض الأقارب رفضوا تواجدنا نهائياً بسبب طبيعة عملي كطبيب".
ويضيف: "أشعر بالمسؤولية والذنب تجاه أطفالي لأنهم مضطهدون بسببي. من ناحية أخاف جداً من نقل العدوى إليهم لأن طبيعة عملي تحتم عليّ التعامل مع عدد كبير من الناس، ربما بينهم شخص مُصاب، ومن ناحية أخرى أشعر أن طبيعة عملي تزيد من عزلتهم وتجعل تعامل الناس معهم قاسياً جداً".
"الدكتور كورونا"
أما الدكتور أحمد موافي، أخصائي الطب النفسي في مستشفى الصفوة في المهندسين، فيمكن أن نصف ما حدث معه بأنه واقعة من "المضحكات المبكيات".
يعيش موافي في أحد أحياء القاهرة مغترباً، بسبب ظروف عمله. اعتاد الاختلاط مع جيرانه بحكم الطبيعة الاجتماعية لسكان الأحياء الشعبية في مصر، فالجميع يعيشون وكأنهم في منزل واحد.
يروي الطبيب الشاب (32 عاماً) لرصيف22 أنه فوجئ بورقة معلّقة أمام منزله مكتوب عليها "الدكتور كورونا"، بغرض تحذير الناس منه، ورغم بُعد تخصصه عن الاختلاط بالمصابين إلا أن ذلك لم يمنع جيرانه من ذلك التصرف الذي وصفه بالمضحك، قائلاً: "ضحكت وقطّعت الورقة. بالتأكيد كنت أتمنى ألا يحدث هذا الموقف، لكن بعض الناس ليس لديهم وعي كاف للتعامل مع مثل هذه الأزمات".
ويؤكد موافي أن "الهلع الذي يعيشه الناس حول العالم أمر مبرر جداً مع تدفق مئات الأخبار السيئة يومياً عن الفيروس، وأعداد المصابين والمتوفين التي تتزايد يوماً تلو الآخر"، مشيراً إلى أن عيادته تشهد إقبالاً متزايداً ممَّن يعانون من القلق والتوتر منذ بداية الأزمة، وعادة ينصحهم بتقليل التعرّض للأخبار الخاصة بانتشار المرض والاكتفاء بالالتزام بالإجراءت الاحترازية التي أقرتها وزارة الصحة ومنظمة الصحة العالمية.
"تضحية واجبة"
دفعت وقائع التنمر ضد الأطباء الحكومة المصرية إلى التضامن معهم، وأبرز أشكاله البيان الصادر عن مجلس الوزراء بالاعتذار لأسرة الطبيبة سونيا عبد العظيم. كما اعتبر وزير الأوقاف أن التنمر ضد الأطباء ومنع دفن المتوفين بسبب الفيروس الوبائي جريمة، وحرام شرعاً.
ومنذ بداية الأزمة، وجه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي رسائل تحية وتقدير للأطباء، وقال "نحن نخوض حرباً أنتم أبطالها".
يعتبر الدكتور أسامة عبد الحي، عضو مجلس نقابة الأطباء المصرية، أن الطواقم الطبية "تقدّم تضحية واجبة لحماية البلاد من خطر انتشار فيروس كورونا الوبائي، وتمارس واجبها تجاه الشعب بكل أمانة".
ويؤكد لرصيف22 أن غالبية الشعب المصري تقدّر الدور الذي يقوم به الأطباء، "لكن هناك فئة مارست أفعالاً مؤسفة ضد الأطباء بسبب عدم الوعي، وعدم العلم"، لافتاً إلى أن الجهات المختصة اتخذت الإجراءات اللازمة حيال تلك الوقائع، وأنصفت الأطباء.
وتابع عبد الحي أن الطبيب يعلم جيداً طبيعة دوره ومسؤولياته الاجتماعية تجاه المواطنين، وهدفه هو الحماية وليس الضرر، ولا داعي للقلق ولا للتجريح بالأطباء، لأنه في حال اكتشف أحدهم إصابته بالمرض سيقوم بعزل نفسه في منزله أو في المستشفيات المخصصة للعزل ولن يختلط بأحد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.