في 3 كانون الأوّل عام 1866، افتتحت الكلّيّة الإنجيليّة السوريّة أبوابها للمرّة الأولى، لتغيّر بعدها الكثير في مسار تاريخ لبنان والمنطقة. بعد عدةّ عقود، وتحديدًا في 18 تشرين الثاني عام 1920، تغيّر اسمها إلى الجامعة الأميركيّة في بيروت. ولعلّ قلّةً يعرفون أنّ العربيّة كانت اللغة الأساسيّة للتدريس خلال العقد الأوّل من تأسيس الجامعة، وما يُعرف اليوم بدائرة اللغة العربيّة ولغات الشرق الأدنى وُلدت نواته مع ولادة الجامعة، وتراكمت إنجازاته الفكريّة مع تعاقب عددٍ من الأعلام النخبة في الفكر والأدب واللغة. وساهمت هذه الدائرة على مدار قرنٍ ونصف في إحياء اللغة العربيّة والنهوض بعلومها وواقعها.
كان لموقع الجامعة الجغرافيّ دورٌ في استقطاب الدائرة لعددٍ من الأعلام، ويضمّ الأرشيف لائحةً يطول ذكرها بأسماء أكثر من مئتي أستاذٍ ومحاضر. هذا إلى جانب أدباء بارزين لم يرتبطوا بالدائرة بشكلٍ مباشر أمثال الروائيّ جرجي زيدان (1861-1914). فقد كان لهؤلاء مجالٌ رحبٌ من الميول والاختصاصات، وكانوا يدرّسون العربيّة إلى جانب الرياضيّات مثلًا أو الطبّ أو التاريخ أو التجارة... ولا عجب في ذلك، فالعلماء في القرنين التاسع عشر والعشرين تابعوا إرثًا فكريًّا شموليًّا يمتدّ إلى زمن الجاحظ وأبي حيّان التوحيديّ اللذين لم يجعلا العربيّة محورًا لإتقان العلوم اللغويّة فحسب بل وغيرها من العلوم المختلفة.
إنّ انتقال عمليّة التدريس من اللغة العربيّة إلى الإنجليزيّة ترك تداعياتٍ عميقة الأثر على واقع اللغة العربيّة. وقد عبّر عن ذلك الباحث في التاريخ سليمان بك أبي عزّ الدين قائلًا:
"إنّ هذه الجامعة وإن كانت منشأة بمال الأميركيّين فإنّها في نظر الناطقين بالعربيّة وطيدة النزعة نزيهة القصد...... وإنّ أكثر المشهورين بالعلم والعمل من متخرّجي الجامعة هم أولئك الذين تلقّوا دروسهم باللغة العربيّة أو امتازوا بإتقان هذه اللغة."
ورغم تباعد الحاضر عمّا كانت عليه الأمور في الماضي، فإنّ عمل دائرة اللغة العربيّة لم يكن يومًا البكاء على الأطلال أو التحسّر على ماضٍ مجيد، وإنّما التعويل على طلّابها وأساتذتها الذين يعدون بمستقبلٍ مشرق.
ولقد كان القدامى يؤرّخون للحضارة العربيّة والإسلاميّة من خلال وضع كتبٍ في التراجم والسير، فتاريخ الحضارة هو تاريخ رجالها ونسائها. وأسوةً بهم، نحتفي بتاريخ دائرة اللغة العربيّة من خلال الحديث عن أعلامها وإنجازاتهم، لكنّ الإحاطة بجميعهم أمرٌ شاقّ وما يلي ذكره هو مجرّد غيضٍ من فيض يبدأ مع تأسيس الجامعة ويتوقّف عند بداية تسعينيّات القرن الماضي.
في 3 كانون الأوّل عام 1866، افتتحت الكلّيّة الإنجيليّة السوريّة أبوابها للمرّة الأولى، لتغيّر بعدها الكثير في مسار تاريخ لبنان والمنطقة. بعد عدةّ عقود، تغيّر اسمها إلى الجامعة الأميركيّة في بيروت. ولعلّ قلّةً يعرفون أنّ العربيّة كانت اللغة الأساسيّة للتدريس خلال العقد الأوّل من تأسيس الجامعة، وما يُعرف اليوم بدائرة اللغة العربيّة ولغات الشرق الأدنى وُلدت نواته مع ولادة الجامعة
الشيخ ناصيف اليازجي (1800-1871)
كان اليازجيّ واحدًا من أوّل ثلاثة أساتذة التحقوا بالكلّيّة الإنجيليّة السوريّة عند تأسيسها. كان أديبًا وكاتبًا وخطّاطًا وشاعرًا، وعُرف بذاكرته الصلبة وبراعته في الطبّ. درّس اللغة العربيّة والأدب، وكان منزله في بيروت مقصدًا للعلماء والشعراء والمفكّرين. جدّد في فنّ المقامات ونشر مقاماته بعنوان مجمع البحرين. وله أيضًا كتاب فصل الخطاب في النحو، وشرحٌ لقصائد المتنبّي أكمله ابنه إبراهيم ونشره بعنوان العرف الطيّب في شرح ديوان أبي الطيّب. قام بترجمة الإنجيل إلى العربيّة مع إيلي سميث (Eli Smith)، ونشر الكثير من الدراسات في النحو والصرف والبلاغة والمنطق.
يعقوب صرّوف (1852-1927)
كان صرّوف إلى جانب إلمامه بعلمي الرياضيّات والفلك، صحفيًّا وروائيًّا ومترجمًا. تلقّى علومه في الكلّيّة الإنجيليّة السوريّة ثمّ درّس فيها اللغة العربيّة والبلاغة والكيمياء لسنواتٍ عدّة قبل أن يسافر إلى مصر عام 1885. واشتُهر بتأسيسه وفارس نمر مجلّة المقتطف عام 1876، وكان للمجلّة دورها في نشر الأفكار العلميّة والبحثيّة في العالم العربيّ والشرق الأوسط. وفي رصيد صرّوف الكثير من المقالات وكتابٌ في الفلك، وهو إلى ذلك روائيّ مشهودٌ له. وتتوزّع آثاره على مستوياتٍ ثلاثة: تدريس الموادّ العلميّة، وتعزيز مناهج التفكير العلميّ، والتجديد في اللغة العربيّة.
جبر ميخائيل ضومط (1859-1930)
كان ضومط لغويًّا لامعًا وشاعرًا، ودرّس في الكلّيّة الإنجيليّة السوريّة بين العامين 1889 و1921. وكان إلى ذلك عضوًا في عددٍ من المؤسّسات العلميّة العربيّة. نشر الكثير من المقالات في المقتطف، وكان دائمًا يشدّد على أهمّيّة تطوير اللغة العربيّة ويدعو إلى ذلك. وتتضمّن منشوراته أبحاثًا حول فلسفة اللغة وتاريخها، إلى جانب دراساتٍ في النحو والصرف والبلاغة.
يوسف أفطيموس (1866-1952)
جوزيف أو يوسف أفطيموس كان مهندسًا معماريًّا ولغويًّا. بدأ مسيرته المهنيّة أستاذًا في دائرة اللغة العربيّة ثمّ تفرّغ بعدها للبناء وإعادة الإعمار في بيروت ودمشق وصيدا وحلب. وشغل منصب وزارة الأشغال العامّة في لبنان، ونشر مقالاتٍ عدّة باللغة العربيّة حول تاريخ العمارة العربيّة.
أنيس إلياس خوري المقدسي (1885-1977)
انضمّ المقدسي إلى دائرة اللغة العربيّة عام 1920، وله في رصيده 18 كتابًا. عني بفترة ما قبل الحداثة وكتب عن موروثها النثريّ والشعريّ، وتجاوزها أحيانًا لمعالجة الأدب الحديث. من كتبه: أمراء الشعر في العصر العبّاسيّ، ورسائل ابن الأثير، وتطوّر الأساليب النثريّة في الأدب العربيّ، والاتّجاهات الأدبيّة في العالم العربيّ الحديث. وما زالت بعض الجامعات العربيّة تعتمد كتبه نموذجًا نصّيًّا للتدريس حتّى يومنا هذا. وتقديرًا منها لجهوده ومقارباته الجديدة، أطلقت الجامعة الأميركيّة في بيروت برنامج أنيس المقدسي للأدب، والذي أثبت نجاحه في تعزيز الحوار بين الاختصاصات المتعدّدة ودعم الدراسات الأدبيّة.
أنطون غطّاس كرم (1919-1979)
التحق كرم بدائرة اللغة العربيّة في الجامعة بين عامي 1963-1979، وكان قبل ذلك أوّل عميدٍ لكليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة في الجامعة اللبنانيّة. وعلى نهج سلفه، استحقّ كرم وسام الأرز اللبنانيّ رتبة ضابط. وله 8 كتب تتناول موضوعات شتّى تتراوح بين الأدب العبّاسيّ (وبالأخصّ المناظرات بين القدامى والمحدثين في حينها) والأدب الحديث (لا سيّما أدب جبران خليل جبران).
خليل حاوي (1919-1982)
في السادس من حزيران عام 1982، وقف خليل حاوي، أحد أبرز شعراء حركة الحداثة العربيّة، على شرفة منزله الكائن في بيروت وأقدم على إطلاق الرصاص على نفسه. يومها اجتاح الجيش الإسرائيليّ بيروت، وكان من السهل على المحلّلين تفسير انتحاره على أنّه صرخة يأسٍ أو تعبيرٌ عن موقف سياسيّ. لكنّنا اليوم نقرأ الحاوي من خلال أعماله أوّلًا، ثمّ ننظر بعدها في المشهد الختاميّ الكبير الذي أنهى به مسيرته.
كان حاوي قد تخرّج من جامعة كامبردج والتحق بعدها بالجامعة الأميركيّة في بيروت للتدريس. لكنّه قبل ذلك تنقّل بين وظائف كثيرة، فقد عمل إسكافيًّا وأمين صندوق في مقهى وعامل بناء ليعيل أسرته بعد مرض والده. كان أحد روّاد شعر التفعيلة، وأصرّ على المطالبة بلغةٍ شعريّة جديدة. نُشرت له ستّة دواوين شعريّة، وتُعدّ قصائده غارقةً في التشاؤم والحزن وتكشف عنه أكثر ممّا تكشفه شخصيّته أو صراعاته الداخليّة. لقد كان حاوي نموذجًا للإبداع الخارج عن المألوف بين شعراء الحداثة، إذ لم يكن يقوم باستكشاف مجالاتٍ شعريّة مجهولة وإنّما كان يخلقها.
محمود علي الغول (1923-1983)
حاز الدكتوراه من معهد الدراسات الإفريقيّة والشرقيّة في جامعة لندن. درس اللغات الساميّة وتخصّص في لغات جنوب جزيرة العرب وكرّس لها معظم مسيرته الأكاديميّة. عمل أستاذًا في عددٍ من الجامعات العربيّة والعالميّة، وشكّل جزءًا من دائرة اللغة العربيّة في الجامعة الأميركيّة في بيروت بين العامين 1968 و1977. شارك مع آخرين في وضع المعجم السبئيّ، ووضع نحو ثلاثين مقالة حول الكتابات اليمنيّة القديمة وتاريخ جنوب شبه الجزيرة العربيّة. وله كذلك جهودٌ في ترجمة الأدب الكلاسيكي اللاتينيّ إلى العربيّة، وممّا ترجمه إينيادة فرجيل وأعمال هوراتيوس النقديّة.
جبرائيل جبّور (1900-1989)
درّس جبّور العديد من المساقات في الجامعة بدءًا من الشعر الجاهليّ ووصولًا إلى الأدب الحديث. وخلال مسيرته الأكاديميّة الطويلة ألّف 12 كتابًا وحرّر 9، هذا بالإضافة إلى كتابة عشرات المقالات وترجمة 6 كتب من الإنجليزيّة. وقد تُرجم كتابه البدو والبادية على يد لورنس إ. كونراد (Lawrence I. Conrad) إلى الإنجليزيّة ونُشر بعنوان Bedouins and the Desert. حصل جبّور على وسام الأرز اللبنانيّ ثلاث مرّات: رتبة فارس، ورتبة ضابط، ورتبة كومندور.
أنيس فريحة (1903-1992)
منذ كان في سنّ الخامسة عشرة، بدأ فريحة بتدريس اللغة العربيّة لغير الناطقين بها من المفوّضيّات الأجنبيّة. أتقن السريانيّة والعبريّة عندما كان طالبًا في الجامعة الأميركيّة في بيروت، ثمّ أرسلته الأخيرة في منحةٍ إلى الولايات المتّحدة الأميركيّة ثمّ إلى ألمانيا للتخصّص في اللغات الساميّة، وذلك رغبةً منها في توسيع نطاق دائرة اللغة العربيّة لتشمل اللغات الساميّة أيضًا. بعد عودته، التحق بالدائرة مجدّدًا ليدرّس اللغة
العربيّة والأدب العربيّ واللغة السريانيّة وتاريخ الشرق الأدنى. وضع أكثر من 30 كتابًا منها: يسّروا أساليب التعليم واسمع يا رضا، ونشر الكثير من المقالات في موضوعات مختلفة. نُشرت مذكّراته قبل أن أنسى عام 1979 وضمّت إلى جانب حياته الشخصيّة تأريخًا للجامعة الأميركيّة في بيروت منذ ثلاثينيّات القرن الماضي وحتّى سبعينيّاته. عني بالقرى اللبنانيّة وثقافاتها وتقاليدها ولهجاتها، ووضع معجمًا في اللغة العامّيّة اللبنانيّة، وآخر في أسماء المدن والقرى اللبنانيّة، وثالثًا في الأمثال اللبنانيّة الحديثة.
كمال خليل اليازجي (1904-2000)
انضمّ اليازجي إلى الدائرة أستاذًا مساعدًا عام 1951، وذلك بعد حصوله على الدكتوراه من جامعة كامبردج. تقاعد عام 1973 وظلّ بعدها أستاذًا فخريًّا إلى حين وفاته. ألّف الكثير من الكتب التي حوت دراسات رياديّة حول أبي العلاء المعرّي، والطبيعة في الشعر العربي الكلاسيكي. ومن بينها أيضًا كتابٌ في الفلسفة العربيّة لا يزال يُدرّس في الجامعة حتّى اليوم، إلى جانب دراسات أخرى عن تاريخ العرب العلميّ والفكريّ، وعن روّاد النهضة. لقد كان اليازجي مثالًا للمعلّم المخلص، وكان يحرص على ذكر طلّابه في جميع مؤلّفاته تقريبًا.
إحسان عبّاس (1920-2003)
هو رجلٌ موسوعيّ بموهبةٍ فكريّة نادرة، وترك بصماتٍ لا تُمحى في مجالي الدراسات الأدبيّة والتاريخيّة. كما أرسى قواعد مناهج التدريس في دائرة اللغة العربيّة على مدار عقدين ونصف. وخصّص معظم مسيرته الأكاديميّة لتحقيق المخطوطات. والتحقيق الأمين ليس بالعمل السهل، فالمحقّق يُعمل حسّه النقديّ ورصيده الفيلولوجي في مقارنة المخطوطات التي تضمّ عادةً أخطاء النسّاخ وتعديلاتهم. فيكون دوره اكتشاف مواطن التحريف والتعديل في محاولةٍ لبناء النموذج الأساس أو المخطوطة الأولى. ويستغرق التحقيق عادةً سنوات، ويُعدّ العمل الأصعب في مجال الدراسات الكلاسيكيّة، وقد يمضي الباحث مسيرته الأكاديميّة كلّها في تحقيق كتابٍ أو اثنين. لكنّ إحسان عبّاس قام بتحقيق مئات المخطوطات وبمجهودٍ فرديّ، منتقلًا بالدراسات العربيّة والإسلاميّة إلى مستوًى جديد، وممكّنًا الباحثين من حول العالم من قراءة المصادر العربيّة ودراستها. كما وضع أبحاثًا عن العرب في الأدب الصقلّي والأدب العربيّ الحديث. وله كتابٌ في تاريخ النقد الأدبيّ وهو من أهمّ ما وُضع في مجاله. حصل عبّاس خلال مسيرته الاستثنائيّة على جوائز عدّة منها جائزة الملك فيصل وشهادة دكتوراه فخريّة من جامعة شيكاغو، وكُرّم أيضًا بكتابين من الدراسات المهداة له.
فؤاد ترزي (1914-2009)
تلقّى علومه المدرسيّة والجامعيّة في فلسطين ودرّس في عددٍ من مدارسها وجامعاتها. انتقل عام 1948 بسبب النكبة للعمل في العراق ثمّ قدم بيروت عام 1953. درّس في الجامعة الأميركيّة في بيروت أثناء دراسته فيها، وحصل منها على شهادتي بكالوريوس وماجستير. حصل على الدكتوراه بمرتبة الشرف في جامعة القاهرة في اللغة العربية وآدابها. ألّف في النحو والصرف والشعر العربيّ القديم، وعني بتحديث أساليب التعليم وتيسير اللغة العربيّة، وقام إلى ذلك بترجمة رواياتٍ عالميّة منها ذهب مع الريح.
محمّد يوسف نجم (1925-2009)
عُرف نجم بسماحته وفطنته وذكائه، وقضى في التدريس 50 عامًا، وفي تدريس الأدب العربيّ في الجامعة تحديدًا أكثر من 25 عامًا. أصدر عددًا من الطبعات المحقّقة للنصوص العربيّة الكلاسيكيّة، لكنّ إرثه الأهمّ في الأدب العربيّ يكمن في أبحاثه وأبرزها حول المسرح العربيّ، والخرافة، والشعر العربيّ الحديث، والنقد الأدبيّ. كان نجم مركزًا للنتاج الفكريّ بين العامين 1950 و1960، مساهمًا بشكلٍ كبير في تشكيل النسيج الأكاديميّ الذي تُرجم نهضةً فيما بعد. إنّ نتاج نجم وعددًا من زملائه السابقين يُعدّ استثنائيًّا، لا لأنّه متنوّعٌ ورياديّ فحسب، ولكن أيضًا لكونه موضوعًا بكامله باللغة العربيّة. لقد كان نجم مهتمًّا بإعادة نشر المسرحيّات والجرائد النادرة التي عرفها القرنان التاسع عشر والعشرون. وكان يرمي من خلال ذلك إلى إعداد سجلّ يحفظ تاريخ الأدب العربيّ الحديث، ويجعله موضوعًا للدراسة الأكاديميّة. لقد تُوّجت جهود نجم بعددٍ من الجوائز، منها جائزة الجامعة العربيّة الثقافيّة للدراسات الأدبيّة في العامين 1956 و1958، وجائزة الملك فيصل للأدب العربيّ.
سامي مكارم (1931-2012)
التحق سامي مكارم بالجامعة عام 1964 ولم يفارقها حتّى وفاته عام 2012. وخلال 48 عامًا وضع أكثر من ثلاثين كتابًا مطبوعًا أو مخطوطًا في حقولٍ معرفيّةٍ مختلفة. ويمكن تصنيف كتاباته في أربع مجموعات: الدراسات التاريخيّة والسيرة، والدراسات المتعلقة بالحركات الإسلاميّة الباطنيّة ومعتقداتها، والدراسات الإسلاميّة الفلسفيّة والتصوّف، وأخيرًا الترجمة وتحقيق التراث. هذا طبعًا عدا الكتابات الإبداعية من شعر ونثر وأدب رحلة، ومئات التحف الفنيّة. فاستحقّ في مسيرته العديد من الجوائز تقديرًا لجهوده البحثيّة والفنّيّة. من مؤلّفاته: التقيّة في الإسلام، والحلّاج فيما وراء المعنى والخطّ واللون، وعاشقات الله.
كان مكارم رسّامًا وخطّاطًا، تلقّى تدريبه على يد والده الشيخ نسيب مكارم أحد أهمّ الخطّاطين في زمانه والخطّاط الرسميّ المعتمد في الجمهوريّة اللبنانيّة. وورث سامي عن والده موهبةً فذّة، وحرفة، وشغفًا بالتفاصيل، وتأويلًا صوفيًّا للحروف العربيّة. فكان يؤوّل كلّ انعطافٍ وكلّ نقطةٍ وكلّ اتّصال بين الحروف فيخرج خطّه فريدًا، أكثر تناسبًا من الخطّ الكوفيّ وأكثر انحناءً من الخطّ الحجازيّ. الجملة عنده نظامٌ من الكلمات، والكلمة نظامٌ من الحروف، والحروف نظامٌ من النقاط، وكلّ نقطةٍ سرٌّ إلهيّ ومعنًى صوفيّ. ومن شأن التوليفة التي تجمع عددًا من الحروف والكلمات أن تبلّغ رسالةً صوفيّة. وعلى هذا بنى قصائده، فالأبيات الغامضة والمثقلة بالرموز تأخذ شكلًا موسيقيًّا وتحمل معانيَ عدّة وتبعث في النفوس شعورًا عميقًا.
بيتر هيث (Peter Heath (2014-1949
درس هيث اللغة العربيّة وآدابها وتخصّص في الأدب المقارن، وتخرّج من جامعة هارفرد عام 1981. تنقّل بين عددٍ من المؤسّسات الأكاديميّة في العالم العربيّ وفي الولايات المتّحدة الأميركيّة، وانضمّ إلى دائرة اللغة العربيّة في الجامعة الأميركيّة في بيروت بين العامين 1998 و2008. عمل نائبًا لرئيس الجامعة للشؤون الأكاديميّة في الجامعة الأميركيّة في بيروت ثمّ رئيسًا للجامعة الأميركيّة في الشارقة. وضع كتابًا عن ابن سينا وآخر في سيرة عنترة، وله أيضًا الكثير من المقالات في الأدب العربيّ والفلسفة والسير الشعبيّة والثقافة.
نديم نعيمة (1930-)
حصل نعيمة على شهادة الدكتوراه من كامبردج عام 1963. ودرّس في الجامعة الأميركيّة في بيروت فترةً تناهز الخمسين عامًا. وشغل منصب عميد كلّيّة الآداب والعلوم الاجتماعيّة في جامعة البلمند مدّة ستّ سنوات، إلى جانب كونه أستاذًا زائرًا في عددٍ من الجامعات المحلّيّة والعالميّة. عني بأدب القرن التاسع عشر وتتلمذ على يد عمّه ميخائيل نعيمة وحمل فكره، ووضع أكثر من كتابٍ حول حياته وأدبه. واهتمّ كذلك بأدب جبران وحرص على ترجمة عددٍ من أعماله الإنجليزيّة إلى اللغة العربيّة. ومن كتبه أيضًا: الفنّ والحياة والحداثة والتراث، هذا فضلًا عن أكثر من ثلاثين مقالًا في فكر النهضة وآدابها. استحقّ نديم نعيمة جائزة جبران العالميّة للأدب عام 1982.
أسعد خير الله (1937-)
التحق بدائرة اللغة العربيّة في الجامعة عام 1964، وغادرها فترة الحرب الأهليّة ثمّ عاد إليها عام 1998 ليستكمل مسيرةً فاقت ثلاثين عامًا من التدريس. عُرف بتفانيه في التدريس وحرصه على مساعدة طلّابه. هو ضليعٌ بالمصادر الكلاسيكيّة الأدبيّة والفلسفيّة وباحثٌ رياديّ في الأدب الحديث. اهتمّ بالأدبين العربيّ والفارسيّ، وعني بعلاقة الشرق بالغرب ودرّس اختلاف الأدب ونظريّاته النقديّة بينهما. عمل على تحرير مجلّة الأبحاث الصادرة عن كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة بين العامين 1999 و2015. اشتُهر بكتابه عن مجنون ليلى، ودراساته في الأدب المقارن، ومقالاته التي فاق عددها العشرين ونُشرت باللغات العربيّة والإنجليزيّة والفرنسيّة والألمانيّة. تكريمًا له، أطلقت الجامعة الأميركيّة في بيروت عام 2017 جائزةً سنويّةً تحمل اسمه وتُمنح للأبحاث في العلوم الاجتماعيّة.
وداد القاضي (1943-)
هي واحدةٌ من القليلين الذين يحملون أربع شهاداتٍ من الجامعة الأميركيّة في بيروت: إجازة (1965)، ماجستير (1969)، دكتوراه (1973)، ودرجة فخريّة في دكتوراه الآداب الإنسانيّة عام 2012. وقد تدرّجت في مناصب عدّة في الجامعة قبل أن تسافر إلى الولايات المتّحدة الأميركيّة وتدرّس في جامعات هارفرد وكولومبيا ويال وشيكاغو. واستحقّت في مسيرتها اللامعة عددًا من الجوائز منها جائزة الملك فيصل. وقامت بنشر العديد من الكتب والإشراف على الكثير من الطلّاب. وتتناول أبحاثها قضايا مختلفة في الحضارة العربيّة الإسلاميّة منها الفكر الإسلاميّ المبكر، وتفسير القرآن، والاقتباسات القرآنيّة في الأدب، والعقيدة والمذاهب، والتاريخ والتأريخ، والمخطوطات، والفكر السياسيّ، والنثر العربيّ الكلاسيكي، والتراث الأمويّ، والحضارة المادّيّة، وأدب التراجم. وخطّت أبحاثها تلك اتّجاهاتٍ جديدة في الدراسات العربيّة والإسلاميّة، فكانت وما زالت سفيرة الجامعة الأميركيّة في بيروت إلى العالم ومرآةً لفكرها النيّر.
رمزي بعلبكي (1951-)
هو أستاذٌ في الجامعة منذ أربعة عقود، وحصد خلال مسيرته المستمرّة الكثير من الأوسمة والجوائز. عام 1999، استحقّ جائزة العلوم الإنسانيّة من مؤسّسة عبد الهادي الدبس، وعام 2010 نال جائزة الملك فيصل للّغة العربيّة وآدابها. وضع أبحاثه باللغتين العربيّة والإنجليزيّة، وتتناول المعاجم العربيّة واللسانيّات ودراسة الساميّات المقارنة وتاريخ الخطّ العربيّ. وقد أَثْرَت نتائجه الحقل الأكاديميّ بشكلٍ كبير، وأرست قواعد فهمٍ أعمق وأدقّ للّغة العربيّة. وقام إلى جانب ذلك بتحقيق عددٍ من المخطوطات في اللغة والنحو وغير ذلك، واتّبع في تحقيقها منهجًا يُعدّ نموذجًا يُقتدى به.
لقد كرّس بعلبكي الكثير من أبحاثه لدراسة تاريخ النحو العربيّ، حتّى غدا مرجعًا لا غنى عنه في دراسة هذا المجال. ورمى من خلال أبحاثه إلى تحقيق ثلاثة أهدافٍ رئيسة: أوّلها دراسة مصطلحات القدامى ومفاهيمهم لإثبات أصالة النتاج الفكريّ النحويّ عند العرب والمسلمين، وثانيهما عرض مركزيّة علم النحو بالنسبة للعلوم العربيّة والإسلاميّة، وصلته الوثيقة بعلوم التفسير والقراءات والبلاغة والنقد الأدبيّ. أمّا الهدف الثالث فهو معالجة مناهج التحليل الدقيقة والمعقّدة عند النحويّين القدامى، والذين حرصوا أكثر من خَلَفِهم على إظهار توازنٍ بين المبنى والمعنى.
ويُضاف إلى ما سبق أنّ بعلبكي ترك أثرًا كبيرًا خارج الأوساط الأكاديميّة، ووصل تقريبًا إلى كلّ أسرةٍ عربيّة وكلّ مكتبةٍ عالميّة من خلال قاموس المورد والمورد الأكبر، وهما أهمّ قاموسين في شرح المفردات الإنجليزيّة باللغة العربيّة، وكان والده منير بعلبكي قد ابتدأ العمل بهما ثمّ تابعه ابنه وأتمّه.
واليوم، تصبّ جهود رمزي بعلبكي في إعداد معجم الدوحة التاريخي، والذي بدأ العمل عليه منذ العام 2013. إذ يشغل بعلبكي رئاسة المجلس العلميّ المشرف على العمل، والمؤلّفة من أبرز اللغويّين في العالم العربيّ. ويرمي هذا المعجم إلى رصد التطوّر الدلاليّ لكلّ لفظةٍ عربيّة من خلال مراجعة شاملة للنقوش والبرديّات، الشعر الجاهليّ، ومن ثمّ المصادر العربيّة القديمة وصولًا إلى العصر الحديث. إنّها أوّل محاولةٍ جدّيّة لإصدار معجمٍ تاريخيّ عربيّ قد طال انتظاره. ويُنشر هذا المعجم الكترونيًّا ويُتاح للجميع، ومن شأنه أن يحقّق نقلةً نوعيّة في دراسة اللغة العربيّة، وأن يساعد الباحثين في فقه اللغة، والأدب، والعلوم القرآنيّة، والإنسانيّات. وتمتدّ فترة العمل على هذا المعجم 15 عامًا، وهو واحدٌ من مشاريع كثيرة تحمل بصمة الجامعة الأميركيّة في بيروت من خلال أعلامٍ بارزين أمثال بعلبكي.
عينٌ على المستقبل
إنّ العرب قديمًا تركوا ميراثًا عظيمًا من الدراسات المشتركة، والتي تتقاطع فيها شتّى المعارف والعلوم من الاختصاصات كافّة. وقد اتّخذتهم دائرة اللغة العربيّة نموذجًا لها، فهي تمكّن طلّابها من مختلف الاختصاصات من الوصول إلى المصادر الموثوقة للمعارف سواءٌ كانت شفهيّةً أو مكتوبة. وبذلك تظهر لهم روابط بين العربيّة واختصاصهم بغضّ النظر عن اللغة التي يدرسون بها.
وهي كذلك تحثّهم على إعداد أبحاثهم بالعربيّة، فتمهّد للدوائر الأخرى إصدار أبحاثٍ تطال تأثيراتها المجتمع، لا في الإنسانيّات والاجتماعيّات فحسب، بل في المجالات العلميّة أيضًا. فالدراسات المشتركة لم تعد خيارًا بعد اليوم، والعاملون في دائرة اللغة العربيّة قد ألزموا أنفسهم الانفتاح على حاجات الدوائر الأخرى في التاريخ، والاجتماع، والإعلام، والعلوم البرمجيّة، والموسيقى، والفنون الجميلة والمسرحيّة، الخ... وأخذوا على عاتقهم تعزيز روح البحث المتعدّد الاختصاصات، وتعديل مساقاتهم لتتناسب مع ذلك. لقد توقّف عرض هذا المقال عند مطلع تسعينيّات القرن الماضي وركّزنا فيه على حملة درجة الأستاذيّة، لكنّ الذين تعاقبوا على الدائرة من مدرّسين ومحاضرين قبل التسعينيّات وبعدها أكثر من أن يحصوا، وتستمرّ دائرة اللغة العربيّة ولغات الشرق الأدنى بتجدّد وألق، لتظلّ درّة هذه الجامعة ومصدر فخرها. وممّن جاء بعد التسعينيّات نذكر ماهر جرّار، وصالح سعيد آغا، ووحيد بهمردي، وندى صعب، وبلال الأرفه لي، ومحمود البطل،، وزينة حلبي، وإيناس خنسه ومها عبد المجيد.
يمرّ لبنان والعالم العربيّ في أوقاتٍ عصيبة من شأنها أن ترسم المستقبل، ويؤدّي كلٌّ من اللغة والأدب والفكر دورًا مهمًّا في صناعة ذلك المستقبل وتحديد ملامحه. وعلى دائرة اللغة العربيّة في الجامعة الأمريكية أن تساهم في ذلك النتاج الفكريّ كما فعلت في الماضي، فقد كان أساتذتها وطلّابها يوجّهون التغيير ويواكبونه ويحرصون على تحقيقه، يساعدهم في ذلك وجود فسحةٍ من الحريّة والعلمانيّة وفّرتها الجامعة منذ تأسيسها
ختامًا، يمرّ لبنان والعالم العربيّ في أوقاتٍ عصيبة من شأنها أن ترسم المستقبل، ويؤدّي كلٌّ من اللغة والأدب والفكر دورًا مهمًّا في صناعة ذلك المستقبل وتحديد ملامحه. وعلى دائرة اللغة العربيّة أن تساهم في ذلك النتاج الفكريّ كما فعلت في الماضي، فقد كان أساتذتها وطلّابها يوجّهون التغيير ويواكبونه ويحرصون على تحقيقه. يساعدهم في ذلك وجود فسحةٍ من الحريّة والعلمانيّة وفّرتها الجامعة منذ تأسيسها. لقد شكّلت الدائرة على مدار التاريخ وعيًا بالهويّة العربيّة وأبعادها الاجتماعيّة والتاريخيّة، وارتبط أعلامها بمحطّاتٍ فاصلة من تاريخ لبنان، فكان تاريخه من تاريخها. وتستمرّ الدائرة اليوم بتحمّل تلك المسؤوليّة مستلهمةً ممّا حقّقه أعلامها سابقًا من إرثٍ خالد، وتجعل على عاتقها التمهيد لغدٍ أفضل يصدق فيه قول خليل حاوي:
يَعبرونَ الجِسرَ في الصبحِ خفافًا
أَضلُعي امتَدَّتْ لَهُم جِسْرًا وطيدْ
مِن كُهوفِ الشرقِ، مِن مُستنْقعِ الشَرقِ
إِلى الشَّرقِ الجديدْ
يمكن الاستماع إلى النص مسجلاً بصوت الدكتور الأرفه لي:
يود الدكتور الأورفه لي أن يشكر أرشيف مكتبة يافث في الجامعة الأمريكية في بيروت خاصة السيدة سمر ميقاتي، وأن يشكر مساعدته البحثية السيدة لينا جمّال لاهتمامها بالمقالة ومساعدتها في مضمون المقالة وشكلها، والشكر موصول للأكاديمية العربية الألمانية للعلماء الشباب (AGYA) لدعمها هذا العمل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...