"تركتُ الدراسة مبكراً في بداية حياتي لأساهم في إعالة أسرتي، ثم تزوجت برجل سكير، ولدي ابنان، لكن كل ما سبق لا يعادل مخاوفي هذه الأيام، بعد إعلامي أن المصنع الذي نعمل فيه لن يتكفل بدفع رواتبنا في فترة الحجر الصحي، فهذا كفيل بأن يعرض أبنائي للجوع".
بهذه الكلمات تحدثت هدى، العاملة بأحد مصانع النسيج، تسكن في محافظة المنستير وسط شرقي تونس، أم لطفلة وطفل، عمَّا آلت إليه ظروفها في فترة الحجر الصحي التي أحالتها للبطالة.
"المصنع موردنا الوحيد"
تستقطب مصانع النسيج والملابس الجاهزة، التي تنتشر في المحافظات الساحلية، وتلعب دوراً هاما في حركة الاقتصاد، آلاف العاملات، خاصة من المناطق الداخلية التونسية، حيث نسب الفقر والانقطاع المبكر عن الدراسة الذي تفرضه الظروف الاجتماعية الصعبة، أكبر من بقية الجهات.
ورغم الأجور المتدنية، ظروف العمل غير الملائمة داخل هذه المصانع ورحلة المتاعب التي تنطلق منذ ساعات الصبح الأولى حتى المساء، تتمسك "بنات المعمل"، كما يحلو للبعض تسميتهن، بنشاطهن، وتعتبرنه ملاذهن الذي يمنحهن دخلاً، والذي وإن كان زهيداً فهو المورد الوحيد الذي يستندن إليه، ولهذا نزل إعلان بعض المصانع عدم دفع أجورهن في فترة الحجر، مثل الصاعقة عليهن، وفتح سيلاً من المخاوف.
تقول هدى: "منذ علمت أن الإدارة قرَّرت عدم دفع أجورنا فزعت، فما لديّ من مواد غذائية يكفي لبضعة أيام، ولا مدخرات مالية لدي، ولا أحد أستطيع اللجوء إليه، فكيف سأواجه جوع طفلي فيما لو طالت فترة الحجر أكثر؟".
"أخشى أن أعود لنقطة الصفر التي كنتها عندما بدأت العمل لأول مرة، تحمَّلت الكثير لتجاوز تلك المرحلة، فقد لا أملك العزيمة ثانية، ولا أستطيع تحمل تكاليف علاج والدتي"
تقوم هدى بتخفيف كمية الوجبات حتى تؤجل "مرحلة الجوع" لأقصى مدى، وتقول إنه في حالة سُمح لها بالخروج للعمل، ستفعل، تقول: "ما الفرق إذا كان الخروج قد يدفعنا للإصابة بالمرض والبقاء في البيت قد يعني الموت جوعاً، كلاهما مر، ولكن بعد كل هذا الشقاء الذي كابدته في حياتي".
القانون ينتصر لرأس المال
ولا يعتبر قرار أصحاب المصانع بالتخلي عن عاملات هو الأول من نوعه في تونس، نظراً لهشاشة وضعية العمال التي كرَّستها سياسات الإصلاح الاقتصادي المعتمدة منذ سنوات، رغم وجود نقابة عمالية قوية "الاتحاد العام التونسي للشغل".
وفـرت الدولة كل التشريعات القانونية الملائمة لمصالح رأس المـال على حساب اليد العاملة، بحسب تقرير تابع لـ"المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية"، فقد نصت مجلة الشغل منـذ 1996، على أشكال جديدة من علاقات العمل تحت ما بات يعرف بـ"مرونة التشغيل"، حيث كرَّست "هشاشة العمل، مثل العقود محدَّدة المدة، عقود المناولة وعدم ترسيم العمال وغيرها"، كل ذلك مثل الإطار التشريعي لأكثر من 75% من العاملين في مصانع النسيج التونسية.
وبحسب التقرير، الذي جاء تحت عنوان "سوسيولوجيا الهامش في زمن الكورونا"، فإن "التشـريعات القانونية التي منحتها الدولة للمستثمرين وفرّت الأرضيـة الملائمـة لانتهاك حقوق العاملات مهما كانت أوضاعهن، سواء في إطار العقــود محددة المدة أو غير المحددة المدة".
ولفت التقرير إلى وجود تساهل مع انتهاكات حقوق العاملات المسجلة، بحجة "الحفاظ على مواطن العمل"، مما أدى إلى ضياع حقوق آلاف العمال والعاملات.
العودة لنقطة الصفر
منال (25 عاماً)، عاملة بأحد مصانع النسيج في المنستير أيضاً، وتعود أصولها لمحافظة القيروان وسط غرب تونس، دفعتها الظروف بعد وفاة والدها، لترك قريتها الصغيرة، ودخول معترك العمل منذ عمر الـ15.
كابدت منال كثيراً، لكنها في كل مرة كانت تكابد من أجل دعم عائلتها من جهة، وإثبات أنها قادرة على العمل وتأمين راتب شهري من جهة أخرى، حتى وإن لم يسعفها الحظ لمواصلة دراستها، ونيل الشهادة التي أرادتها دائماً.
تقول منال: "منذ عشر سنوات لم أحس بالخوف من الحاجة كما أحس الآن، فقد كنت أبذل جهوداً كبيرة لكسب راتب جيد، حتى أنني أعمل لساعات إضافية كلما طلب مني ذلك، ما دام بمقابل مضاعف عن ساعات الدوام الرسمية".
استطاعت منال من خلال دخلها تأمين حياة مستقلة، وإن كانت دون مستوى طموحاتها، ولكن يظل الأهم بالنسبة لها تأمين تكاليف علاج والدتها، ومصاريف إخوتها الصغار.
أما بعد إجراءات الحظر، بدأ يعود لمنال الإحساس بالخوف، تقول لرصيف22: "اليوم، وللمرة الأولى أساق فيها للبطالة التي فرضها واقع الحجر الصحي العام في البلاد، لا سيّما وأنّ ذلك تزامن مع فترة إجراء والدتي عملية جراحية أنفقت فيها كلّ ما لديّ من مال".
"الاستيقاظ الباكر، ساعات العمل الطويلة، آلام الظهر والمفاصل، وصراعي اليومي الكريه مع المواصلات العمومية، كلها ضمن عاداتي، لكني لن أستطيع تحمّل فكرة الطَّرد لعدم سدادي الإيجار، والعودة لمنزل والدي"
ويربك هذا الوضع منال كثيراً، فهي تخشى أن تطول هذه الفترة، فتخسر منزلها الصغير الذي استأجرته، بعد أن اختارته بعناية في منطقة جميلة، وهيأته ليحتضن عالمها الصغير، فصاحب البيت لن يمهلها شهراً آخر أو أكثر للبقاء فيه دون أن تدفع له، ووالدتها هي الأخرى بحاجة لشراء الكثير من الأدوية، وقد يسوء وضعها الصحي إذا لم تتوفَّر قريباً.
"أخشى أن أعود لنقطة الصفر التي كنتها عندما بدأت العمل لأول مرة، تحملت الكثير لتجاوز تلك المرحلة، وأخاف أن تدفعني الظروف الراهنة إليها مجدداً، فقد لا أملك ذات العزيمة لأنهض مرة أخرى، زد على ذلك أن أمي ليست كسابق عهدها، سيكون من الصعب عليّ تحمل عجزي عن مساعدتها وهي بأمس الحاجة لي"، تضيف منال.
وقد تنتهي مخاوف هدى ومنال، وبقية العاملات في المصانع التي رفض أصحابها دفع أجورهن لفترة الحجر العام المفروض في البلاد، بعد اتفاق وزارة الشؤون الاجتماعية والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية والاتحاد العام التونسي للشغل، الثلاثاء، على تمكين العمال من أجورهم كاملة بالنسبة لشهر إبريل، على أن تساهم الدولة بدفع 200 دينار، فيما تتكفل المؤسسة المشغلة بصرف بقية الأجرة.
"أخشى الرجوع لبيت أبي"
ريمة، (اسم مستعار) 27 عاماً، من مدينة قابس جنوب شرق العاصمة، أدت وفاة والدتها وزواج والدها بعد ذلك إلى انقطاعها عن الدراسة في المرحلة الثانوية، قرارها الخروج للعمل، العيش بمفردها بعيداً عن بيت أسرتها وتحمل مسؤولية مصاريفها، فانتهى بها المطاف في أحد مصانع النسيج والملابس الجاهزة بالعاصمة.
ساعدها العمل على تأسيس حياتها الجديدة، ورغم إمكانياتها المادية المحدودة إلا أنها كانت سعيدة لأنها لم تضطر، على مدار أكثر من سنوات، لطلب المساعدة من والدها الذي ألهته زيجته الجديدة عن مسؤولياته تجاهها، لكن اجتاحها الخوف مؤخراً من مغبّة اقتطاع راتبها بسبب الحجر العام.
تقول ريمة لرصيف22: "عملي شاق جداً، لكن السنوات الطويلة والحاجة لراتب ثابت جعلاني أتأقلم مع التعب، بل وأواجه كل شيء بابتسامة ورضى، ما دام ذلك يمنحني القدرة على تحمل مسؤولية نفسي ويعفيني من الحاجة إلى الآخرين".
"مالك البيت هددني بالطرد إذا لم أدفع".
"الاستيقاظ الباكر، ساعات العمل الطويلة، آلام الظهر والمفاصل وصراعي اليومي المقيت مع وسائل النقل العمومية، كلها باتت ضمن عاداتي التي ألفتها، لكن حتماً لن أستطيع احتمال فكرة أنني قد أُدفع لطلب العون من والدي الآن بسبب أزمة كورونا، حتى أؤمن مصاريفي اليومية، وأفي إيجار منزلي وأتجنب الطرد، لا سيما وأن صاحب البيت هددني بذلك إذا لم ألتزم بدفع مستحقاتي الشهرية".
تخشى ريمة عدوى كورونا، ولكن ما تخشاه أكثر أن تجد نفسها مطرودة من المنزل بسبب عدم استطاعتها سداد تكاليف الإيجار، والعودة لمنزل والدها الذي تشعر بالغربة فيه بعد رحيل والدتها، وبالنسبة لها يمثّل هذا خياراً مفزعاً.
وكان الاتحاد العام التونسي للشغل قد طالب الحكومة وأصحاب المؤسسات بتأمين أجور العمّال طيلة مدة الأزمة، كما دعا الحكومة إلى اتخاذ إجراءات اجتماعية إضافية تشمل جميع القطاعات والمهن والمؤسسات، خاصة إذا طالت فترة الحجر العام.
ويذكر أن اللجنة الوطنية لمجابهة وباء كورونا قد قرَّرت تمديد الحجر الصحي العام حتى الثالث من مايو، في انتظار عرضه على مجلس الأمن القومي للمصادقة عليه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون