يُعرّف علم النفس التعاطف على أنه القدرة على فهم مشاعر الآخرين وأفكارهم، وبالتالي، من الصعب علينا تخيّل أن هذه الكلمة التي تتضمّن أهم وأسمى المعاني البشرية، يمكن أن تحمل جوانب مظلمة، ولكن في الواقع هناك أنواع من التعاطف التي بوسعها أن تدمّر العلاقات الإنسانية، فتتحوّل من "نعمة" إلى "نقمة"، تؤثر سلباً على حياة الفرد وعلى الأشخاص من حوله.
الجانب المظلم
يعتبر الكثير من الأشخاص أن التعاطف هو أساس و"مدماك" العمل الأخلاقي، ومع ذلك فإن التعاطف قد يحمل جوانب سلبية ومؤذية بشكل لا يصدق.
ففي العام 2019، نشر عالم النفس الألماني فريتز بريتهاوبت، كتاباً بعنوانIn The Dark Sides of Empathy (الجانب المظلم للتعاطف)، أثار جدلاً كبيراً بين أوساط علماء النفس، إذ عمد الكاتب للغوص في النظريات الشائعة والدوافع الكامنة وراء السلوك البشري للتعاطف، بالإضافة إلى تسليط الضوء على الوجه الآخر من التعاطف.
وتوصل الكاتب إلى الكشف كيف أن النرجسية، السادية وهاجس الشهرة، تشق طريقها في بعض المزايا التي تفرّق البشر عن سائر المخلوقات، بحسب ما قاله: "التعاطف هو ما يجعلنا بشراً، ومن السذاجة أن نتخيل أنه بإمكاننا التخلي عن التعاطف في حياتنا".
إلا أن فريتز حثّ القراء على ضرورة الفصل بين التعاطف المرتبط بالمعايير الأخلاقية، والتعاطف الذي يحوي في طياته جوانب سلبية.
ففي حين نوّه بأن التعاطف بحدّ ذاته ليس فعلاً سيئاً، إلا أنه أكد أن هناك سلوكيات سلبية تُرتكب بسببه، إذ إن بعض الأشخاص يرتكبون "الفظائع"، ليس بسبب فشلهم في الشعور مع الآخرين، بل بسبب إفراطهم في التعاطف معهم.
"التعاطف هو ما يجعلنا بشراً، ومن السذاجة أن نتخيل أنه بإمكاننا التخلي عن التعاطف في حياتنا"
من هنا اعتبر فريتز أن التعاطف يعزز التفكير القائم على منطق الأبيض والأسود ويقسّم العالم بوضوح بين صديق وعدو، مشيراً إلى أن التعاطف يلعب دوراً محورياً في مجموعة متنوعة من السلوكيات التي يترتب عليها مشاكل جمّة: "من القسوة البسيطة إلى الإرهاب، من الاستغلال إلى السادية، ومن مصاص الدماء العاطفي إلى المطاردة، فإن التعاطف قد يحفز ويعزز الأفعال الخبيثة"، وفق قوله.
واللافت أنه بعد تتبع تاريخ التعاطف كفكرة في الفلسفة الألمانية، تعمّق فريتز بريتهاوبت بتحليل سلسلة واسعة من الدراسات، بدءاً من متلازمة ستوكهولم، وصولاً إلى السياسة التي تعتمدها أنجيلا ميركل مع اللاجئين.
وفي هذا السياق، تحدث بريتهاوبت عن "التعاطف الماص للدماء"، أي حين يقوم البعض بالتلاعب بالآخرين بحجة الخوف عليهم وحمايتهم، على غرار ظاهرة "الآباء الهليكوبتر"، وهي ظاهرة نفسية واجتماعية تصف حال الأهل الذين يسيطرون بشكل محكم على حياة أبنائهم، فيراقبون تصرفاتهم ويقيّدونها حتى يفقد الطفل القدرة على الإبداع.
والمفارقة أن كلّ تصرفات الآباء في هذه الحالة تكون باسم الحب وبذريعة التعاطف مع أطفالهم، والخوف عليهم من الأذى الذي قد يتعرضون له، غافلين عن حقيقة أنهم من خلال تعاطفهم المفرط يؤثرون سلباً على أولادهم، بحيث أنهم يفرضون عليهم شكل حياة معيّناً، ويتدخلون في كل تفصيل مهما كان صغيراً، وبالتالي فإنهم يتصرفون وفق ما يناسب مصلحتهم الشخصية وليس مصلحة الأبناء.
والأمر نفسه ينطبق على بعض الأزواج، بحيث يقوم أحدهم بالتعاطف مع الآخر بشكل مبالغ به، فينتهك خصوصيته ويسلبه حريته، ويرسخ في ذهنه شعوراً بأنه لن يستطيع العيش بدونه، وهكذا سرعان ما يتحول الطرف الثاني إلى "دمية" بيد الشريك الذي يبالغ في تعاطفه واهتمامه.
ونظراً لكون التعاطف ميزة إنسانية بامتياز، قد يسأل البعض: هل التعاطف مرتبط بجزء محدد في الدماغ البشري؟
في مقابلة أجراها معه موقع npr كشف فريتز بريتهاوبت، أنه لفترة من الوقت كان علماء الأعصاب يعتقدون أن هناك مركزاً محدداً للتعاطف في الدماغ، مرجحين فكرة أن تحليل هذه المنطقة من الدماغ تسمح بفهم التعاطف، ولكن في وقت لاحق، أدرك هؤلاء أن التعاطف لا يكمن في مكان واحد في أدمغتنا، بل في كل مكان، إذ أظهرت دراسات أننا نستخدم كل جزء من دماغنا عند الأفعال، المشاعر ومراقبة الآخرين، بمعنى آخر فإن الدماغ كله ينخرط في عملية التعاطف.
وعن هذه النقطة، قال فريتز: "هذا يغيّر الكثير من الأشياء، إذ يظهر لنا أن التعاطف يؤثر على كل تفكيرنا. إنه معنا في كل لحظة".
التعاطف المزيّف
في خضم عصر التكنولوجيا الذي نعيشه ومع اتساع رقعة مواقع التواصل الاجتماعي، مشاركة المقاطع المصورة والهوس بعدد اللايكات والمشاهدات، ازدادت رغبة البعض في الظهور بمظهر الشخص البطل/ المنقذ، الذي يقوم باستغلال ضعف وفقر وعوز الآخرين لكي يشبع غروره الكامن في نفسه من جهة، وارضاء الرأي العام من جهة أخرى، فيبدي تعاطفه الكامل ودعمه العاطفي والمادي تحت أعين الكاميرات، أما في حال لم يكن هناك طرف ثالث، أي مشاهدون، فإنه لن يشعر بأي إحساس جميل، وذلك لكونه يهتم فقط بما يراه المجتمع، وبالتالي يعتبر أن الشخص الذي تعاطف معه مجرد وسيلة لإشباع غروره الداخلي.
في حديثه مع موقع رصيف22، اعتبر الأخصائي في علم النفس، هاني رستم، أنه لا يوجد تعاطف سلبي بالمعنى العام، موضحاً أن التعاطف هو عبارة عن حالة إنسانية جميلة، تخلق في العادة حالة إيجابية، إذ تسمح للناس بالتواصل مع بعضهم البعض على صعيد إنساني عال، كما يكون هناك نوع من التساوي بين مستوى الإنسانية: "إذا بكون عم بتعاطف مع حدا، بصير شوفو كإنسان، كشخص بيشبهني وبكون قادر أتواصل مع مشاعره، مع حكايته وقادر كون عم حس فيه كإني موجود محلّو".
وتحدث رستم عن "ادّعاء" التعاطف، الذي تعززه بشكل خاص وسائل التواصل الاجتماعي لدى الأشخاص النرجسيين: "في أشخاص بيدّعوا التعاطف ليجربوا يبرهنوا شي للمجتمع يلّي حولن، ويعطوا صورة ملمعة عن أنفسهم".
إلا أن هاني أكد أن هذا النوع من التعاطف يكون مصطنعاً، بخاصة وأن، وعلى عكس التعاطف الحقيقي، حيث يكون الجميع متساوياً على المستوى الإنساني، التعاطف المزيّف يقوم على power dynamics (ديناميات الطاقة): "وقت شخص عندو سلطة معيّنة يمارسها على شخص ما عندو سلطة، يعني وقت أشفق مثلاً على حدا وشوف حالي أهم، هيدا الشي بيرضيلي غروري".
وأشار هاني رستم إلى أن التعاطف المزيّف وإبداء الشفقة على الأشخاص، كلها أمور تعزز شعور الآخرين بأنهم ضحايا: "أنا عم بشفق عليك لأنو في نقص جواتي بس كمان الطرف الآخر عم ياخد benefits (فوائد)، متل أني أعترف فيه وأعترف بوجعو".
التعاطف الصحي
أكد موقع سيكولوجي توداي أن هناك جانبين للتعاطف: فمن جهة، نحن بحاجة إلى الآخرين لكي يشعروا معنا ويساندونا ويقدموا لنا الدعم العاطفي، بخاصة وأن التناغم في المشاعر بيننا وبين الآخر يعزز العلاقات والروابط الإنسانية ويجعل التواصل أعمق، ولكن في المقابل، إن الشعور بألم الآخرين يرغمنا على بذل الكثير من الجهد من أجل التكيّف معهم، الأمر الذي يمكن أن يستنزف قوانا ويجعلنا نهمل أنفسنا لصالح الآخرين.
من هنا ركز الموقع على أهمية تنظيم العاطفة، فإذا تمكنّا من إدارة عواطفنا بنجاح، فبإمكاننا حينها الانكباب على فهم وإدراك مشاعر الآخرين، من دون أن يؤثر ذلك على حياتنا.
"إذا بكون عم بتعاطف مع حدا، بصير شوفو كإنسان، كشخص بيشبهني وبكون قادر أتواصل مع مشاعره، مع حكايته وقادر كون عم حس فيه كإني موجود محلّو"
بمعنى آخر، إن التعاطف الصحي يبدأ من تعاطفكم مع أنفسكم، فإن لم تكونوا متعاطفين مع ذواتكم، فإنه من الصعب أن تجيدوا التعاطف الصحي مع الآخرين، فالحفاظ على تناغمنا العاطفي يفيدنا ويسمح لنا في الوقت نفسه بأن نكون متاحين للآخرين.
إذن التعاطف مهم جداً بالنسبة لنا، لدرجة أنه لا يمكننا تجاهله. نعم، نحن لدينا استعداد بيولوجي للتعاطف، ولكن علينا أيضاً أن نهتم به ونرعاه، وهي مهمة تعليمية لمدى الحياة، فنحن في نهاية المطاف لا نستطيع أن نمارس التعاطف مع الآخرين إذا لم نعامل أنفسنا بعطف ورحمة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...