يأتي هذا المقال ضمن الملفّ الذي أُطلق منذ شهر مارس/أذار 2020, في قسم "رود تريب" بـرصيف22، والمعنوَن: "داوِ الهمومَ بقهوةٍ سوداءِ... المقاهي العربية".
يشهد مقهى إيليت في شارع صفية زغلول في محطة الرمل بالإسكندرية، على حالة التغير التي شهدتها حياة "بنت الإسكندر" في العقود الأخيرة؛ الشارع الذي أحتفظ بروائح المدينة القديمة التي كانت ملتقى الثقافات والحضارات، ومرّ عليه آلاف البشر من الجنسيات المختلفة التي احتشدت وسط التركيبة السكانية السكندرية طوال النصف الأول من القرن العشرين. هُنا حيث عاش اليونانيين والإيطاليين والفرنسيين والأرمن في قلب النسيج الوطني المصري، مشكلين جزءاً أصيلاً من تركيبة المجتمع، لكن كل ذلك قد تغير الأن، في زيارة رصيف22 للمقهى الخشبي القديم، يمرّ طيف المدينة الكوزمبوليتانية كالحلم، ونرى تحولاتها وتغيراتها، وانتقال المجتمع المصري من زمن الأخوين وانلي وداليدا، إلى زمن حمو بيكا.
مدام "إيليت"
حكاية المقهى بدأت في أوائل القرن العشرين، مع مدام إيليت التي أسّست المكان؛ الذي كان مفتوحاً في بداياته، بدون أيّ جدران أو مبانٍ. الكراسى تصطفّ فى الشارع، ويحيط بها سور خشبى بمظهر بسيط جذاب من الخارج، مجرد كوخ كبير كان الزوارُ يلمسون داخله روحَ المدينة.
بعد وفاة مؤسسة المقهى، قامت اليونانية "كريستينا كوستانتينو" باستئجار المكان من الكنيسة اليونانية المالكة للأرض عام 1953م، لتبدأ هي وزوجها "ميخال" في إدارته، ويفتح كتاب الصعود الكبير أول صفحاته؛ ذلك الصعود الذي خلّد المقهى في تاريخ المدينة.
جلابية "كريستينا"
وسط أبناء الجالية اليونانية بالإسكندرية، كانت هناك السيدة الجميلة "كريستينا كوستانتينو" التي تحوّل معها "إيليت" لأحد أبرز الأماكن والأيقونات الثقافية والتاريخية في تاريخ عروس المتوسط. كانت مصر في بدايات الخمسينيات بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، عندما قرّرت كريستينا استئجار المقهى الخشبي الصغير في محطة الرمل، لتنجح بروحها المتميزة وثقافتها أن تجعله المقهى الأشهر بين مقاهى الإسكندرية. وذلك على الرغم من صغر حجمه ومساحته المتوسطة وبساطته مقارنة بغيره من الأماكن الفخمة التي كان يرتادها الأثرياء.
أشتهرت كريستينا طوال خمسة عقود أدارت فيها المقهى، بعشقها للجلابية البلدية المصرية التي كانت ترتديها دائماً، منطلقة في جنبات المقهى الذي أصبح أشبه بالنادي الاجتماعي والثقافي، بعد أن تنوعت زبائنه بين مختلف الفئات، منهم الشباب ورجال الأعمال والمتقاعدون والمسنون، كلّهم جمعهم "إيليت" الذي تحول عبر السنين إلى الحصن الذي احتضن ذكريات الجميع.
أعطت كريستينا لإيليت من روحها، وأعطاها إيليت كلّ شيء؛ فقد تحولت كريستينا الجميلة لواحدة من أشهر أبناء الجالية اليونانية فى الإسكندرية، حتى أصبحت أحد ملهمات الشاعر اليوناني الكبير "قسطنطين كفافيس" الذي عاش حياته في الإسكندرية
تخصص المقهى منذ بداياته في تقديم المشروبات والمأكولات اليونانية والشرقية ذات المذاق الخاص، وسط أجواء ساحرة بمصاحبة أنغام الموسيقى الشرقية والأوروبية الكلاسيكية، التي تعانق الحوائط الخشبية العتيقة.
كوخ خشبي على الطّراز اليوناني
يقع المقهى والمطعم السكندري الأشهر في منتصف الشارع التجاري الصاخب، ويتكوّن من مبنى خشبى من طابق واحد على شكل كوخٍ. إحساس بالراحة والرحابة يغلف لحظاتنا الأولى داخل إيليت، الجدران بيضاء تحتضن المصابيح المتلألئة والنوافذه الكبيرة المصممة من الزجاج الأبيض الشفاف تصنع درجة الإضاءة الساحرة في ساعات الظهيرة، كلمة "إيليت" بالعربية والإنكليزية في المدخل تستقبل روّاد المكان، والطراز اليونانى الفريد يسيطر على التصميمات الداخلية.
لإيليت مدخل واحد ينقسم إلى بوابتين في شكل نصف دائرى. الجدران الداخلية للبار داخل المقهى ذات طابع أوروبي بلونها البنيّ الداكن. ديكورات خشبية تغلف التصميم والطرقة الطويلة ساحرة بمجموعة اللّوحات الفنية الأصلية على جدرانها لأقطاب الفنّ التشكيلي. تلك المجموعة من اللوحات لأشهر الفنانين العالميين، منهم اليوناني فافياديس، والفرنسي براك، وبورتريه لكفافيس شاعر الإسكندرية، ولوحة للفرنسى ماتيس، والتشكيلي المصري عصمت داوستاشي، بالإضافة لمجموعة من الصور القديمة لمدام "إيليت"، صاحبة المقهى الأصلية، تجاورها صور للمالكة الثانية التي انتقلت إليها ملكية المقهى وصنعت مجده، اليونانية "كريستنينا".
أعطت كريستينا لإيليت من روحها، وأعطاها إيليت كلّ شيء؛ فقد تحولت كريستينا الجميلة لواحدة من أشهر أبناء الجالية اليونانية فى الإسكندرية، حتى أصبحت أحد ملهمات الشاعر اليوناني الكبير "قسطنطين كفافيس" الذي عاش حياته في الإسكندرية، وارتبط بالمقهى فى خلال السنوات الأخيرة من حياته، وبالقرب من نوافذة الزجاجية كتب العديد من قصائده الشهيرة.
بحر النجوم
على درجات سلم خشبي قصير، نأخذ طريقنا داخل إيليت إلى قاعة الموسيقى اليونانية، التي تجاورها صالة الطعام التي تقدم أشهى المأكولات على الطريقة اليونانية، وعلى رأسها السمك بدون الردة وكثير من المأكولات البحرية.
قام المغنى اليونانى العالمي ديميس روسوس بزيارة المكان اثناء رحلته إلى الإسكندرية لاستعاده ذكريات طفولته القديمة في المدينة الساحلية
لم يكن كفافيس فقط هو الزبون الشهير الوحيد لإيليت، بل كان هُنا أيضاً الفنانان التشكيليان، سيف وأدهم وانلي، اللذان قدّما العديد من معارضهما على حوائط أيليت. وكان سيف وانلي يرسم للزبائن على علب السجائر لتباعَ العلبة بجنيه فقط، كما كان أديب نوبل نجيب محفوظ من المترددين على المكان في زياراته للإسكندرية، بالإضافة إلى كوكب الشرق أم كلثوم وداليدا والشعراء أمل دنقل وأدونيس، والمخرج السينمائي يوسف شاهين، والملكة فريدة والملكة ناريمان وزوجها. وأيضاً قام المغنى اليونانى العالمي ديميس روسوس بزيارة المكان اثناء رحلته إلى الإسكندرية لاستعاده ذكريات طفولته القديمة في المدينة الساحلية. بين جنبات إيليت اختلطت تلك النخبة الفنية والاقتصادية مع طبقات المثقفين السكندريين المختلفة.
المجد الغابر والثغر الذي تريّف
أين ذهبت الإسكندرية التي كانت تنير القلوب والعيون بتنوعها؟ هذا هو السؤال الذي يبحث عن إجابة بين زبائن إيليت التاريخيين. يتذكر الفنان التشكيلي مصطفى رحمة، أيامَ المجد الغابر للمدينة ولإيليت، فيكتب عبر حسابه الشخصي على فيسبوك: "لما كنت أنزل إسكندرية في أوائل التسعينات، كنت حريصاً على الذهاب للجلوس في إيليت. كان المكان يحمل روح الإسكندرية و جمالها، وكان يكشف حركة الشارع. وتلك كانت متعة في حدّ ذاتها. في ذلك الوقت كانت مدام كريستينا تشرف على حركة العمل في المكان. وأتذكر أني تحدثت معها ذات مرة، وجاءت سيرة قسطنطين كفافيس و يوسف شاهين و غيرهم من روّاد المكان، ممن جعلوا من إيليت معلماً من معالم الإسكندرية".
ويضيف مصطفى رحمة في منشوره: "مع وفاة كريستينا، انتقل المقهى لإدارة مصرية، و طبعاً الإدارة المصرية قرّرت أن المكان يحتاج إلى تجديد، فهدموا الجدران واختفت اللوحات التشكيلية التي لا تقدّر بثمن، و منها بورتريه كفافيس و لوحات ماتيس وبيكاسو والأخوان وانلي. وقررت تلك الإدارة أنه لا يصحّ أن يرى المارّةُ في الشارع الجالسين داخل المقهى فأغلقوا الشبابيك، وأصبح إيليت لا يقدّم الطعام إلا بطريقة الـ(تيك أواي). ذهبت إليه مرة أخرى بعد ذلك، ولكن المكان لم يصبح هو المكان بعد أن تريفت المدينة. وأصبحتُ كلما ذهبت إلى الإسكندرية، أحاول تجنب المرور بالقرب منه. إيليت الذي تبقى تحولاته شاهداً على ما حدث للإسكندرية الكوزمبوليتانية. كأن إيليت قد رفض أن يتماسك وهو يرى المدينة التي شهدت أيام مجده وهي تتداعى".
أما الروائي المصري إبراهيم عبد المجيد فيتذكر خلال حديثه مع رصيف22 أولَ مرّة يقوم فيها بزيارة إيليت، والتي كانت في بدايات السبعينيات. يقول صاحب "لا أحد ينام في الإسكندرية": "كان المكان متوهجاً في ذلك الوقت بحشدٍ من النخبة المثقفة المصرية. كنا نجد الأخوين وانلي وتحاوطهم نخبة الوسط التشكيلي السكندري من جهة. وعلى الجانب الآخر كنا نجد المجموعات الأدبية السكندرية تتناقش في قضايا تلك المرحلة. كما استقطب المكان عشرات النجوم طوال تاريخه، في الغناء والموسيقى والسينما. وعندما أفكر في الفارق بين تلك الزيارة، وآخر مرة ذهبت فيها لإيليت منذ عدة سنوات، أجد الفارق شاسعاً. لم يبق إيليت كما كان، ولم تعد الإسكندرية، هي تلك الحالمة القديمة".
انضم/ي إلى المناقشة
jessika valentine -
منذ أسبوعSo sad that a mom has no say in her children's lives. Your children aren't your own, they are their father's, regardless of what maltreatment he exposed then to. And this is Algeria that is supposed to be better than most Arab countries!
jessika valentine -
منذ شهرحتى قبل إنهاء المقال من الواضح أن خطة تركيا هي إقامة دولة داخل دولة لقضم الاولى. بدأوا في الإرث واللغة والثقافة ثم المؤسسات والقرار. هذا موضوع خطير جدا جدا
Samia Allam -
منذ شهرمن لا يعرف وسام لا يعرف معنى الغرابة والأشياء البسيطة جداً، الصدق، الشجاعة، فيها يكمن كل الصدق، كما كانت تقول لي دائماً: "الصدق هو لبّ الشجاعة، ضلك صادقة مع نفسك أهم شي".
العمر الطويل والحرية والسعادة لوسام الطويل وكل وسام في بلادنا
Abdulrahman Mahmoud -
منذ شهراعتقد ان اغلب الرجال والنساء على حد سواء يقولون بأنهم يبحثون عن رجل او امرة عصرية ولكن مع مرور الوقت تتكشف ما احتفظ به العقل الياطن من رواسب فكرية تمنعه من تطبيق ما كان يعتقد انه يريده, واحيانا قليلة يكون ما يقوله حقيقيا عند الارتباط. عن تجربة لم يناسبني الزواج سابقا من امرأة شرقية الطباع
محمد الراوي -
منذ شهرفلسطين قضية كُل إنسان حقيقي، فمن يمارس حياته اليومية دون ان يحمل فلسطين بداخله وينشر الوعي بقضية شعبها، بينما هنالك طفل يموت كل يوم وعائلة تشرد كل ساعة في طرف من اطراف العالم عامة وفي فلسطين خاصة، هذا ليس إنسان حقيقي..
للاسف بسبب تطبيع حكامنا و أدلجة شبيبتنا، اصبحت فلسطين قضية تستفز ضمائرنا فقط في وقت احداث القصف والاقتحام.. واصبحت للشارع العربي قضية ترف لا ضرورة له بسبب المصائب التي اثقلت بلاد العرب بشكل عام، فيقول غالبيتهم “اللهم نفسي”.. في ضل كل هذه الانتهاكات تُسلخ الشرعية من جميع حكام العرب لسكوتهم عن الدم الفلسطيني المسفوك والحرمه المستباحه للأراضي الفلسطينية، في ضل هذه الانتهاكات تسقط شرعية ميثاق الامم المتحدة، وتصبح معاهدات جنيف ارخص من ورق الحمامات، وتكون محكمة لاهاي للجنايات الدولية ترف لا ضرورة لوجوده، الخزي والعار يلطخ انسانيتنا في كل لحضة يموت فيها طفل فلسطيني..
علينا ان نحمل فلسطين كوسام إنسانية على صدورنا و ككلمة حق اخيرة على ألسنتنا، لعل هذا العالم يستعيد وعيه وإنسانيته شيءٍ فشيء، لعل كلماتنا تستفز وجودهم الإنساني!.
وأخيرا اقول، ان توقف شعب فلسطين المقاوم عن النضال و حاشاهم فتلك ليست من شيمهم، سيكون جيش الاحتلال الصهيوني ثاني يوم في عواصمنا العربية، استكمالًا لمشروعه الخسيس. شعب فلسطين يقف وحيدا في وجه عدونا جميعًا..
محمد الراوي -
منذ شهربعيدًا عن كمال خلاف الذي الذي لا استبعد اعتقاله الى جانب ١١٤ الف سجين سياسي مصري في سجون السيسي ونظامه الشمولي القمعي.. ولكن كيف يمكن ان تاخذ بعين الاعتبار رواية سائق سيارة اجرة، انهكته الحياة في الغربة فلم يبق له سوى بعض فيديوهات اليوتيوب و واقع سياسي بائس في بلده ليبني عليها الخيال، على سبيل المثال يا صديقي اخر مره ركبت مع سائق تاكسي في بلدي العراق قال لي السائق بإنه سكرتير في رئاسة الجمهورية وانه يقضي ايام عطلته متجولًا في سيارة التاكسي وذلك بسبب تعوده منذ صغره على العمل!! كادحون بلادنا سرق منهم واقعهم ولم يبق لهم سوى الحلم والخيال يا صديقي!.. على الرغم من ذلك فالقصة مشوقة، ولكن المذهل بها هو كيف يمكن للاشخاص ان يعالجوا إبداعيًا الواقع السياسي البائس بروايات دينية!! هل وصل بنا اليأس الى الفنتازيا بان نكون مختارين؟!.. على العموم ستمر السنين و سيقلع شعب مصر العظيم بارادته الحرة رئيسًا اخر من كرسي الحكم، وسنعرف ان كان سائق سيارة الاجرة المغترب هو المختار!!.