يأتي هذا المقال ضمن الملفّ المُعدّ لشهر أكتوبر 2019, في قسم "رود تريب" بـ"رصيف22" والمعنوَن "بصحتك يا ساقي... بارات عربية لا بدّ من زيارتها".
مدينة حرّة، جامحة لا يعترضها عائق، منحها البحرُ السِّحرَ والغموض، فكانت هي بهجة المصريين الحقيقية؛ تلك هي الإسكندرية، المدينة الكوزموبوليتانية، الأكثر انفتاحًا على العالم، عبر شواطئها المطلّة على البحر الأبيض المتوسط. هذا الانفتاح الذي جعلها بوتقة لمختلف الأعراق والجنسيات الأجنبية التي عاشت طويلًا كجزء أصيل من المجتمع الإسكندري، وخلفت تاريخًا وميراثًا، حفظته الأجيال المتعاقبة، حتى صار جزءًا من تاريخ هذا البلد.
كلّ ذلك، شكّل الوجه الحضاري والمدني لتلك المدينة الساحلية التي تسعى إلى البهجة كعقيدة، غير أن هذه الحالة المدنية، لم تستطع الصمود، أمام سطوة التيارات الإسلامية المتشدّدة، التي بدأت بالزحف في المجتمع المصري في تسعينيات القرن الماضي، وقامت بما يشبه حالة إبادة جماعية لكلّ وسائل المتعة في مدينة الإسكندرية، وكانت أولى تلك الحملات العدوانية موجّهة إلى البارات.
"البار" بوصفه مكانًا للسهر والمتعة، واحتساء المشروبات الكحولية، كان يمثّل حالة خاصة في المجتمع الإسكندري، متّسقة مع الروح الساحلية، والتعددية الثقافية التي تميزت بها المدينة على مرّ العصور. كانت هناك البارات الشعبية والأجنبية، منتشرة في أحياء "العطارين"، "محرم بيه"، "الإبراهيمية"، "المنشية"، "المكس"، و"كوم بكير"، لكنها لم تعد موجودة الآن، حيث تحوّل أغلبها إلى محلّات تجارية، وأُغلق البعض الآخر، في فترة مشؤومة، عرفت بـ"خلجنة ووهبنة الدولة المصرية"، ومن بين تلك الأماكن، مقهى "الوطنية"، الذي كانت يجمع بين القهوة والخمارة معًا، وقد أغلق كخمّارة في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، حينما اشتراها أحدُ السعوديين بمبلغ عشرة ملايين جنيه.
عالم البارات وأجواء السهر على شواطئ البحر، كانت مصدر إلهام، للقاصّ والروائي الإسكندري مصطفى نصر، الذي لا تخلو أعماله الروائية والقصصية من هذه العوالم، ولا يزال صاحب "يهود الإسكندرية" يحتفظ في ذاكرته بالكثير عن بارات حيّ العطارين، وترعة المحمودية، وشارع البير
وثمة محو تام، لبارات ساحل المحمودية، الذي كان يعجّ بالمقاهي البلدية، والخمارات. والأفدح من ذلك هو ما حدث في حارات حيّ العطارين؛ فالحارة الواحدة، كانت تضمّ 10 بارات على الأقلّ، لمختلف الجنسيات؛ فكانت هناك العديد من البارات الإيطالية والفرنسية، يجاورهم، البار السوداني، والحبشي، واليمني والأفغاني، كلّ هذا لم يعد موجودًا الآن، بل اندثر تحت حطام الوجه الحضاري للمدينة العريقة.
كان من الطبيعيّ وجود هذا العدد الهائل من البارات في مدينة الإسكندرية، ويرجع ذلك إلى كونها، المصدر الأول لصناعة الخمور في مصر، ففى العام 1897 اختارها مستثمرون من بلجيكا لتكون حاضنة لأول مصنع "بيرة" فى مصر، وكان اسم المصنع "كراون".
وفى العام التالى 1898 أسّسوا فى القاهرة، مع مستثمرين آخرين، مصنعًا آخــرَ اسمه "بيراميد"، ثمّ تمّ دمج المصنعين في أوائل الستينيات من القرن الماضي، ويوجد بها مقارّ أربع شركات للخمور، تتبع "شركة الكروم" للكحول، المملوكة للدولة، وذلك وفق ما ذُكر في كتاب "كلوت بك" للكاتب سمير زكي، الصادر عن دار "ميريت " للنشر بالقاهرة، ويسرد الكتابُ تاريخ صناعة وبيع الخمور في مصر.
استمدّ بار "مونتي" اسمه من المارشال "مونتغمري" الذي اعتاد السهر فيه، أثناء الحرب العالمية الثانية، كما كان مونتي، البارَ المفضّل للكاتبة الشهيرة، أغاثا كريستي
عالم البارات، والخمارات، وأجواء السهر على شواطئ البحر، كانت مصدر إلهام، للقاصّ والروائي الإسكندري مصطفى نصر، الذي لا تخلو أعماله الروائية والقصصية من هذه العوالم، ولا يزال صاحب "يهود الإسكندرية" يحتفظ في ذاكرته بالكثير عن بارات حيّ العطارين، وترعة المحمودية، وشارع البير، الذي كان عنوانًا لإحدى رواياته.
كان "إيليت"، شاهدًا على الحوار التاريخي بين "كفافيس"، والكاتب اليوناني الكبير "كازانتزاكيس"، أثناء رحلته إلى مصر في عام 1927. البار الشهير لم ينجُ من الهجمات المستعرة ضدّ أماكن البهجة في الإسكندرية، حيث اقتطع منه جزء لصالح محلّ عصير الفواكه
يقول "نصر" لـ"رصيف 22": الحكايات عن ليالي الأنس في الإسكندرية لا تنتهي، ولا تخفتي بمرور الزمن. أتذكر السهر في بارات ترعة المحمودية، عندما كانت تأتي فرقة الغوازي وعازفي الطبل البلدي، وتصبح الزوارق –في ترعة المحمودية- جندولات تموج باللهو البريء وغير البريء، وتتحوّل ضفّتي الترعة والغيطان والضواحي إلى "غرز" يحرق فيها الحشيش وتحتسي الخمر.
ويتابع الروائي: في الحي الشعبي الذي أعيش فيه، هناك من كانوا يعملون سقاة وخدمًا في هذه البارات، وقد كتبت عنهم في قصصي ورواياتي. تناقصت البارات، وقد تحوّل تورنا زكي -وهو بار قديم وكبير- إلى محلّ تجاري، وفي شارع العطارين، الذي كان مليئًا بالبارات، لم يتبقّ سوى باريْن؛ أحدهما في مواجهة بقال يوناني كنت اشتري منه البقالة دائمًا، وبار آخر في الناحية الأخري مجاورًا لقهوة مشهورة هناك.
جامع المخطوطات والوثائق النادرة، الباحث الإسكندري "مكرم سلامة"، يقول: لم يبق من بارات الإسكندرية، سوى ما يعادل "واحد على الألف" مما كان موجودًا، وكأن المدينة قد تبدّلت بأخرى. أحتفظ بوثائق قديمة، لبارات وخمارات، يعود تاريخها إلى عام 1910، ولديّ رخص لنساء حبشيات كنّ يبعن البوظة في الموالد الشعبية، وهذا ما يعكس حالة التعدّدية والمدنية التي كانت تتمتّع بها الإسكندرية، قبل تعرّضها للغزو الوهّابي والسلفي، الذي أطاح بكلّ هذا الميراث الثقافي، لتصبح المدينة بلا روح، فلم يعد بها سوى 6 بارات على الأكثر، أشهرهم بار "الشيخ علي"، ثمّ "سانتا لوتشيا"، "سان جيوفاني"، "سيسيل"، "سبيت فاير"، ومطعم وبار "إيليت" وكلّها تخوض حربًا ضارية في سبيل البقاء.
"إيليت".. متحف مفتوح
118 عامًا هي عمر أحد أشهر مطاعم وبارات الإسكندرية "إيليت" الذي أسّسته السيدة اليونانية "مدام إيليت" في مطلع القرن الماضي، في شارع صفية زغلول، قرب ميدان محطة الرمل، وفي عام 1953 انتقلت ملكيّته إلى سيدة يونانية أخرى هي "كريستينا كوستانتينو" وهي ابنة واحدة من أشهر العائلات اليونانية التي أقامت في الإسكندرية، ويُعتقَد بأنها كانت إحدى ملهمات الشاعر اليوناني الكبير "قسطنطين كفافيس" خلال سنواته الأخيرة.
"إيليت" ليس مجرّد مكانًا للسهر، بل يُعدّ جزءًا أصيلًا من التاريخ الفني والثقافي لمصر، حيث كان شاهدًا على ولادة التجربة التشكيلية الفريدة لسيف وأدهم وانلي، كما شهد لقاءات أيقونات السينما والطرب في مصر مثل: يوسف شاهين، عمر الشريف، أم كلثوم، وداليدا. وللشاعر اليوناني الأصل، الإسكندري الإقامة، قسطنطين كفافيس، ركن خاصّ في هذا المكان، ولاتزال قصائده تزيّن جدرانه، بجوار لوحات لكبار التشكيلين العالميين والمصريين.
كما كان "إيليت"، شاهدًا على الحوار التاريخي بين "كفافيس"، والكاتب اليوناني الكبير "كازانتزاكيس" أثناء رحلته إلى مصر في عام 1927. البار الشهير لم ينجُ من الهجمات المستعرة ضدّ أماكن البهجة في الإسكندرية، حيث اقتطع منه جزء لصالح محلّ عصير الفواكه.
"سبيت فاير" في مواجهة القبح والتشويه
بين فندق ضخم ومحلّات لبيع الملابس، يختبىء بار "سبيت فاير". يقع هذا البار في شارع البورصة القديمة بالمنشية، وقد أنشئ في نهايات القرن التاسع عشر على يد خواجه يوناني. تحكي جدران "سبيت فاير" قصصًا عن الزمن الإسكندري السعيد، حيث تمتلئ بملصقات شارات سفن، وبواخر، صور شخصية، بطاقات بريدية، وتوقيعات تركها أصدقاء للذكرى، ويتميز بالحيوية، رغم المضايقات التي يتعرّض لها من قبل أصحاب المحلّات.
أغاثا كريستي في بار "مونتي"
استمدّ بار "مونتي" اسمه من المارشال "مونتغمري" الذي اعتاد السهر فيه، أثناء الحرب العالمية الثانية، كما كان مونتي، البارَ المفضّل للكاتبة الشهيرة، أغاثا كريستي.
يقع البار في فندق "سيسل" الذي يُعدّ علامة من علامات كورنيش الإسكندرية، تأسس في عام 1929. ويتميّز مونتي بالأجواء القديمة، وإضاءته الخافتة، وكوكتيل توم كولينز.
"سان جيوفاني" وأنغام البيانو
مطعم وفندق تأسس عام 1938م. بُني في منطقة ستانلي، ويطلّ مباشرة على شاطئ البحر. يقدّم مطعمه، أطباقًا عالمية اشتهرت بالجودة منذ افتتاحه. العزف على البيانو، لا يتوقف في هذا المكان الذي يمتاز بأجوائه الكلاسيكية. ويزخر البار بالعديد من الكوكتيلات المميزة.
"سانتا لوتشا" والأطباق اليونانية
يقع مطعم وبار "سانتا لوتشا" في شارع صفية زغلول، ويمتاز بكلاسيكيته، وهدوئه. يشتهر هذا البار بالمشروبات والأطباق اليونانية، ويحظى بالكثير من الزبائن الأجانب الذين يأتون إلى مصر لقضاء وقت ممتع في تلك الأماكن التي أسّسها الأجانب في مصر. وتتلوّن جدرانه بالصور والرسومات التي تحفظ ذكريات المكان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...