يمسك الطفل بيد أمه بينما تسير مسرعة، قبل أن تتوقف عند محل لبيع المخبوزات، حيث يقف بائعان يتبادلان أطراف حديث بدا مازحاً. على الجهة المقابلة من الشارع، تشبث طفل أصغر سناً بساق والده، الذي كان منهمكاً في محاسبة البائع بعدما انتقى بعض الفاكهة، هذا فيما وقف أحدهم لتنظيم المرور في الشارع الذي بدت فيه حركة السيارات والدراجات البخارية مزدحمة. مشهد عادي للغاية، ولكنه لا يبدو كذلك حين تعرف أنه في دوار الساعة، أشهر ميادين إدلب، إدلب التي تلتقط أنفاسها رغم الجائحة.
مع بداية آذار/ مارس الماضي اتفقت تركيا، التي تدعم فصائل معارضة مسلحة، وروسيا، التي تدعم نظام بشار الأسد، على وقف لإطلاق النار في إدلب، آخر معاقل المعارضة، بعد أشهر من فواجع إنسانية أدت إلى نزوح ما يزيد عن مليون شخص، وفقاً للأمم المتحدة، وتدمير شبه كامل لبنية المدينة التحتية، ومع نهاية الشهر، أعلنت منظمة الصحة العالمية، فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) جائحة عالمية.
رغم المخاطر، كان الفيروس كالجرح الذي نفذ منه الضوء ليعود عشرات الآلاف إلى بلداتهم التي نزحوا منها، مستغلين هدوء الوضع، لكنه بقي جرحاً آخر في جسد الأهالي المليء بالندبات، إذ تنذر الأوضاع المعيشية التي يتكدس فيها مئات الآلاف في المخيمات، دون أدنى مقومات حياتية ونظام رعاية صحي مُدمر، بكارثة أخرى، لوباء أبسط طرق مواجهته تتمثل في التباعد الاجتماعي واستخدام المطهرات، ما يهدد حياة أكثر من 4 ملايين من سكان المحافظة.
بحسب منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان، فإن 923 عامل طبي قُتل في سوريا منذ عام 2011 وحتى آذار/ مارس من العام الجاري، كان 91% منهم على يد قوات الحكومة السورية وحلفائهم الروس. في إدلب بلغ إجمالي وفيات الطواقم الطبية 80 عاملاً، منهم 23 خلال الشهور الأخيرة من تصعيد الحملة العسكرية، التي استهدفت 60 منشأة طبية ومدنية.
وكشفت منظمة الصحة العالمية أن 70% من العاملين في المجال الصحي غادروا سوريا، وفي بيان لها قبل المخاوف من انتشار الفيروس، ذكرت أن "العائلات التي فرّت بحثاً عن الأمان تعاني من محدودية القدرة على الحصول على الرعاية الصحية ونقص في الأدوية الضرورية، ولديها حماية أقل ضد الأمراض المعدية، بسبب هشاشة جهاز المناعة"، وتؤكد على ذلك منظمة "أطباء بلا حدود"، التي قالت إن أكثر من 35% ممن تعاينهم في عياداتها المتنقلة يعانون أصلاً من مشاكل في الجهاز التنفسي.
وصل العجز لنسبة 500% في عدد الأطباء، الذين بلغ إجمالي عددهم في إدلب 600 طبيب حالياً، أي 1.4 طبيب لكل 10 آلاف شخص، بحسب محمد شهام مكي، مدير المختبر الوبائي في إدلب، الذي أوضح أن عدد أسرة المشافي في المدينة تصل إلى 3 آلاف تقريباً، أي سرير لكل 1363 شخصاً، إضافة إلى 200 سرير عناية مركزة، أي سرير لكل 21 ألف مواطن، و95 جهاز تنفس للبالغين و30 جهازاً للأطفال، كذلك عمّق إغلاق السلطات التركية معبر باب الهوى الحدودي نتيجة الجائحة، من العجز الطبي، حيث يتم تحويل عدد كبير من المرضى والمصابين إلى المشافي التركية.
رغم المخاطر، كان الفيروس كالجرح الذي نفذ منه الضوء ليعود عشرات الآلاف إلى بلداتهم التي نزحوا منها، مستغلين هدوء الوضع، لكنه بقي جرحاً آخر في جسد الأهالي المليء بالندبات، إذ تنذر الأوضاع المعيشية التي يتكدس فيها مئات الآلاف في المخيمات، دون أدنى مقومات حياتية ونظام رعاية صحي مُدمر
الكمامات ومستلزمات الوقاية قليلة للغاية
ويقول مدير المختبر المعني بتحليل عينات فيروس كورونا، إن ضعف الإمكانيات يؤثر بشكل كبير على قدرتهم في التعامل، إذ يوجد جهاز كشف (بي سي آر) واحد فقط في كل المدينة بمختبر الترصد الوبائي. في مارس الماضي كان هو الشخص الوحيد القادر على إجراء اختبارات الكشف.
ويشرح طريقة عمله لرصيف22: "نستقبل العينات من كافة مشافي إدلب عن طريق منسقين خاصين بالترصد للوباء، وكل منسق مسؤول عن منطقة، إذا كان فيه حالات مشتبهة يتعمم تعريف الحالة على المشافي ويذهب إليه منسق يأخذ عينة، وبعدين تنتقل العينة إلى المخبر في حافظات خاصة تؤمن بتبريد مناسب. حتى الآن أجرينا إجمالي 600 فحص (وقت كتابة التقرير) ولا توجد أي حالة إيجابية".
وعن المساعدات التي تتلقاها مديرية الصحة في إدلب لرفع الإمكانيات في ظل الظروف الراهنة، أشار مكي: "المخبر مدعوم من وحدة تنسيق الدعم وهي منظمة سورية غير حكومية، ويأتينا دعم إضافي من منظمة الصحة العالمية ولكنه لا يتجاوز (كيتات الفحص) الخاصة بجهاز البي سي آر"... سألت على مكي مجدداً: هل ذلك كل ما تتلقيه من أدوات من المنظمة فقط؟ وأجاب: "نعم".
تفرض إجراءات مجابهة الفيروس التباعد الاجتماعي وارتداء كمامات واستخدام المطهرات، لكن أياً من ذلك لا يتحقق في المدينة الواقعة في شمال غرب سوريا، فوفقاً لمكي: "للأسف لا يوجد أي التزام بأي إجراءات التباعد أو أي نصائح أخرى، لأن الناس هنا ذاقت ما هو أمر وأصعب من كورونا، من موت بالقصف وتمزق الأشلاء وغيره، فما اهتموا بخطورة الفيروس. مع ذلك بعض منظمات الدفاع المدني ومديرية الصحة تقوم بتطهير الأماكن العامة، مثل المشافي والمدارس والجوامع".
لكن هذا الوضع يطال أيضاً الطواقم الطبية التي ظلت في وجه المدفع، فبحسب مكي: "وجود الكمامات أو مستلزمات الوقاية الخاصة بالمشافي قليل للغاية. أكيد الكوادر تلتزم بالنصائح الطبية والشخصية ولكن وجود هذه المستلزمات شحيح جداً، ما يعرضنا لخطر أكبر حال ظهور حالات إيجابية للإصابات بالفيروس".
"فكيف لنا أن نطلب من الناس ملازمة منازلهم؟ هل لديهم منازل أصلاً؟ كيف نطلب منهم الحفاظ على النظافة الصحية بينما يعيش المرء بين الوحل. عندما يصاب أحدهم يُطلب منه البقاء بالمنزل والاتصال بالإسعاف للذهاب إلى المستشفى، أي مستشفى؟! كل التوصيات التي ينبغي تطبيقها لا يمكن حدوثها في إدلب"
أي تباعد اجتماعي؟
وكانت الجمعية الطبية السورية الأمريكية "سامز"، قد أشارت سابقاً إلى أن الموازنة المخصصة للاستجابة لجائحة كورونا تقدر بـ6 ملايين دولار، وهي لا تغطي أكثر من 10% من الاحتياج الفعلي، وانتقدت مديرية الصحة في إدلب ومنظمات غير حكومية، تأخر استجابة منظمة الصحة العالمية، التي أعلنت في آذار/ مارس تسليم 1300 وحدة اختبار لمديرية الصحة في دمشق، في حين أن الشمال السوري استلم معدات لتشخيص 600 حالة.
هذا على الجانب الطبي، أما على الجانب الإنساني في المخيمات "فكيف لنا أن نطلب من الناس ملازمة منازلهم؟ هل لديهم منازل أصلاً؟ كيف نطلب منهم الحفاظ على النظافة الصحية بينما يعيش المرء بين الوحل. عندما يصاب أحدهم يُطلب منه البقاء بالمنزل والاتصال بالإسعاف للذهاب إلى المستشفى، أي مستشفى؟! كل التوصيات التي ينبغي تطبيقها لا يمكن حدوثها في إدلب"، بتعبير كريستيان ريندرز، منسق أنشطة أطباء بلا حدود في شمال غرب سوريا.
ويبيّن رياض فرحات الذي نزح من ضيعة حوس في ريف معرة النعمان إلى ضيعة كورين، بجوار مدينة أريحا، ثم إلى ضيعة إسقاط بمدينة سلقين، لرصيف22، طبيعة الوضع بشكل أكبر، قائلاً: "أي تباعد اجتماعي؟ نحن ساكنين 10 أفراد بنفس البيت مع أبي وأمي وإخوتي. منذ 7 سنوات تنقلنا فيها، ليس لدينا أي كهرباء، أما الماي فمتوفرة ولكن يجب أن نشتريها، صهريج الماي حوالي 15 برميل بـ3 دولار وبيكفي لمدة 4 أيام فقط".
ويضيف: "فيه حركة طبيعية في المدينة رغم التخوف، لأن الناس مكتوب عليها العمل ليل نهار حتى تأمن قوت يومها، في ظل الضغوطات المادية والمعيشية التي نعاني منها". مضيفاً: "لا توجد أي إجراءات للوقاية، سواء من الأهالي أو مديرية الصحة التي عملها ضعيف جداً. دول وحكومات لم تستطع الصمود أمام الفيروس فما بالك ببلد أرهقها 9 سنوات من الحرب. الناس بدها تأمن أكلها وشربها بس وما بتفكر في الفيروس".
وعن اعتبار البعض للوباء متنفساً بعد فترة طويلة من الاعتياد على أصوات الطائرات والقصف، يرى رياض المتطوع في منظمة "إدلب الوطن" المحلية الخيرية: "شيء أكيد أن الفيروس إجا بلاء. عندنا 70% من منظمات الداخل السوري عملها توقف بسبب عدم القدرة على استلام التحويلات البنكية، وهو ما زاد من معاناتنا وزاد من الفقر والاحتياج".
وكان برنامج الأغذية العالمي قد قال إن أسعار المواد الغذائية في إدلب ارتفعت بنسبة 120%، قبل تفشي الفيروس، ناهيك عن أسعار الوقود كذلك.
يتفق معه محمد الحسن من معرة مصرين: "الفيروس بشكل عام سلبياته أكثر من إيجابياته، الإيجابي الوحيد أنه صار الواحد يقعد أكثر مع أهل بيته، مع أني لم أتمكن من العودة لبلدتي لأن النظام يسيطر عليها، لكن سلبياته بالتأكيد تبقى أكبر، وأهمها التأثير على الاقتصاد، فالأحوال المعيشية أضعف والفقر صار أكبر".
لكن عدنان العيدو من مدينة سلقين الحدودية، يراه بعين إيجابية، موضحاً لرصيف22: "قبل انتشار الفيروس نزحت تجاه الحدود السورية التركية لمدة عام كامل، ولكن الحمد لله بعد انتشاره عدت إلى بلدتي مجدداً. الفيروس ما أثر فينا الحمد لله، لأنه ما انتشر، واليوم عايشين حياة طبيعية".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون