مع كل غروب شمس من كل يوم خميس، ترى جمعاً من الناس يتوافدون من القرى الجبلية المجاورة، على قرية زغاية من محافظة مدنين التونسية، فيخيل إليك أن هناك سهرة فنية أو عرضاً موسيقياً لأحد الفنانين، إلى أن تكتشف أنها سهرة من نوع آخر، روادها إنس وجان تسمى "الحضرة".
و"الحضرة" في هذه الربوع الجبلية هي تقليد أو ثقافة مجتمع بأكمله نشأت منذ قرون، وبقيت إلى اليوم طقساً بل "عقيدة" توارثتها الأجيال، رغم أنها قلّت مقارنة بالعقود السابقة، وهي سهرة ينظمها رجل يدعى هادي (66 عاماً)، أو كما يحلو لسكان المنطقة مناداته "سي هادي" إجلالاً واحتراماً.
يمارس هادي مهنة "الدجل" أو التنبؤ" أو "العلاج بالأرواح" منذ سنين في المنطقة، تلازمه "فرقته الخاصة" من الإنس والجان أيضاً، يضرب الدفوف "البندير" في عتمة الليل، دون إضاءة ولو شمعة واحدة، ليحضر الجان بقصد التنبؤ، و"معالجة من به مس أو سحر" أو ما شابه، حسب زعمه.
الوليمة للإنس والرقصة للجن
بدأ وصول الزوار الواحد تلو الآخر، وكثرت الحركة داخل المنزل، فالجميع يجب أن يتناول طعام العشاء كتكريم من الرجل لزواره، وعربون امتنان لهم، ولإيمانهم بعمله ومواظبتهم على المجيء، فقد ذبح لهم أحسن خرافه.
جلست نسوة في زاوية المنزل الأقل إضاءة، احتشاماً، لتناول طعام العشاء، بينما التف الرجال حول طاولة قريبة من مدخل المنزل، يأكلون الكسكسي باللحم، ويتجاذبون أطراف الحديث قبل الإعلان عن بداية "الحضرة".
"لن أقتنع بعلاجات هؤلاء ولو على جثتي.. الحمد لله ها قد تبين الحق من خلال جائحة كورونا، وانتصر الطب والعلم بينما لم نسمع من هؤلاء عن علاج أو اكتشاف"
و"الحضرة" هنا مختلفة عن الحضرة المألوفة، التي هي عبارة عن مصطلح إسلامي صوفي يطلق على مجالس الذكر الجماعية، والتي يؤديها المسلمون المنتمون للطرق الصوفية السنية بشكل خاص، ويكون على رأسها شيخ عارف بالطريقة، ينبه على كل ما من شأنه أن يشوش إمكانية الوصول إلى لحظة الصفاء، حسب اعتقادهم، ولا تشترك مع "حضرة سي هادي" إلا في التسمية وبعض الأذكار.
وسط قعقعة الملاعق، وغمغمات النسوة، يأتي صوت جهوري من النافذة، يعلن عن اقتراب دخول "الفرقة"، يطلب من الجميع الالتزام بالصمت، غلق الهواتف وطمس أي منبع للضوء.
وفرقة "الحضرة" هي عبارة عن مجموعة من "زملاء" الرجل في المهنة، يأتون خصيصاً لمساعدته على إحضار الجان بقرع الدفوف، وببعض الكلمات غير المفهومة، وعادة ما يتراوح عددهم من أربعة إلى خمسة رجال، يرتدون لباساً تقليدياً أبيض يميزهم في عتمة الليل.
وقف أحدهم وسط باحة المنزل، وضرب بيده على الدف ثلاثاً، إعلاناً عن بداية السهرة، فجلس جميع من كان واقفاً، صمت من كان يتكلم، أغلقت الهواتف وأطفأت الأنوار.
خرج هادي من غرفته، وبدأ يغمغم كلمات غير مفهومة، ثم كبر، وصلى على الرسول، فهي ليلة منتصف رمضان، علّه بذلك يقنع الحاضرين أنّ ما يفعله ليس محرماً، كما يتهمه كثيرون.
"تعالت الزغاريد وبدأ الرقص"
تعالت أصوات النسوة بالزغاريد استحساناً لمقدمته، وتقديساً لما سيقدم خلال "الحضرة"، فجميعهن أتين لسبب ما وليس عبثاً، فمنهن من تريد معرفة سر تأخر زواج ابنتها، وأخرى تريد علاجاً لابنها العاطل عن العمل منذ سنوات، وأخرى تريد سؤاله عن مكان السحر الذي عطل حياتها.
تعالت أصوات رجال الفرقة، وتعالى معها قرع الدفوف، وبدأ أعضاؤها رقصتهم المعتادة، أو كما يسميها البعض "رقصة التخمر أو السقوط"، حيث يبدأ الراقص بالتأثر بصوت الدف، فيبدأ بإمالة رأسه يمنة ويسرة في سرعة جنونية إلى أن يسقط على الأرض.
تلك علامة منه على نسبة "حضور الجان" في المكان، وبالتالي يكون الرجل أكثر تنبؤاً بالأشياء، وتكون التفاصيل دقيقة أكثر، فالجان حسب زعمه هم من يحضرون له الأخبار المنتظرة، التنبؤات، مكان السحر والمس أو غيرها.
شك ويقين
يرفع هادي يده إيذاناً منه بوقف قرع الدفوف، وينادي بأعلى صوته "يا فاطمة"، ثلاث مرات ملء حنجرته، فتقف كل من تحمل الاسم من الحاضرات، يرتعدن خوفاً من تنبؤ قد يكون سيئاً ثم يرددن بصوت واحد: "حاضرة".
يبسمل ثم يقول: "حسادك كثر يا فاطمة، أتتك امرأة منذ يومين طلبت منك طلباً غريباً"، تجلس جميع من تعرفن أن الكلام غير موجه لهن إلا واحدة، تصرخ بأعلى صوتها: "صدقت يا سيدي، إنها زوجة عمي، أكمل يا سيدي أكمل".
يغمغم الجميع معبرين عن دهشتهم من قوة شيخهم الخارقة، ويصلون على النبي، ويذكرون الأولياء الصالحين؛ فيقطع ضجيجهم صوت الرجل صارخاً: "القليل من الهدوء أرجوكم"، يبتلع الجميع ألسنتهم خوفاً، ولا تكاد ترى إلا أشباحاً وبعض بريق كؤوس الماء.
تتقدم فاطمة خطوات بحذر لتصل أمامه، وهو واقف وسط الغرفة المظلمة، فيضع يده على رأسها، ويواصل تنبؤه وهي تشهق بالبكاء، وتوافقه على كل كلمة يقولها، فلا مجال للشك في معرفته الروحية الخارقة بالنسبة لديها.
يطلب ماء مخلوطاً بورق الحناء والخل، ويشرب منه جرعة ثم يرشه من فمه على المرأة، زعماً منه أنه سيزيل عنها السحر، ويكون لها حصناً منه في المستقبل، تمسك فاطمة يده، وتدس فيها بعض الدنانير ثم تعود لمكانها، وتتعالى الزغاريد، وبذلك يكون قد أنهى "الحصة العلاجية الأولى".
تقرع الدفوف، وينزل أعضاء الفرقة إلى وسط الغرفة ليواصلوا الغناء والرقص بحركات بهلوانية سريعة، منها القفز والدوران والجلوس والمشي على الركب حد السقوط على الأرض.
الخالة صالحة (60 عاماً) وبناتها من أشهر رواد "الحضرة"، وهم من الزوار الأوفياء للشيخ هادي، حتى أنهن يقطعن كل أسبوع مسافة 5 كيلومترات تقريباً للوصول إلى منزل الرجل، وتروي لرصيف 22 عن جميل الشيخ الذي لن تنساه، في تزويج ابنتها وفك السحر عنها، بعد معاناتها معه لسنوات طويلة.
"يد سي هادي تجمد الماء".
تثني على كلامها امرأة تجلس بجانبها قائلة: "سي هادي أشهر من نار على علم في المنطقة، ولا توجد عائلة هنا لم يعالج أحداً من أفرادها إن لم نقل جميعهم، ما شاء الله، يداه تجمدان الماء".
تتمتم النسوة الجالسات بقربها بصوت واحد: "الله يطول عمره ويرزقه الصحة"، وتردد أخريات كلمة "آمييين" في خشوع رهيب، قطعه صوت أحد أعضاء الفرقة بانتهاء الفاصل الغنائي، واستئناف الحصص العلاجية من جديد، آمراً الجميع بالالتزام بالصمت.
بدأ الرجل ينادي الأسماء الواحد تلو الاخر وتختلف تنبؤاتهم، فواحد مسحور والآخر "ممسوس"، وثالث لديه حساد كثر وأخرى أصيبت بعين، إلا أن علاجهم واحد وهو بعض التمتمات وذاك الخليط "السحري" الذي يرشه من فمه.
ورغم ذلك فإن هؤلاء لم ولن يقتنعوا مطلقاً بما يقوله بعض الشباب المتعلمين في المنطقة، بأن الذي يفعله الرجل مجرد دجل ولا وجود لعلاج بتلك "الخزعبلات" وأن العلم والطب لا يعلو عليهما شيء.
يقول صابر (30 عاماً)، يعمل مهندساً، لرصيف22: "حاولت مراراً إقناع أمي وخالتي بعدم الذهاب للحضرة وتصديق ذاك المشعوذ، إلا أنني لم أفلح مطلقاً فهن متشبثات بمعتقداتهن تشبث النبتة بتربتها".
تقاطعه أمه، بل تنهره بحدة: "إياك أن تعيد على مسامعي كلمة مشعوذ مجدداً، سيتنبأ بما قلته، وستتعطل أمورك يا بني، كف عن شتم الأولياء الصالحين أرجوك".
يضحك صابر ملء شدقيه، ويصفق يديه قائلاً: "قلت لكم لا فائدة من محاولة إقناعها"، ثم يمسك يد أمه، ويقول ساخراً: "لن يهدأ لي بال الليلة خوفاً من سي هادي".
"معتقد وثقافة الآباء"
بعد الثورة التونسية، ظهر الكثير من الدعاة والشيوخ الإسلاميين، وكثر المعالجون بما يسمونه "الرقية الشرعية"، مستغلين الفراغ السياسي الذي تبع إسقاط النظام السابق، واستقطبوا العديد من رواد الحضرة في المناطق الجبلية، وأقنعوا بعضهم بأن الذهاب إليها وتصديقها حرام، مستندين إلى حديث الرسول القائل "من أتى كاهناً وصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد".
"الحضرة" في هذه المناطق الجبلية التونسية هي تقليد أو ثقافة مجتمع نشأت منذ قرون، وبقيت إلى اليوم طقساً بل "عقيدة" توارثتها الأجيال، سهرة مع الجان، ينظمها رجل عجوز، يدعونه: "سي هادي"
إلا أن الكثيرين، خاصة من كبار السن، لم يقتنعوا مطلقاً بما يقال، بل لا يريدون سماع من يشكك في قدرات شيوخهم الخارقة، وهم كثر، فمنهم هادي المختص في الحضرة والعلاج الليلي، ومنهم "عمار" شيخ يزعم أن لديه كتاب وجده تحت رأسه عند الاستيقاظ من النوم، وهو يحمل جميع علاجات الأمراض، وغيرهما كثيرون كل حسب اختصاصه إلا أن "جمهورهم واحد".
تقول سلمى، طبيبة من محافظة "مدنين" التونسية: "لن أقتنع بعلاجات هؤلاء ولو على جثتي.. الحمد لله ها قد تبين الحق من خلال جائحة كورونا، وانتصر الطب والعلم بينما لم نسمع من هؤلاء عن علاج أو اكتشاف"، وتختم كلامها بحديث الرسول قائلة: "كذب المنجمون ولو صدقوا".
وسط غياهب، وتمتمات، وحيل غريبة، وتنبؤات يصدق بعضها أحياناً بمحض الصدفة، يتوه زوار هؤلاء بين مصدق ومشكك، يذاع صيتهم وتملأ خزائنهم مالاً من جيوب الفقراء والأغنياء على حد سواء، ورغم ذلك فهم يرفضون قطعاً التخلي عن "الحضرة" التي تعتبر جزءاً لا يتجزأ من معتقدهم وثقافتهم التي توارثوها عن آبائهم وأجدادهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 17 ساعةأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ 23 ساعةحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ يومينمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 4 أيامtester.whitebeard@gmail.com