شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"أَلَا بِذِكرِ الله تَطمئنّ القُلُوب" أو سحر المانترا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 14 مايو 201907:03 م

صديقتي ناقدة شارفت بداية الثلاثينات، حاولت الارتباط ولم تفلح، تُوفّي والدها، تزوّج أخوتها، وحيدة في المنزل، تردَّدت على عيادات نفسية للعلاج من الاكتئاب، واستمرت معاناتها حتى نصحتها صديقة صوفية بأن تذهب لشيخها، الذي نصحها بأن تردّد "وردا" قبل النوم وبعده، كسبحان الله، وآية الكرسي.

تحكي صديقتي أنها فوجئت بالتأثير السحري للذكر، لم يعد يصيبها الأرق، اختفى الصداع، باتت أكثر قدرة وقوة على مواجهة تحديات حياتها، وأوصتني بذكر الله، ليصيبني من بركتها ما أصابها.

ذكر الله، لاحظتُ أنه يأتي كثيراً في القرآن في اللحظات التي يتعرض فيها الإنسان للشك في صحة الدين، أو إغواء ملذات الحياة، وعلى حد التعبير القرآني "الفتنة".

يقول القرآن: "يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا، واذكروا الله كثيراً"، ويقصد بالذكر، كما يقول المفسّرون، التهليل والتكبير والصلاة على النبي محمد والاستغفار.

ذكر الله يوصي به القرآن وأحاديث النبي محمد كثيراً في لحظات الشك بالعقيدة، أو إغواء ملذات الحياة، وعلى حد التعبير القرآني "الفتنة"

آيات وأحاديث مُحمَّد النبي تُشدّد على أهمية الاستمرار في ذكر الله حتى بعد الصلوات، "فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياماً وقعودا وعلى جنوبكم"، وجعل محمد ذكر الله بمثابة الحياة، والروح، الذي يتوقف عنه تفارقه، "مثل الذي يذكر الله والذي لا يذكره مثل الحي والميت"، ويقول ابن القيم، تلميذ الفقيه الحنبلي المتشدد ابن تيمية، في كتاب "مدارج الذاكرين": "الذكر .. من أُعطيه اتصل، ومن منعه عزل... قوت القلوب الذي متى فارقها صارت الأجساد لها قبوراً".

ليس ذلك فقط، الذكر هو أفضل شيء يمكن أن يمارسه المسلم، بحسب حديث لمحمد نقله عنه صديقه الثوري ذو الحس الاجتماعي أبو الدرداء: "ألا أنبئكم بخير أعمالكم..وخير لكم من إعطاء الذهب والورق...ذكر الله".

وتغوَّل المتصوفة في الذكر، وظنّوا أنّ لكل ذكر ملاك، وإذا كرَّرت اسم من أسماء الله الحسنى سيأتي لك الملاك الخاص به، أمّا قديماً، قديماً جداً، أبعد من خلوة موسى النبي في الجبل، وظهور الملائكة العبرانية في صحارى الشرق الأوسط، استخدم الهنود القدماء الذكر، وسمّوه "مانترا".

"ديكشا" أو القدرة على تحويل الواقع في لحظة

قديماً كانت تعني المانترا في اللغة التاميلية "مانديرام"، أي السحر أو "القدرة على تحويل الواقع في لحظة"، وسموها "ديكشا" والتي تعني "الانطلاقة بالمانترا التي يمنحها المعلم لمباشرة طقس مهم"، وتخدم المانترا في الرحلة الروحية مدى الحياة.

في تقاليد الهند القديمة أسلوب تبنَّاه السيدهار، النخبة المثقفة للغة التاميل جنوب الهند، وهو "حَمل الوعي اليقظ" عبر ترديد كلمات مقدسة أو المانترا.

تجاهل هؤلاء المثقفون التعاليم المقدسة، والطريق القويم لما ينبغي أن يكون عليه "الصالحون"، ولم يحملوا كتباً مقدسة، أو يحلموا بتغيير العالم، الحكمة تنطلق من قلب إنسان لآخر  عبر المانترا، أن تردد أصواتاً وكلماتاً معينة كافية بأن توقظ "المعرفة الداخلية" فيك، وبعدها سيتغيّر عالمك.

بحسب التقاليد فإن تلاوة الذكر تجعل العقل يُركّز على فكرة واحدة تقود إلى التجاوز والتسامي، وعي ما وراء العقل، عندما تقابل وعياً أعلى منك، سمه ملاكاً أو شيخاً أو معلماً، وليكن ما يكون صديقك أو سائق تاكسي، سنرتفع بالوعي معه لأعلى، عبر ترديد الكلمات، المانترا.

لم يحملوا كتباً مقدسة، أو يحلموا بتغيير العالم، الحكمة تنطلق من قلب إنسان لآخر عبر المانترا،  ردِّد كلمتك المقدسة لتوقظ "المعرفة الداخلية" فيك، وبعدها سيتغيّر العالم.

لا يؤمن السيدهار بانفصال بين عالمين أحدهما خير والآخر شرير، الروح والجسد، الآخرة والحياة الدنيا؛ وجودنا البشري بحسب تلك الحكمة العتيقة عبارة عن ذبذبات، لكل كلمة وفعل ونية ذبذبة، المانترا تؤهّل ذبذباتك للالتقاء بكل ما هو أجمل، وأعلى، وأعظم  عبر اهتزازات المحبَّة والتناغم التي تُحدثها المانترا.

"المانترا الحديثة": "اللي جاي أقوى"

في خضم إيقاع العالم اليومي المعاش يتساءل افرات ليفني في مقال على موقع "كوارتز": ماذا نفعل حيال مشاكل الحياة، نحاول حلّها، وعندما نحلّ مشكلة تظهر لنا مشاكل أكبر وأكثر تعقيداً، والعمر والزمان علّماني أنَّ تخلينا عن محاولة حل المشاكل تزيد في تعقيدها أكثر.

الاستجابة "الصحيحة" لتلك التحديات بالنسبة لليفني تكمن في المانترا، فهي لا تحلّ مشاكلك، ولكن تجعل اضطرابك لوجودها أقل، وإحساسك بالحياة أعلى،  فقد ظلّ يردد لنفسه كلمات إيجابية، يرددها، ويتناغم معها، إلى الدرجة التي حولت حياته، ليعرف بعد ذلك أن ما يفعله له اسم، ووصفة، ومعلمون، إنها "المانترا الحديثة".

اكتشف في مقال منشور بالمجلة البوذية "ليونز رور" أنَّ ما يفعله يُسمى "المانترا الحديثة"، ويعرّفها المقال بأنّها "أقوال بسيطة تُمكِّنك من تعزيز الاتزان النفسي، والرَّحمة، والبصيرة في أي وقت، بغضّ النظر عن متطلّبات اللحظة التي تعيشها".

ولاحظ الكاتب بأنّ البوذية تكتسب شعبية، وممارسيها يقولون كلاماً بلغتهم تعود في أصولها للسنسكريتية.

كلمة "مانترا" تعود أصولها للغة السنسكريتية، وتعني "أداة العقل" أو "أداة التفكير"، استخدمها الناس منذ آلاف السنين لتهدئة الفكر، وتثبيت التركيز، وتحفيز الحالات الروحية، ويمكن لأيّ شخص أن يستخدمها حتى لو لم تكن له ميول روحانية، بحسب دراسة علمية حديثة.

المانترا في التعريف العلمي "تلفّظ شفهي مُتكرِّر لفترة طويلة"، وقد درس علماء أعصاب تأثير المانترا على العقل والجسم، واكتشفوا أن الإيمان ليس رئيسياً في فعَّاليتها.

تشير دراسة صغيرة لعام 2015 نشرتها مجلة "برين بيهافيور" إلى أن الباحثين درسوا آثار التلفُّظ المُتكرِّر على الناس بدون خبرة التأمل، واكتشفوا أن تكرار كلمة واحدة تُحدث تحوَّلاً كبيراً في نشاط الدماغ لدى الأشخاص عينة الدراسة، حتَّى أكثر ممَّا كانت تبدو عليهم وهم في حالة راحة دون أن يردِّدوا المانترا.

واكتشفوا أن منطقة الدماغ الاكثر تأثرا بنشاط المانترا هي "شبكة الوضع الافتراضي" المرتبطة بالتنبؤ، والتخطيط، والتقييم الداخلي، والخواطر الذهنية.

وبحسب معلمي المانترا، كما يشرح ليفني، فإنَّهم يرون أنَّ مُجرَّد ترديد مانترا مُعيَّنة، تُحدث فيك تأثيرين، تجعلك تعيش لحظتك الحالية، لا تسجن عقلك في خططك المستقبلية، أو تسجنك عقد الماضي النفسية.

ثانياً: تساعدك المانترا على أن تستجيب للحظات الحياة، بطريقة أوسع من مُجرَّد ردّة الفعل الآلية، فخوفنا من المجهول وحذرنا يجعلنا آليين في الاستجابة لمؤثرات الحياة، أمَّا المانترا بتشتيت الجزء النشط الجاد في المخ، تجعلك أكثر هدوءً، وفاعلاً في الحياة دون أن تنتظر أن تغيَّرها، أنت جزء منها، لست منفصلاً عنها، الحياة في النهاية عملية واحدة كلاكما فاعل ومفعول.

"المانترا لا تحل مشاكلك، ولكن تجعل إحساسك بها أقل، وبالحياة أعلى"

كراولي: المانترا سحر يُحَوّلك

ممارسة "تأمّل النَّفَس" يحتاج لمهارة، ففور أن تباشره حتى تهجم عليك خواطر الماضي والمستقبل، ومن الصعب السيطرة عليها، والوصول لحالة الصفاء المنشودة، ولكن المانترا اللفظية تفعل نفس التأثير لـ"تأمل النفس"، ولكن بطريقة أسرع، هكذا يشرح أليستر كراولي الشاعر الانجليزي وأحد مؤسسي حالة "الهيبية" في ستينات القرن الماضي في كتاب "التأمّل".

يقول عن تأثير المانترا السحري: تتضاءل الأفكار إلى دائرة واحدة منتظمة، وأي فكرة تدخل على عقلك لتفسد تأملك تستطيع المانترا بسحرها أن تتفاداها، مثل العجلة السريعة العالقة في الهواء، لن يتعلق بدائرتها شيء، سترميه جانبا.

وأفضل طريقة، بحسب كراولي، لممارسة المانترا أن تنطقها بصوت أعلى، وبوتيرة أبطأ، عشرة مرات، ثمّ تعيد المانترا مرّة أخرى بطريقة أسرع، كررها حتى تظل شفاهك تتحرَّك مع عقلك بلا صوت يخرج منك.

ثم اعكس العملية، ابدأ بالمانترا السريعة، ثم أبطيء من إيقاعك.

ويوصيكم كراولي بالبداية بمقاطع طويلة، مثل آية في كتابكم المقدس، ثم بمقاطع متوسطة الطول من كلمتين، مثل سبحان الله، ثم بمقطع صوتي واحد مثل "هو" كما يرددها المتصوفة، أو "أوم" كما يردد الهنود.

المانترا المثالية هي ذات الكلمات الإيقاعية الموسيقية، مع التأكيد على حرف أو مقطع لجذب ملكة الانتباه.

ويرى كراولي أنَّ فلسفة المانترا وتأثيرها مختلف عمّا جاء به الأنبياء العبرانيون، فعندما يُحرّم الكتاب المقدس "حليلة جارك"، يترجم عقلك ذلك بطريقة معاكسة، فتغدو حليلة جارك أجمل نساء العالمين، لأن علقنا خليفة الصيادين الأوائل، تسهل استثارته، وبينما تُعظِّم الأديان من كبت استثارة العقل بالمحرمات، لا تقتل، لا تزني، لا تسرق- تكسر المانترا أيّ "ميل لإثارة العقل"، وعندما تمرّ حليلة جارك بجوارك ستجد عقلك بالأساس هادئا، لا تحتاج حينها لتعاليم، أو كبت، لقد تغيّر عالمك.

يعدد ابن القيم فوائد الذكر، أو تأثير سحر المانترا، إذا كنت فقيراً فإنّ ذكر الله سيجلب لك المال، وسينير وجهك، ويجعله نضراً، وستفتح لك أبواب المعرفة، وسيجعلك فرحاناً ومسروراً.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image