شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
أجداد يلعبون وأحفاد يتفرّجون… تونسيون يحيون ألعاب زمان لكسر الملل

أجداد يلعبون وأحفاد يتفرّجون… تونسيون يحيون ألعاب زمان لكسر الملل

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الاثنين 18 مايو 202004:13 م

طالت مدة الحجر الصحي في كافة دول العالم بسبب فيروس كورونا، فهي سابقة في تاريخ الشعوب الحديثة التي فجأة وجدت نفسها سجينة البيوت دون عمل ولا دراسة ولا تنزه، الأمر الذي جعل أكثرهم يبتكرون أشياء لطرد الملل، فمنهم من صبّ جام ضجره على إعداد الأكلات، والتفنن في الطبخ، ومنهم من اختار تعلم لغات جديدة، ومنهم من شاهد جميع الأفلام تقريباً.

أما في الجنوب التونسي، فقد عاد العديد من كبار السن إلى الألعاب الشعبية التي ورثوها عن أجدادهم، والتي كادت تنسيهم إياها سرعة الحياة اليومية، مثل لعبة "الخربقة"، وهي لعبة قديمة تشبه في تركيبتها لعبة الشطرنج، لكن مربعاتها ترسم على التربة أو على الأسفلت بواسطة قطعة فحم، وتُلعب بأحجار وأغطية قوارير، الأمر الذي جذب الشباب والأطفال لمشاهدتها، وتعلم مهارتها.

أحجار صغيرة وأغطية قوارير

يجتمع كبار الحي في مدينة مدنين جنوب شرق تونس، يحتمون في ظل صومعة الجامع الكبير حول رقعة "الخربقة"، يُعدّل أحدهم مربعاتها التي محتها أقدام المارة أو مياه الأمطار، ويجلب أدوات اللعب: الأحجار الصغيرة، وأغطية القوارير من ركن قريب.

يحث رفاقه للبدء في اللعب بإلقائه أبياتاً من الشعر الشعبي الخاص بتلك اللعبة، يقول، وكله جد، وعزم، وتأهّب للنصر:

"قعدنا مكابي كل واحد فينا خايف على جروه في الخربقة يدادي

‏يريد النجا من خصمه يفادي في غلبته، وشمتت العويل والوليه واللي محادي

‏الله واعلم ياخوي إني مغلوب غير خايف انقول وجاحدها من العنادي".

يضحك الرفاق بصوت عال فهذا الشعر، يعني الخوف من "عار الغلبة" ثم يلتفّون حول اللعبة، مفترشين الأرض، ويقتسمون الأحجار بالتساوي ليبدأ اللعب.

يدندن العم منصور (56 عاماً)، كلمات من القصيدة وهو يجيل ببصره في كافة مربعات اللعبة، وكأنّه يضع كل حجر في مكانه في خياله قبل وضعه على "الأرض"، تحسّباً لأي خطأ أو خدعة من منافسيه، يقول لرصيف 22: "الخربقة هي لعبتي المفضلة منذ الصغر، ولا تسليني لعبة غيرها، لكن هزيمتها مرة، وتكدر صفو مزاجي طوال اليوم، لذلك يجب أن أركز جيداً".

يوافقه الرأي جاره مسعود (58 عاماً): "نحن مدينون للأجداد الذين أورثونا لعبة (الخربقة) فهي مسلية جداً وتنمي الذاكرة، خاصة في هذا الحجر الممل، فلولاها لمتنا ضجراً في بيوتنا".

يضع الجميع أحجارهم الواحد تلو الآخر في مربعات الخربقة، ويسمى كل حجر "جرواً" أو "كلباً"، وتحتدّ المنافسة بتحويل الأحجار حسب خبرة كل لاعب في الايقاع بخصومه، وماهي إلا دقائق معدودة حتى صاح منصور، مخاطباً مسعود: "هاها كلبك مات"، ويقصد بذلك أنه حاصر أحجاره من كل مكان، وما عليه إلا الانسحاب.

"نحن مدينون للأجداد الذين أورثونا لعبة "الخربقة" فهي مسلية جداً وتنمي الذاكرة، خاصة في هذا الحجر الممل، فلولاها لمتنا ضجراً في بيوتنا"

جمع مسعود أحجاره، وعلامات الخيبة والانكسار تعلو تجاعيد وجهه التي لم تشهد على بطولاته في "الخربقة" أيام شبابه، حيث كان لا يهزم أبداً، حتى أن الكثيرين كانوا يرفضون منافسته خوفاً من "عار الغلبة"، يقول لرصيف22: "إنه الكبر، ونقص النظر، والتركيز لعنهم الله".

ضحك منصور عالياً، جذلاً بالإطاحة بخصم قوي مثل مسعود، وطرح الأحجار مجدداً لمواصلة اللعب بكل حماس، فنشوة النصر بادية على محيّاه، خاصة وأنه لم يشعر بها في الأيام الماضية التي كانت مليئة بالهزائم.

"لعبة ليست سهلة"

و"الخربقة" ليست اللعبة الوحيدة التي تُلعب بالأحجار، فهناك أيضا لعبة "اللقفة"، وهي لعبة يلعبها غالباً صغار السن والشباب، تتكون فقط من خمسة أحجار، وتعتمد على تركيز وخفة عاليين، حيث يتحلق اللاعبون في شكل دائرة، ويضعون الأحجار في الوسط، ثم يقومون بقرعة لاختيار من سيبدأ باللعب.

هذه اللعبة ليست سهلة بالمرة، فالوصول إلى المراحل النهائية منها صعب للغاية، هذا ما أكده حسام (15 عاماً)، والذي تعلمها من جدته وأصبح من هواتها، وقد استغل فترة الحجر الصحي وانقطاع الإنترنت، في تعليمها لأبناء جيرانه الذين أحبوها كثيراً، بل أدمنوها، بحسب رواية حسام لرصيف22.

يجتمع الأطفال في دار أحدهم خصيصاً للعب "اللقفة"، فالانتصار فيها سعادة والهزيمة إصرار على الوصول إلى الربح، وهو ما يثبت في نفوسهم الصغيرة روح العزم، وينمي ملكة التفكير، فقد ملوا الألعاب الإلكترونية التي حفظوها عن ظهر قلب، والتي يكون الربح فيها دون عناء يذكر، على عكس الألعاب الشعبية التي يوجد فيها تحد واجتهاد كبيران، وهو ما يجعل طعم الفوز مختلفاً، بالنسبة لحسام وأصدقائه.

"الكاري"

ومن الألعاب الشعبية التي عادت إلى الواجهة أيضاً، لعبة "الكاري" التي تلعبها الفتيات، وهي تتمثل في القفز بساق واحدة في مربعات كبيرة، وإلقاء الحجر في كل مربع، وتقتضي اللعبة وجود الفتاة لساعات في ساحة الحارة.

وتختلف الألعاب الشعبية وتتنوع، فنجد لعبة "عظم السارق" التي تلعب ليلاً، ولعبة "كرة العصا" التي تشبه لعبة "الجولف" حالياً، وكذلك لعبة "حاكم وزير" التي يلعبها الصبيان والفتيات إلى اليوم، خاصة بعد توقف الدروس بسبب جائحة كورونا.

"موروث اللعب مُغيّب"

شهدت الألعاب الشعبية شبه غياب في السنوات الأخيرة حتى كادت تنسى، لكنها انتعشت مؤخراً بسبب الحجر الصحي، والتزام الناس بالبقاء في البيوت، يشاهد تلك التغيرات العم سعيد (59 عاماً)، من محافظة تطاوين، متحسراً، يقول لرصيف22: "كانت تلك الألعاب تجمعنا، لا تفرقنا كما تفعل الهواتف بأبناء هذا الجيل، الذي أصبح مغترباً حتى عن عائلته التي يعيش معها تحت سقف واحد".

"ألعاب مثل البيس والخربقة هي هويتنا التونسية الخاصة، وحقيقة هذا الموروث اللعبي مغيبة، لذا فلعبها، وتعليمها، وتوثيقها مهم"

وتساهم الألعاب الشعبية في تطوير الذات، على غرار تلك التي تتطلب مهارة فكرية كـ"الخربقة" و"اللقفة" والتي من شأنها إكساب الفرد الفطنة واليقظة، فضلاً عن المزايا الجسدية لبعض الألعاب كلعبة "الكاري" و"عظم السارق" التي تتطلب جهداً بدنياً وحركة رياضية مفيدة للجسم والعقل معاً.

ولكن بالنسبة لصابر عبداوي، أستاذ علوم وتقنيات الطفولة، من محافظة قفصة جنوب غرب تونس، تتجاوز قيمة تلك الألعاب فوائدها العقلية والبدنية، فهو يراها تمثل "الهوية التونسية".

عبداوي صاحب مشروع كتاب تقدم به إلى وزارة الشؤون الثقافية التي وافقت عليه، تحت عنوان "تراث أجدادي نهديه لأولادي"، والذي يهدف بالأساس إلى تعريف الناشئة بالألعاب الشعبية، وتدريبهم عليها، وذلك بإرساء نواد من أجل العمل على إحياء المخزون الثقافي الشعبي، وتنبيههم لخطورة الألعاب الإلكترونية التي يرى أن لها تأثيرات نفسية سيئة، وصلت بالبعض حد الإدمان والانتحار.

يقول صابر لرصيف22: "نحن نهدف بمشروعنا الى توثيق الموروث الشعبي بعد بحث مطول قمنا به؛ فتوثيق التراث اللامادي مهم جدا، الشعوب التي لا ماضي لها، لا حاضر ولا مستقبل لها أيضاً، وحقيقة هذا الموروث اللعبي مُغيَّبة نوعا ما، على غرار البيس والخربقة واللفة، فتلك هي هويتنا الخاصة".

إضافة إلى "الهوية الخاصة"، يعود صابر ويشدّد على القيم النفسية التي تعزِّزها تلك الألعاب في نفوس الأطفال، يقول:" الألعاب الإلكترونية تسبب الخمول البدني والفكري للطفل، في حين أن نظيرتها الشعبية تعد رياضة، وهي تخلق روح الاندماج داخل المجموعة، وتحفّز التنسيق الحركي بين الطفل وبقية اللاعبين، هذا فضلا عن جانب الطرافة الذي تتميز به كل لعبة، لذلك من المهم جداً السعي من أجل إحياء هذا الموروث ".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image