هو ثقلٌ في القلب ينتشر في جميع أنحاء الجسد، يشعر المصابون به بفقدان الرغبة في كل شيء أو معظم الأشياء. يُعمي البصيرة ويُبهت ما في الوجود. نتحدث عن الاكتئاب الذي تحوّل لدى البعض مادة للسخرية برغم أثره المهول على المصابين به.
كثيراً ما كُتب عنه. تختلف "التعريفات" به من شخص إلى آخر. كتبت الروائية رضوى عاشور عنه: "عادة ما أشعر أني خفيفة قادرة على أن أطير وأنا مستقرة في مقعد أقرأ رواية ممتعة. حين أشعر بنفسي ثقيلة أعرف أني على مشارف نوبة جديدة من الاكتئاب".
وكتب الروائي أحمد خالد توفيق: "يقولون: إن المرض الوحيد الذي يصحو فيه المريض مرهقاً بعد نوم تسع ساعات كاملة هو الاكتئاب. كل الأمراض الأخرى - بما فيها الدرن (السل) والسرطان - يصحو مريضها من النوم أفضل حالاً...".
وقالت منظمة الصحة العالمية إن أكثر من 300 مليون شخص من جميع الأعمار يعانون الاكتئاب الذي هو من "الاضطرابات النفسية الشائعة"، و"السبب الرئيسي للعجز في جميع أنحاء العالم، وهو المساهم الأساسي في العبء العالمي الكلي للمرض"، وفقاً للمنظمة.
التوعية المتصلة بمرض الاكتئاب الذي قد يقود بعض المصابين به إلى الانتحار، لم تمنع محمد الموسى، صيدلاني سعودي، ناشط على مواقع التواصل، يعدّ من "المؤثرين"، وهو مقدم برنامج "السالفة جدّ" على قناة "MBC"، من السخرية، أو "التقليل" من شأن المرض بكتابته في 14 أيار/مايو: "كأن الاكتئاب صاير موضة؟".
وتابع في تغريدته التي أثارت جدلاً واسعاً، خاصةً لأنه درس في المجال الصحّي: "لكن يا رب إذا جايني (الاكتئاب) جايني مثل الباقين، يجيني بسبب كثرة الفلوس وكثرة السفر وكثرة الأصدقاء وكثرة المهتمين وكثرة التقدير، ولا يجيني بسبب المرض والفقر والفشل والخيبة وفقدان من أحب، كآبة المرفهين ولا كآبة الضعفاء يا رب".
قيل له: "الاكتئاب لا يُفرق بين غني وفقير"، فجاء ردّه: "مكتئب فقير ضعيف مريض لا أحد معه، أو مكتئب مقتدر قوي حوله الكثير!؟".
وكان الموسى قد كتب في تغريدة تعود إلى عام 2018: "الإيمان يرتبط بالنفس البشرية ويقاوم الأمراض النفسية التي تؤثر على الجسد. إيمانك لا يحميك من السكر لكن إيمانك قد يحميك من الاكتئاب، هذه حقيقية وليست رأياً"، وهذا ما عرّضه للمزيد من النقد اليوم، ودفع بمتابعين إلى القول: "قلت لكم يحسب الاكتئاب ضيقة صدر".
التساهل إعلامياً مع مرض نفسي كالاكتئاب، والاستخفاف بأثره على نفوس المصابين به لم يقتصر على تغريدة الموسى. ففي السياق ذاته، انتشر في 6 أيار/مايو على تويتر مقطع فيديو من برنامج "رمادي واضح" الذي يُعرض على شاشة SBC السعودية وتقدمه كوكبة من الإعلاميين والإعلاميات، منهم سلطان الشمري ومحمد الدوسري، قال الشمري فيه: "الاكتئاب في بعض الأحيان دلع"، واعتبر الدوسري أن "الاكتئاب يحصل أحياناً بسبب فقد الأضواء والشهرة".
"الاكتئاب في المقام الأول مثلما وصفوه أساتذتنا، نظارة سوداء تلقي بظلالها على رؤية الشخص إلى كل المعطيات حوله. فيفقد الأمل والشغف"... طبيب أمراض نفسية يعلق على اعتبار الاكتئاب "موضة" و"دلعاً"
نظارة سوداء تلقي بظلالها على رؤية الشخص
في هذا السياق، يقول طبيب الأمراض النفسية علي قرقر لرصيف22 إن "كلام الموسى له وعليه. من ناحية، هناك وعي متزايد بشأن المرض النفسي والحاجة للطبيب، وهذا ما أدّى إلى ازدياد عدد الذين تم تشخيصهم بالاكتئاب".
وتابع: "من ناحية أخرى، هناك overdiagnosis (تشخيص مفرط) في دول العالم الأول أو في منطقتنا، حيث يشخّص بعض الأطباء حالة معيّنة على أنها 'اكتئاب' بينما لا يوجد اكتئاب". وأضاف: "طبقاً للتصنيف الدولي للتشخيص ICD الصادر من منظمة الصحة العالمية والمستخدم بشكل أساسي مع التصنيف الأمريكي DSM هنالك عدة توصيفات لحالات اضطراب مزاجي لا ترافقه حالة الاكتئاب المعروف طبياً بـ Major depressive disorder، أكان منفصلاً unipolar أو ضمن اضطراب ثنائي القطب".
وأشار إلى أن ثمة مصابين بالاكتئاب يعانون مشاكل تكيّف مع وضع طارىء. وهذا ما يسمى بالـ Adjustment Disorder (اضطرابات الإحكام) وليس بالاكتئاب. وذكر أن هناك من يعاني تقلباً مزاجياً فصلياً مرتبطاً بفصول السنة (Seasonal Affective Disorder). هذه حالة ثانية أخف وطأة من الاكتئاب.
وشرح قرقر الاكتئاب: "إنه في المقام الأول، مثلما وصفوه أساتذتنا، نظارة سوداء تلقي بظلالها على رؤية الشخص لكل المعطيات حوله. فيفقد الأمل والشغف وتولد لديه اقتناعات راسخة بضعف قيمته في عيون الناس ورفض الناس له".
وأضاف أن المصاب بالاكتئاب غارق في الأفكار السلبية، والشعور بالذنب، وعاجز عن الاستمتاع حتى بما كان يستمتع به سابقاً، وغير مبادر، ويفكر دوماً في جدوى استمرار حياته".
ولفت إلى أن خطر الاكتئاب لا يمكن تجاهله بأي حال من الأحوال، إذ قد يؤدي إلى الانتحار. ورأى أن الاكتئاب أبرز أسباب الانتحار، وشدد على أن التعامل مع الانتحار أمر طبي شديد الجدية، حتى تلك الحالات التي عُدّت دون مستوى الجدية أو تلك التي تمت لجذب الانتباه.
تعليقاً على الفيديو المنتشر، واعتبار الاكتئاب دلعاً أو القصد منه لفت الأنظار، قال الطبيب قرقر: "هذه قراءة مخطئة تماماً، والأصوب هو أن الاكتئاب مرتبط بظروف العصر، ويمكن اعتباره أحد منتجات الحداثة. قسوة الحياة الاستهلاكية ألقت بظلالها على أمزجة الناس، والدوران في دوامة الحياة الاستهلاكية قلل من آليات مقاومة الاكتئاب التي كانت موجودة في السابق".
وأضاف: "دور الأسرة والروحانيات الدفاعي قلّ مع تأثير 'التوحش الاستهلاكي' وتراجعت الحياة الأسرية والحياة الروحانية اللتان كانتا في عداد المقومات الدفاعية".
ورأى أن "الاكتئاب طفا إلى السطح". وأضاف: "هناك حالات اكتئاب أكثر لدى جيل الألفية الثالثة (millennials) الذي يسمي نفسه 'جيل الاكتئاب'، مقارنة بالجيل الذي سبقه، وهذا يعود إلى أن "الحياة الاستهلاكية أكثر قسوة من ذي قبل، وسوق العمل أكثر ضراوة".
وأكد أن أحداً لم يحسم ما إذا كان الحديث عن الاكتئاب عبر الإعلام، بما في ذلك الأعمال السينمائية والدرامية، "يُقلل من الدفاع ضد الاكتئاب أم يزيد الوعي الذي يتيح التغلب عليه".
"اللي يتكلمون عن الاكتئاب باستهزاء أو يشوفونه دلع وقلة إيمان عساكم ما تجربونه! سبع سنوات راحت من حياتي بعتمة وكأني كنت بهاوية. حياتي واقفة، عبارة عن حبوب وبكاء ومحاولات انتحار. كانت الحياة واقفة بدون سبب"
بُحّ صوتنا
رداً على تغريدة الموسى، أطلقت ناشطة نسوية على تويتر اسمها يافا سلسلة تغريدات تشرح فيها كيف عاشت في عتمة طوال سبع سنوات بسبب الاكتئاب، فيما يستهزئ البعض به. قالت: "اللي يتكلمون عن الاكتئاب باستهزاء أو يشوفونه دلع وقلة إيمان عساكم ماتجربونه! سبع سنوات راحت من حياتي بعتمة وكأني كنت بهاوية. حياتي واقفة، عبارة عن حبوب وبكاء ومحاولات انتحار. كانت واقفة الحياة بدون سبب. مال، أهل، أصحاب، سفر، عمل، كله كان عندي. مع ذلك كنت ميتة نفسياً وأثر عليّ جسدياً".
وتابعت معاتبةً: "ييجي واحد يتكلم عن الاكتئاب ويسميه موضة؟ ليه ما يعرف إنه درجات؟ ما يعرف أنه ضيقة الصدر تختلف عن الاكتئاب؟"، مستهجنةً كيف صدرت هذه التغريدة عن صيدلاني.
وقال الطبيب والباحث في السلوك البشري الدكتور عبد الله الغازي: "محزن عدم إدراك تبعات الكلام. بُحّ صوت المختصين وهم يحاولون كسر وصمة الاكتئاب، ونشر ثقافة الاهتمام بالصحة النفسية ثم أتى 'مؤثر' وتساءل ساخراً هل هو موضة أم لا؟ وفتح بذلك مجالاً للتشكيك في الاكتئاب كمرض وأحرج من يعانيه".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Apple User -
منذ 4 ساعاتHi
Apple User -
منذ 4 ساعاتHi
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 4 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا