شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"أشبه بدخولي إلى منطقة مفخخة بالألغام"... صعوبات العمل في حقل دعم وتمكين النساء

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 14 مايو 202011:01 ص

اعتقدت للوهلة الأولى بأن عملي مع منظمة إنسانية، بمجال "الدعم النفسي" سيكون مجالاً جديداً ومختلفاً، ولم أكن أتوقع حينها، بأنه نافذة مفتوحة على عالم محكم الأبواب، تخفي خلفها أسراراً وخفايا، قصصاً للإنسانية العارية، تجربة ستجعلني أغور في دهاليز النفس البشرية.

يا لهذا العالم المليء بالعنف والألم والقهر.

لم أكن أعلم بأنه حتى التحليق في فضاءاته سيزيدني حزناً ودهشة، وتزيد من إصراري للخوض في هذه التجربة، بل ولأبعد من ذلك بكثير، أكثر من كوني مجرد متطوعة بإمكانها مدّ يد العون لنساء يبحثن عن بصيص أمل، أو حتى كعاملة وجب عليها الالتزام بالقواعد، وأتقاضى أجراً مقابل ما أقدمه من خدمات.

فأصبحت تجربة العمل في مجال دعم وتمكين النساء هي التجربة التي منحتني ذخيرة من المعلومات والخبرات الجديدة، تجربة جعلتني أغير نظرتي نحو أشياء كثيرة في الحياة، وأتعامل مع كل جزء من جسدي الأنثوي كجواهر ثمينة، حين أصبحت أكثر قرباً لعالم النساء، لدرجة يمكنني ملامسة آلامهن وتحسس الخشونة والأشواك في حيواتهن.

باعتقادي، كان العمل أشبه بدخول منطقة مفخخة بالألغام: حركة خاطئة قد تحدث انفجاراً للغم بأية لحظة، فهناك من يترصدنا ويقتفي أثرنا، والحيطة ضرورية، لذا وجب علينا التقيّد بالتعليمات، تماماً كما نفعل الآن للوقاية من كورونا.

على الرغم من أن مساحة الخوف لدي ضئيلة، ولا تنقصني روح المغامرة إذا اقتضى الأمر، والتجاوزات الفردية ممكنة في كل عمل، ولكن لأسباب خاصة بالأمان الشخصي أولاً، ولاحترام عقد العمل ثانياً، وجب الالتزام بالتعليمات.

كانت فكرة العمل التطوعي، العمل مع منظمات المجتمع المدني، سياسية، إعلامية، إغاثية وثقافية، هي مجالات حديثة العهد في منطقتنا، كونها وليدة الأحداث السورية بعد 2011، التي جاءت لتلبي احتياجات الناس بأنماط وأنشطة جديدة.

وأقصد بمنطقتنا الجغرافية، المناطق التابعة لسلطة القوات الكردية ROJAVA أو مناطق الإدارة الذاتية في سوريا. المنطقة التي كانت مهمشة لعقود من الزمن، من الأنشطة الخدمية والمدنية، ومن الصعوبة ممارسة أي نشاط في أي مجال، حتى لو كان بعيداً عن السياسة، دون أن تتدخل السلطات وتنهي الأمر على طريقتها.

ولكن بحكم اعتبارها منطقة آمنة، حسب معايير الأمم المتحدة UN، مقارنة بالمناطق الأخرى في سوريا، ولدواعٍ إنسانية، سُمح للمنظمات الإغاثية بإعلان حالة الطوارئ وممارسة أنشطتها، واستقطبت عدداً لا بأس به من المنظمات الدولية الإنسانية للإغاثة.

وشهدت المنطقة انفتاحاً على المجالات المدنية الأخرى، وكان لوجود "معبر سيمالكا" الحدودي على نهر دجلة دوراً أساسياً في ذلك، وهو المعبر الآمن الوحيد الذي يربط إقليم كردستان العراق ومناطق الإدارة الذاتية في سوريا، ويمكن اعتباره الرئة التي مدت المنطقة بالأوكسجين، والذي ساعد الملايين من الناس في سوريا والعراق بالاستمرار على قيد الحياة في ظروف الحرب.

والسبب الآخر لممارسة أنشطتها في منطقتنا بشكل أوسع، هي أحداث صيف 2014، بعد الهجوم الإرهابي الذي شنه تنظيم الدولة الإسلامية والمعروف بـ"داعش" على منطقة شنكَال أو سنجار، التي يقطنها الكرد الإيزيديين، وأدى الهجوم للجوء أعداد كبيرة خوفاً على حياتهم من داعش التي قتلت واغتصبت النساء واختطفت الأطفال، فلجؤوا إلى منطقة ديرك (المالكية)، في شمال شرق سوريا. وكان مخيم نوروز أول مخيم سُمِح بإنشائه في المنطقة، وخُصِص لإيواء اللاجئين الإيزيديين حينها، ولاحقاً مخيم روج للعراقيين الفارين من الموصل، والمناطق العراقية الأخرى التي تعرضت لهجمات داعش، بالإضافة للمخيم الأكبر، مخيم الهول في الحسكة، على الحدود العراقية السورية، وأصبحت الحاجة كبيرة لتعيين متطوعين، موظفين وعمال باختصاصات وخبرات شتى، من الضرورات القصوى.

أصبح العمل في مجال دعم وتمكين النساء هي التجربة التي منحتني ذخيرة من المعلومات والخبرات الجديدة، تجربة جعلتني أغير نظرتي نحو أشياء كثيرة في الحياة، وأتعامل مع كل جزء من جسدي الأنثوي كجواهر ثمينة، حين أصبحت أكثر قرباً لعالم النساء، لدرجة يمكنني ملامسة آلامهن وتحسس الخشونة والأشواك في حيواتهن

وأنا تقدمت كالكثيرين/ات لمقابلة عمل، على أمل أن أحظى بفرصة في برنامج لمساعدة النساء، ولم يكن الحصول على الفرصة أمراً سهلاً، منظمات (الإغاثة، حماية الطفل، برامج المرأة، الصحة والخدمات)، ولحسن الحظ كنت واحدة من أول فريق للعمل في مجال تقديم الدعم النفسي للنساء، لا يتجاوز عددنا سبعة نساء.

مصاعب عديدة كانت تعيق عملنا، خطورة السفر، وعورة الطرقات، الحواجز العسكرية، رفض المجتمع، المخاوف الأمنية (تفجيرات وهجوم مسلح).

كان على الفريق الذي أُسس وفقاً لمؤهلات ومعايير خاصة، أن يكون مؤمناً بالقضايا الجندرية، الشهادة العلمية التي تتناسب مع هذا المجال، الخبرة، اللغة، الصفات، الإمكانات الشخصية، الإلمام العام بخصوصية المجتمع واحترام معتقداتهم وعاداتهم والالتزام بقواعد العمل.

وبدأنا العمل بمجال دعم المرأة النفسي والاجتماعي كتجربة جديدة كلياً، وخاصة في المجتمع الذي يتسم بطابع عشائري، وتحكمه العادات التي تنظر للمرأة على أنها ملكية خاصة من ممتلكات المجتمع الذكوري. بالرغم من اختلاف بعض العادات والمعتقدات والأديان واللغة، ولكن التقاطعات بين المجتمعين (المجتمع المحلي والمجتمع اللاجئ) كانت سيادة السلطة الذكورية، وسلطة القوانين المجتمعية التي لا تحبذ التدخل بشؤونهم، وتفضل تقديم الدعم المادي فقط.

بداية، كنا نخرج للعمل مع فريق الصحة، الذي لا يعاني من مشكلة القبول لممارسة عمله، في أي مكان نقصده، لما يقدمه من خدماته التقليدية المعتادة حتى في الظروف الطبيعية، حاملات اللقاحات وبرامج التوعية في مجال الصحة الإنجابية، توعية الحوامل والمرضعات.

أما بالنسبة لنا/ كان مجرد ذكر مصطلح (دعم وتمكين المرأة) تثير حفيظتهم وتدغدغ فضولهم، وتتدفق إشارات الاستفهام معلنة عن نفسها. لم تكنّ النساء فقط يأخذنهن الفضول لمعرفة تفاصيل العمل، بل الناس عامة والسلطات القائمة خاصة، سواء النساء اللواتي كنا نستقبلهن كحالات فردية، أو ضمن مجموعات صغيرة، لنُعرّف عن أنفسنا إما (عاملة مجتمعية أو مساعدة اجتماعية)، وعن آلية ونوع الخدمات التي سنقدمها، والفئة المستهدفة وهنَّ النساء والفتيات (المعنّفات) اللواتي يتعرضن لأي شكل كان من العنف، وفق معايير البرنامج (عنف جسدي، اقتصادي، نفسي وجنسي)، وهنا تتولد ردود الأفعال المختلفة متلبسة بالخوف. العاملات المجتمعيات يدخلن البيوت، الخيام، المراكز الصغيرة التي تحولت لمراكز أنشطتنا أثناء جولاتنا.

كان الأمر بالغ التعقيد، ليس من السهل كسب الثقة، وخاصة في أمور خاصة جداً في حياة النساء، ولكن الأكثر تعقيداً كان حين يتوجب علينا في كل جولة أو نشاط ننظمه: الحصول على موافقة من إدارة المخيم التي يشرف عليها مسؤول/ة من الإدارة الذاتية، أو حتى في الحي أو القرية، يجب الحصول على موافقة رئيس/ة الكومين، والتي غالباً كان يتم تعيينهم من المجتمع المحلي بمعاييرهم الخاصة.

العمل بمجال دعم المرأة النفسي والاجتماعي في مناطق الأدارة الذاتية في سوريا، هي تجربة جديدة كلياً، في مجتمع يتسم بطابع عشائري، وتحكمه العادات التي تنظر للمرأة على أنها ملكية خاصة من ممتلكات المجتمع الذكوري. بالرغم من اختلاف بعض العادات والمعتقدات والأديان واللغة، ولكن التقاطعات بين المجتمعين (المجتمع المحلي والمجتمع اللاجئ) كانت سيادة السلطة الذكورية

ولاحقاً بات أكثر تعقيداً، حين توجب علينا الحصول على الموافقة بممارسة عملنا من منظمة المرأة في الإدارة الذاتية، ليسمح لنا بمتابعة العمل في البرنامج بشكل ممكن، وضمن شروط معينة لا يجب علينا تجاوزها، ومن غير المسموح لإدارة المنظمة أيضاً أن يُسمح لهم بالتدخل، كالأسماء والمعلومات الشخصية، وهذا ما تعارض مع أساس عملنا المقترن بمبدأ التعامل تحت بند (السرية والخصوصية مع الحالات) لكسب ثقة النساء وإمكانية مساعدتهن، وعدم تعريضهن لمشكلات مع ذويهن.

فكان ذلك سبباً كافياً لمنعنا من العمل ولأكثر من مرة في نفس البلدة، مرة إغلاق مكتبنا، وكان عبارة عن غرفة صغيرة كنت أعمل به مع زميلتي في مركز صحي، لاستقبال الحالات الفردية وتقديم الدعم لهنَّ، ومرة تمَّ إغلاق مكتبنا ومنعنا من ممارسة أنشطتنا مع مجموعات النساء والفتيات في ذات البلدة، وانتقلنا لمراكز أخرى، وهكذا لتهميش ما نقوم به.

أما الأمر الثاني الذي تفاجأت به واستوقفتني كثيراً، هي مواقف الزملاء العاملين في المنظمة من برنامج المرأة، أولئك الذين يعملون في البرامج الأخرى من الرجال أو حتى من الزميلات أنفسهنّ، كثيراً ما كنا نتعرض للتعليقات المزعجة والسخرية العلنية من أنشطتنا، والتقليل من قيمة خدماتنا، بالإضافة لنقطة في غاية الأهمية، وهي انتهاك مبدأ السرية والخصوصية حين يتعلق الأمر بتوزيع الإغاثات والقسائم النقدية المخصصة للنساء، حين يشترطون الحضور الشخصي، فتضطر النساء لإحضار بطاقتهن الشخصية والمثول في مكان التوزيع، وطلب تفاصيل ما قد يسبب حرجاً للكثيرات، أو يستدعي مرافقة أحد الذكور من العائلة، ما يزيد الأمر تعقيداً في أكثر الأحيان.

ربما كنت مخطئة، عندما وضعت سقفاً عالياً لتوقعاتي إزاء الموظفين، واعتقدت أنه من المفترض أنهم يعملون في منظمات إنسانية ويحملون شهادات جامعية، أو ذوي خبرة، أو احترام القضايا الجندرية في المنظمة، فالخدمات تقدم للناس وفقاً المبادئ الإنسانية القائمة على المساواة الجندرية، الاحترام، عدم التحيز، الحيادية، الاستقلالية... وكان الأجدى بهم تقديم الدعم المعنوي والمساندة لزميلاتهن لحماية النساء من العنف، كالقتل، الاغتصاب، السبي، الفقر، التشرد وغيره.

وأسهل عبارة يقولونها: "شو بدكون أكتر من هيك مساواة"، بالإشارة للمساواة معهم في العمل والأجر الذي نتقاضاه، وشغل المرأة المناصب الإدارية والقيادية بالمنظمة مناصفة مع الرجال في "مناطق الإدارة الذاتية".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image