"وَجدتُ نفسي غير مرتاحة وعاجزة عن إيجاد حلّ وحائرة بين ترك وظيفتي والبقاء في المنزل للاعتناء بطفليّ أو الاستمرار فيها. الصغير عمره ثلاث سنوات والثاني عمره سبعة أعوام. فهل أتركهما بمفردهما في البيت، وهذا مستحيل، أم أخرج إلى العمل؟".
هذا ما تقوله عزيزة الشواشي، أم تونسية وموظفة في أحد البنوك، في حديثها عن المصاعب التي تواجه المرأة التونسية العاملة، في ظل إجراءات الحجر الصحي لمكافحة انتشار فيروس كورونا.
قضية المرأة العاملة أثارت جدلاً واسعاً في تونس، في الأيام الماضية، إثر إصدار رئيس الحكومة إلياس الفخاخ الأمر الحكومي عدد 208 لسنة 2020، في الثاني من أيار/ مايو الجاري، ويتعلق بتعديل إجراءات الحجر الصحي.
نصَّ الأمر الحكومي في الفصل العاشر منه على استمرار خضوع النساء الحوامل والأمهات اللواتي لا يتجاوز سن أبنائهن الـ15 سنة لإجراءات الحجر الصحي الشامل.
أحدث الأمر ضجة كبيرة، لما فيه من عقلية غير مراعية لأوضاع النساء العاملات، ما دفع رئاسة الحكومة بعد ساعات قليلة إلى إصدار بيان توضيحي قالت فيه إنه "تسرّب خطأ في الصياغة النهائية للنص وإنه سيتم تنقيحه" وهو ما حدث بالفعل في 3 أيار/ مايو. ففي "تنقيح للأمر الحكومي" السابق، ألغيت مسألة إبقاء الأمهات اللواتي لا يتجاوز أبناؤهن الـ15 عاماً في الحجر وأبقي على النساء الحوامل.
نظرة دونية
تقول عزيزة (40 عاماً) إن النسخة الأولى من الأمر "تعكس نظرة المجتمع الدونية لدور المرأة العاملة والتي تحصرها في البقاء في المنزل والعناية بالأطفال وتعتبرها عنصراً غير فعال وغير منتج، وهي نظرة لا تنسجم مع ما تقوم به المرأة التونسية على أرض الواقع".
تروي لرصيف22: "أنا شخصياً قضيت سنوات في وظيفتي وعملت في كل شيء واجتهدت حتى تدرجت في سلم الترقيات، كما أنني أقوم بواجباتي المنزلية والعائلية على أكمل وجه".
وتضيف أن الحكومة لم تترك حرية الاختيار للوالديْن لأخذ القرار بخصوص البقاء في المنزل أو العمل وإنما ألزمت المرأة لوحدها دون استشارتها بالخضوع لهذا الإجراء.
ترى عزيزة أن الحكومة تسرعت حتى بتعديلها للأمر الحكومي، ولم تراعِ مصلحة الأطفال ولم تقدّم حلولاً عملية لمساعدة النساء على التكفل بهم في حال خروجهن للعمل، في ظل إغلاق المدارس وحضانات الأطفال، وتعلّق: "أنا أحترم القرار بطبيعة الحال فهدفه ضمان سلامة الأطفال ولكن يجب على الدولة إيجاد حلول بديلة".
يعمل زوج عزيزة في سلك الأمن ويقضي كامل ساعات يومه في وظيفته، خاصة في ظل هذه الفترة التي تواجه السلطة فيها وباء كورونا، ما اضطرها منذ أسبوع إلى اتخاذ قرار ترك وظيفتها مجبرةً للعناية بطفليها.
نسخة تمييزية
لا يختلف تقييم وداد حيزي، الموظفة في أحد البنوك التونسية، لدلالات الأمريْن الحكومييْن عن تقييم عزيزة لهما. برأيها، النسخة الأولى "تمييزية لأنها جاءت لتجبر المرأة على الخضوع لإجراءات الحجر دون الرجل ما يعكس عدم مساواة بين الجنسين".
أما تنقيح الأمر، تضيف لرصيف22، "فهو ظاهرياً يسمح لها بالخروج ولكن باطنياً يدفعها إلى التنازل والبقاء في البيت لأنها لا تستطيع ترك أطفالها دون سن الـ15 عاماً بمفردهم في المنزل".
"نظرة المجتمع الدونية لدور المرأة العاملة تحصرها في البقاء في المنزل والعناية بالأطفال وتعتبرها عنصراً غير فعال وغير منتج"... والحكومة التونسية سقطت عندما تبنّت هذه النظرة، بحسب ناشطات نسويات
تروي وداد (34 عاماً): "أنا والدة لثلاثة أطفال، ولد يبلغ من العمر خمسة أعوام وبنتين توأم تبلغان من العمر عاميْن، وأنا من محافظة القصرين وزوجي موظف من محافظة سيدي بوزيد ونقطن في تونس العاصمة بعيداً عن أسرتينا. أنا عاجزة عن إيجاد حلّ لا أخسر فيه وظيفتي وأحمي فيه أطفالي".
تعمل وداد ثلاثة أيام وتبقى في المنزل أربعة أيام للعناية بالأطفال وتتبادل الأدوار هي وزوجها، غير أنهما مهددان بخسارة وظيفتيها، وتفيد بهذا الشأن: "تحدثت مع رب عملي لإيجاد حل غير أنه لم يتفهم وأكد لي أن كل ما يهمه هو الإنتاج وأن لا يتوقف العمل. لا أعلم ماذا سأفعل في المستقبل".
وتتابع: "كان على الحكومة أن تراعي ظروفنا المعيشية لأنني شخصياً لا يمكن أن أستغني عن وظيفتي، كما عليها أن تجد حلولاً واقعية للعناية بأطفالنا بما أنها سمحت لنا بالخروج للعمل وأن تستشير المؤسسات المشغلة للنساء لإيجاد حلول ترضي كافة الأطراف".
صدمة و"صورة نمطية"
أمرٌ حكوميٌّ بمثابة الصدمة وضربٌ لمكتسبات المرأة التونسية ومحاولةٌ لترسيخ العقلية الذكورية التمييزية على أساس الجنس. هذا ما أجمعت عليه الجمعيات النسوية في تونس.
رئيسة جمعية النساء التونسيات للبحث حول التنمية نجمة العوادي شددت على أن الأمر الأول تضمّن انتهاكاً وضرباً في العمق للفصل الـ21 من الدستور التونسي الذي ينص على أن "المواطنين والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات، وهم سواء أمام القانون من غير تمييز".
تعتبر العوادي أن الأمر تضمن "رجوعاً إلى الوراء بمكانة المرأة في تونس وبما قدمته وبما ناضلت من أجله للخروج من الصورة النمطية التي تسعى أطراف معينة إلى المحافظة عليها عبر حصر دورها في الاهتمام بالأبناء وبالأسرة ونفي دور الإنتاج والمشاركة في جميع المجالات عنها".
وتضيف العوادي التي ترأس جمعية تعمل على إدماج المرأة في التنمية ودعم مشاركتها فيها، لرصيف22، أن الحكومة تتكون من ائتلاف يضم تيارات وأيديولوجيات مختلفة، وفيها مَن يسعى إلى ترسيخ هذه الصورة النمطية للمرأة، وتقول: "بالنسبة إليّ، يمكن أن يكون هذا الأمر الحكومي ‘جس نبض’ لتمرير أوامر وقوانين أخرى في المستقبل".
واستغربت الناشطة النسوية "صدور مثل هذا الأمر عن السلطة التي يُفترض أنها حامية لحقوق وحريات المرأة"، مؤكدة: "نحن كناشطات نسويات في تونس نطمح إلى مشروع مجتمع قائم على توزيع الأدوار ومبني على المساواة بين المرأة والرجل وعلى أنهما معاً يتقدمان بالعائلة والمجتمع".
"مخجل وفضيحة"
تستغرب راضية الجربي، رئيسة الاتحاد الوطني للمرأة التونسية، وهو مؤسسة تأسست سنة 1956 وتعمل على ترسيخ حقوق وحريات المرأة في جميع المجالات، الأمر الحكومي في شكله الأول وتصفه بأنه "مخجل وبمثابة الفضيحة ومرفوض تماماً لأنه لا يمكن بناء تونس الديمقراطية دون مساواة وتكافؤ الفرص بين المرأة والرجل وبالتمييز الجنسي بينهما".
"رجوع إلى الوراء بمكانة المرأة في تونس وبما قدمته وبما ناضلت من أجله للخروج من الصورة النمطية التي تسعى أطراف معينة إلى المحافظة عليها عبر حصر دورها في الاهتمام بالأبناء وبالأسرة"... أمر حكومي يثير جدلاً حول النظرة إلى المرأة العاملة
وبحسب الجربي، عكَسَ قرار رئاسة الحكومة مشاركتها المجتمع التونسي في نظرته الدونية للمرأة العاملة، متسائلة: "كيف للسلطة أن تقاوم عقلية ذكورية سائدة لدى العامة فيما اتضح أن هذه العقلية سائدة لديها لأنها كتبت وناقشت ووقّعت الأمر في نسخته الأولى ثم راجعته في نسخته الثانية وأصلحت الخطأ بخطأ آخر".
وتضيف لرصيف22: "يبدو وكأن المسألة ثانوية بالنسبة إلى الحكومة لأنه حتى بالسماح للنساء العاملات بالخروج للعمل فهي تعلم ضمنياً أنهن سيتنازلن ويرضخن للأمر الواقع ويبقين في المنازل".
ترى الجربي أن إجراءات الحكومة "دليل على تأصيل العقلية القائلة إن وظيفة المرأة تكون في البيت للاهتمام بكل مسؤوليات الأسرة والأطفال من دراسة وتنظيف وطبخ ما سيؤثر سلباً على تدرجها في السلم الوظيفي والترقيات فيما تكون وظيفة الرجل خارج المنزل، وفي ذلك دليل على أن الدولة في حد ذاتها تكرس مسألة تنصل الرجل من مسؤولياته".
"عقلية بدائية"
"كان الأمر الحكومي في نسخته الأولى بمثابة الصدمة عليّ لأنه كان من المفروض عدم سقوط الحكومة في أي تناقض مع ما نص عليه الدستور التونسي من مساواة تامة بين الجنسين"، تقول مباركة بن منصور، رئيسة جمعية نساء من أجل التنمية والمساواة في دوز، وهي جمعية تأسست عام 2014 ومن أهدافها إشراك المرأة في المناطق الداخلية في المجال التنموي.
تقول لرصيف22 إن هنالك أطرافاً في الحكومة اليوم مع مشروع إعادة المرأة إلى المنزل وبقائها فيه ومع إرجاع النظرة المتخلفة لها، رغم حضورها اللافت كيد عاملة هامة ونشيطة في كل القطاعات.
وتعتبر أن الهدف من الأمرين الحكوميين الأول والمنقح هو ضرب مكسب الشغل لدى المرأة "لأن استقلالها المادي يخلق استقلالها في جميع الخيارات الأخرى".
خطأ أم لا؟
توضيح رئاسة الحكومة وحديثها عن وقوع خطأ في صياغة النص، اعتبرته نجمة العوادي غير كافٍ، مشيرة إلى أنها لم تعدّله إلا بعد ضغط المجتمع المدني.
من جانبها، أشارت مباركة بن منصور إلى صعوبة تصديقها لهذا التوضيح، قائلة: "يا حبذا لو كان خطأ مطبعياً. هم كانوا يتصورون أن الأمر سيمر مرور الكرام".
أما راضية الجربي فأشارت إلى أن حملات التنديد والهبّة التي قام بها المجتمع المدني هي التي أدت إلى تراجع الحكومة وإعلانها عن حدوث خطأ، مشددة على أن الأمر المنقح كذلك لم يرفق بأمر ترتيبي آخر وبآليات وإجراءات تتعلق بكيفية العناية بالأطفال الذين سيبقون في المنازل.
ولإعطاء المرأة العاملة مكانتها التي تستحقها ولفهم دورها الصحيح في المجتمع، ترى الجربي أن على الدولة العمل على إصلاح العقليات الذكورية التمييزية بين الجنسين والتركيز على المسائل الاجتماعية الثقافية التحسيسية بهذا الخصوص، وعدم التقليل من قيمة وأهمية نشاط الجمعيات الحقوقية في هذا المجال وترذيله وتهميشه.
وتؤكد أنه "لا بد من الخروج من أزمتنا الأخلاقية والثقافية بين النساء والرجال لبناء مجتمع متماسك وخلق جيل جديد يحترم الاختلاف وللقضاء على العنف بكل أشكاله".
وبرأي بن منصور، كان يجدر بالحكومة استشارة الزوجين وترك حرية الاختيار لهما دون التحجج بصعوبة التطبيق.
بدورها، تلفت نجمة العوادي إلى أنه كان على الحكومة تنظيم الحجر بدقة أكثر وعمق ومسؤولية عبر استشارة كل الأطراف المعنية وتوفير أجور للنساء اللواتي يعملن في القطاع الخاص، في حال بقائهن في المنازل، والتنسيق مع المجتمع المدني بهذا الخصوص والانفتاح عليه أكثر.
واقع معاش
مقابل ذلك، توجد نسبة من النساء اللواتي تدعمن قرار رئاسة الحكومة ولكن وفق شروط.
تقول الصحافية التونسية منى عابدي، وهي والدة لطفلة تبلغ من العمر تسع سنوات: "هنالك حالات استثنائية عديدة لأمهات يعملن ويعشن بمفردهن بعيداً عن أسرهن كالأرامل والمطلقات وحالات أخرى لأزواج يقطنون بمفردهم وكلهم يعملون، ما يتطلب ترجيح كفة مصلحة الأبناء وبقاء الأم في المنزل"، حسب تقديرها.
وتعتبر منى أن هذا القرار يقوم على واقع معاش لا بد فيه من مراعاة ظروف العمل بالنسبة إلى الحالات الاجتماعية والإنسانية للأمهات وحقوق الأطفال التي تتصدر أولويات الدولة، على أن توفر الحكومة الظروف والضمانات الملائمة لبقاء الأمهات العاملات في المنازل واستغنائهن عن وظائفهن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومينحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 5 أيامtester.whitebeard@gmail.com