"لا يجب النظر إلى الدولة بوصفها الجهاز الذي تتشكل منه الحكومة وحسب، بل إنها هذا الجهاز مضافاً إليه الجهاز الأهلي، والذي تطلق عليه تسمية المجتمع المدني. لهذا الجهاز وظيفة، وهي السيطرة على السياسة، كما أن فكرة الدولة عموماً مكونة من عناصر تعود جذورها إلى المجتمع المدني. لذلك، الدولة تتشكل عملياً من مُجتَمَعين: المدني والسياسي".
هذا بعض ما يقوله الفيلسوف الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي في "رسائل السجن". وفي مكان آخر يكتب: "سنشهد مرحلة تكون فيها الدولة معادية للحكومة وتتماثل مع المجتمع المدني. عندها، ستصير الدولة أقرب إلى حارس أو منظمة قمعية، تراقب التطور في العناصر التي تتكاثر داخل المجتمع المنظم، بحيث تتراجع وتيرة تدخلها تدريجياً".
يسبّ اللبنانيون "الدولة" عموماً. وما يقصدونه في الشتيمة غالباً هو الدولة كما هي متخيّلة، وليست كما هي في الواقع بالضرورة. "الدولة" التي ينسبون كل الويلات إليها هي السياسيون، وليست جهازاً متكاملاً يحتاج إلى تفكيك.
هي ليست نظاماً واضحاً لديه ملامح الأنظمة العربية الديكتاتورية أو هيئتها، وليست ثيولوجية مثل الجارة إيران أو علمانية يطاردها ظل الجيش مثل الجارة الأخرى تركيا.
"الدولة" في لبنان هي ما يرمز إليه النظام السياسي بأسره، وليس هناك فصل بينها وبينه. ربما يكون اللبنانيون على حق، فليست وظيفة ضرورية لأحد أن يبحث في النظريات السياسية. وقد يكون الاتفاق على استخدام المصطلح أسهل من الاختلاف عليه. لكن ما الذي يقصده اللبنانيون عموماً، عندما يقولون "المجتمع المدني"، وما هو "المجتمع المدني" فعلاً؟
عودة إلى الأصول
يختلف المجتمع المدني حسب اختلافات المنتسبين إليه والمعرّفين عنه، على نحو يصعّب إيجاد تصوّر مشترك له في ما بينهم. اليسار الكلاسيكي، لبنانياً وعربياً، والذي لم يستطع استيعاب تفكك الاتحاد السوفياتي بسهولة، اختصر تعبير المجتمع المدني منذ البداية بالجمعيات غير الحكومية. وكذلك فعلت أحزاب الحالة الإسلامية في لبنان، وربما يكون حزب الله أبرزها.
بالنسبة إلى هؤلاء، لم تكن نظرة الشك إلى المجتمع المدني منطقية، لأن في خلفيتها محاولة لمسخ الديمقراطية (الممسوخة أصلاً)، عبر مسخ المجتمع المدني المحلي إلى مجموعة جمعيات غربية غازية. وقد لا يكون عدم التفرقة بين الجمعيات التي تعمل وفق منهجية متعولمة كجزء من المجتمع المدني وبين ماهية المجتمع المدني بالفعل، مجرد خلل معرفي، بقدر ما قد يكون مقصوداً والهدف منه رفض أي شكل من أشكال التعددية، أو محاولة لإبقاء تعريف "الدولة" كما هو، منفصلاً عن المجتمع والتحولات التي يعرفها.
في جميع الحالات، هذه القراءة التي أدت إلى اختزال المجتمع بالجمعيات قوّت شوكة الأخيرة، وأقصت مجموعات أخرى عن دورها الفاعل في المجتمع المدني. لكن، قبل كل شيء، يجب الانتباه إلى أن المجتمع المدني ليس مجرد صفة.
المجتمع المدني كلمة فضفاضة. ليس في معناها المنهجي منذ نشأة المصطلح وبعد تطوره، إنما في استعمالاتها. فإنْ كان شرح المعنى موجوداً في كثير من الدراسات، تبقى الاستعمالات منفصلة عن بعضها.
في المعنى، تعود أصول فهم المجتمع المدني إلى أيديولوجيتين أساسيتين: الليبرالية والماركسية، حتى في مجتمعاتنا التي انتقلت إليها تحولات القرن التاسع عشر عبر الاستعمار وليس عبر التجربة. ذلك أن فهم الدولة وفهم المجتمع، في الإطارين الأساسيين المهيمنين على تفسير المصطلح، أي الليبرالية والماركسية، كان فهماً للدولة مقابل فهم للمجتمع، بوصف الأخير مجتمعاً صناعياً.
إذاً، كانت النظرة إلى المجتمع المدني عموماً نظرة إلى الدولة قبل كل شيء. حسب النظرة إلى الدولة يمكن النظر إلى المجتمع المدني وفهم هذه النظرة. على عكس النظرية الماركسية، اللافت أن الكثير من الماركسيين المعاصرين لا يأخذون بالاعتبار أن المجتمع المدني ميدان صراع اقتصادي واجتماعي، ويغضون النظر عن كون هذا الميدان هو مكان لاستغلال الطبقة العاملة من قبل الطبقة المهيمنة بواسطة الأيديولوجيا، التي هي المكون الأساسي للدولة الرأسمالية. أما ليبرالياً، فالمجتمع المدني، في أساسه، هو خط فاصل، بين المجال العام والمجال الخاص، أي الدولة والعائلة سابقاً. ومع التحولات المتتالية في الأنساق الأخلاقية، صار تعريف المجالين المذكورين بحاجة إلى تحديث متواصل.
التماهي مع الدولة
هذه الأطر النظرية قد لا تبدو كافية لفهم المجتمع المدني اليوم، ولكنها ضرورية كخلفية، للاستدلال إلى ما نسمّيه في أدبياتنا "المجتمع المدني"، كمصطلح صار يُستعمل فوق التاريخ. وربما يكون مفيداً، الاستعانة بيورغن هابرماس، الذي يحدد العلاقة بين الرأي العام غير الرسمي، والرأي العام الخاضع لسُلطة الدولة، والعلاقة بين الرأيين مع تشكّل المجتمع المدني. في هذه المؤسسات، تدور حلقة صراع حول الهيمنة، بأدوات يصعب تحديدها بدقة، لأنها أفكار وقيم تتناسل بوتائر سريعة. لكن في تلك المنطقة تحديداً، التي ينشط فيها المجتمع المدني، تحدث عملية إنتاج-إعادة انتاج هائلة للأيديولوجيا التي تتبناها الطبقة المسيطرة.
"المجتمع المدني ليس ميداناً مناسباً لإطلاق مقاومة ضدّ السُلطة... وبالنظر إلى الحالة اللبنانية، وبالنظر إلى درجة استبعاد احتمالات الصراع الطبقي، يمكن العودة إلى نقطة الصفر: لمصلحة أي طبقة يعمل المجتمع المدني؟"
لعل اقتراب سياسيين لبنانيين بارزين من لغة الجمعيات الأهلية ليس مجرد استعارة صورية الخطاب، بل محاولة جدية لحجز موقع في الخطاب المهيمن. ما يقوله هابرماس هو أن النخبة الحاكمة لا تحتاج إلى موافقة الشعب على الخضوع للراهن وحسب، بل تتطلب قبولاً بمصالح النخبة أيضاً. وقد تكون وظيفة المجتمع المدني، في مجتمع ديموقراطي أو في مجتمع شمولي، بطريقتين مختلفتين، هي إسباغ العلاقة بين الحكام والمحكومين بالأفكار التوافقية.
ولشدة رسوخ تصور غير علمي عن المجتمع المدني، يجب التنبيه دائماً إلى أن ما نتحدث عنه هو المجتمع المدني، وليس الجمعيات الأهلية، التي تروّج لمجموعة قضايا وأفكار كوزموبوليتانية.
فالقضايا التي يهتم فيها "المجتمع المدني" كما يفهمه اللبنانيون، عموماً، تشبه القضايا في مصر وتونس وسوريا وفلسطين والعالم العربي عموماً: النسوية، حقوق مجتمع الميم، اللاجئون واللاجئات، إلخ. وهذه قضايا عادلة. لكن توزع الاهتمامات إلى قضايا منفصلة، لا يعكس تفشي الأخلاق الفردية، بالمعنى الذي يتحدث عنه إميل دوركايم وحسب، بل يؤدي في السياسة إلى تراجع الاهتمام بالعدالة الاجتماعية كقضية مركزية.
ثمة مَن يتحدث عن المجتمع المدني أيضاً كساحة مقاومة ضدّ السُلطة. لكن ميشال فوكو خلص في أكثر من مناسبة، إلى أن المجتمع المدني يصير ساحة لعملية تشكيل وإخضاع خاصةً في مناخ نيوليبرالي، من دون أن يلغي احتمالات المقاومة.
وصحيح أن فوكو يعتبر المجتمع المدني فرصة لتشكيل حالة مضادة، عبر إنتاج آليات لرعاية الذات، والتأمل في أخلاق كونية، ما يمهد الطريق أمام استبدال السُلطات، لكنه لا يعتبر أن المجتمع المدني لديه ما يخوّله الانفصال على نحوٍ تام وحاسم عن الدولة كسُلطة.
حسب فوكو، السُلطة والمجتمع المدني يخرجان من المكان نفسه، من الممارسات السُلطوية التي تهيمن على طبيعة العلاقات في المجتمع. بالنسبة له، كان المجتمع المدني موقعاً متقدماً لممارسة السُلطة. ذلك لا يلغي أن عالم الاجتماع الفرنسي انتقد السُلطة بمعناها الماركسي.
طبقة واحدة أم وظيفة طبقية؟
ما نتحدث عنه، في الحالة اللبنانية، قد يكون "الثورة السلبية"، كما يصفها أنطونيو غرامشي وليس ميشال فوكو، تلك العملية، التي تحدث بسرعة كبيرة، وببطء شديد، في الوقت عينه، وفي الأوقات التي تتالى، ومهمتها الأساسية إعادة إنتاج سُلطة الدولة، وتنظيم علاقة الدولة مع المجتمع، على نحو يسمح بإمكانات هيمنة القلة على الكثرة.
"هل كان المجتمع المدني حاجزاً بين الدولة كجهاز ينظم مصالح طبقة مهيمنة، وبين الطبقة المتضررة التي استولى المجتمع المدني على خطابها؟"
هل يمكن استعارة "الثورة السلبية" من غرامشي، لقراءة دور المجتمع المدني في لبنان، بمعناه الحقيقي، كمختبر عريض لأصحاب الرأي والتأثير من خارج الدور الرسمي؟ بكلمات أخرى، هل كان المجتمع المدني حاجزاً بين الدولة كجهاز ينظم مصالح طبقة مهيمنة، وبين الطبقة المتضررة التي استولى المجتمع المدني على خطابها؟
ما يضمه هذا المجتمع، يعني الجمعيات، حملة الأفكار وناقليها، يمكن أن نضيف "الإنفلونسرز" بلهجة معاصرة، الرياضيون، الفنانون، الكتّاب، مقدمو نشرات الأخبار، إلخ. لكن هذه المجموعة التي لا ترتبط ببعضها إلا في كونها تروج أفكاراً، تخضع في نهاية الأمر إلى تراتبية تحاكي التراتبية الطبقية.
فالطبقة الوسطى، كسلوك ينتهجه المنتسبون إليها أكثر من كونها واقعاً اقتصادياً، تحاول تقليد الشكل الثقافي للبورجوازية، أو للطبقة الحاكمة بلغة هابرماس. المجتمع المدني هو المكان الذي تحدث فيه هذه العملية، أو سقف هذه العملية بالتحديد، ما يجعل الطبقة العاملة خارج إنتاج العملية الثقافية وخارج إنتاج الثقافة، بسبب عزوفها عن المشاركة في إنتاج ثقافة نخبوية. وهذا ما يفسر سوء العلاقة بين مصطلح المجتمع المدني وبين الطبقة العاملة، التي بحكم إقصائها من عملية إنتاج الثقافة، تنصرف إلى اهتمامات شرطها الأساسي هو تلبية حاجة العيش.
بمعنى ما، سيعيدنا هذا إلى فوكو. بعد تراجع منظومة العقاب، تقدمت منظومة المراقبة والإخضاع. لطالما تحدث فوكو عن السجن الدائري، الذي يمكّن السجانين من مراقبة الجميع في ذات اللحظة، وطوال الوقت، بدون أن يكون للسجين أية صلة ترجى بالعالم الخارجي.
هذا السجن ليس سجناً مباشراً يمكن النظر إليه، بل يمكن أن تمتد تمثيلاته إلى المجتمع المدني، حيث تسلّط الرقابة على كل الأفكار الاعتراضية، وتهدف الرقابة إلى فصل يؤدي في النهاية إلى تعميم مصالح النخبة الحاكمة، التي تحاول الطبقة الوسطى التماثل معها.
ذلك أن المجتمع المدني ليس ميداناً مناسباً لإطلاق معركة ضدّ السُلطة. التحليل الفوكوي للمجتمع المدني، يعود إلى تطور الليبرالية، التي أوجدت المجتمع المدني لكي تصنع منه عائقاً أمام الدولة، كما يقول.
لقد كان هاجس الليبرالية هو حماية الملكية الخاصة وحرية الأسواق. وإنْ كان هاجس فوكو هو نقد السُلطة، ويعتبر الليبرالية في هذه الحالة "أقل" من أيديولوجيا، أي نقد مستمر لدور الدولة، وحدود سلطتها، فإن ذلك لا يعني أن شروط الليبرالية ممكنة.
وبالنظر إلى الحالة اللبنانية، وبالنظر إلى درجة استبعاد احتمالات الصراع الطبقي، يمكن العودة إلى نقطة الصفر. هكذا، سيبقى السؤال عن وظيفة المجتمع المدني ضخماً إلى درجة تجعل العثور على إجابات مستحيلاً. بالعودة إلى الصفر، يمكن تبسيط السؤال، لمصلحة أي طبقة يعمل المجتمع المدني؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 12 ساعةأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ 18 ساعةحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ يومينمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 3 أيامtester.whitebeard@gmail.com