لم يكن ما صدر عن رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون، في المقابلة التلفزيونية التي أجريت معه في الثاني عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر، غريباً عنه.
كان واضحاً أن مرتبي إطلالته على اللبنانيين في هذا التوقيت الدقيق، أرادوا منه الظهور بمظهر المسؤول المتفهم لمطالب المتظاهرين، لتهدئتهم وإيصال رسالة لهم بأن الأمور في الأيام القليلة المقبلة ستكون أفضل.
لذلك اختير لأداء المهمة الصعبة صحافيان "مخضرمان" راحا يسهّلان الأمور عليه لا بل يعطيانه مفاتيح الإجابات المطلوبة على أسئلتهم، وكأنهما يديران عملية سياسية لا مقابلة صحافية.
كادت الأمور أن تنجح، ولو نجحت لهدأت حركة الساحات لأن المتظاهرين تعبوا وفقط يريدون من السلطة أن تضع خارطة طريق للخروج من الأزمة الحالية، ولكن الرئيس تمرّد على المهمة المطلوبة منه، واستعاد شخصية العسكري الغاضب في الدقائق الأخيرة من المقابلة، وأخرج من فمه عبارة "يروحوا يهاجروا".
هذه العبارة الموجهة للمتظاهرين أغضبتهم، خاصةً أنها تأتي من شخص يشغل منصب الرئاسة الأولى في البلد. صحيح أنها أتت في سياق مشروط بـ"إذا كانوا يعتقدون أن لا وجود لأوادم في السلطة"، ولكنها متحققة بتحقق شرطها في وعي الجماهير الثائرة ضد سلطة لا ثقة بأي من أركانها.
كان على الرئيس أن يعرف ذلك، لأن معرفة ذلك جزء من تقدير الوضع الراهن. ولكن يبدو أنه مجدداً لا يتردد عن توجيه إهانات للناس عندما يكون الخيار بينهم وبين أصهرته. هذه المرّة، مما يثير غضبه رفض الناس لوجود صهره جبران باسيل في الحكومة المقبلة، وكان قبل أعوام قد وصف رافضي وصول صهره الآخر شامل روكز إلى منصب قائد الجيش، بـ"الشعب الطز".
جزء أساسي من ثورة اللبنانيين ينطلق من أنهم عملياً "شعب طز" (لا أهمية لهم) في عيون السياسيين، وهذا أيضاً جزء أساسي من استعصاء حلّ الأزمة الراهنة.
فالمشكلة الأساسية في لبنان هي غياب التواصل السياسي الديمقراطي بين المسؤولين والناس. المسؤولون يتبوأون مواقع المسؤولية للوجاهة، لا لخدمة الناس، والأخيرون لا يحق لهم المطالبة بشيء بل فقط عليهم انتظار "عطايا" الأولين، ومفهوم المصلحة العامة برمته مفقود. وهذا ليس جديداً، بل قائم منذ وقت طويل.
ولكن هذه المرة، خرج "الشعب الطز" إلى الشوارع ليقول "كفى" وليقول "أنا هنا". قد تنجح ثورته وقد لا تنجح ولكنه فرض نفسه على المعادلة القائمة وحطّم ازدراء السياسيين له وتعاطيهم معه كلزوم ما لا يلزم.
"زعماء" لبنان لا يعرفون التعامل إلا مع شعب خانع. كل منهم يدير جماعة من جماعات البلد الطائفية بما يشبه الريموت كونترول وقواعد اللعبة معروفة عنده: نجيّش الناس طائفياً فيتكاتفون حولنا ضد الآخرين، ثم نقوم نحن "القادة" بـ"طبخ" ترتيبات بيننا تبقينا في مناصبنا وتبقي مكتسباتنا متحققة فتنتهي مؤقتاً حاجتنا للناس ونعيدهم إلى منازلهم.
"هذه المرة، خرج ‘الشعب الطز’ إلى الشوارع ليقول للمسؤولين اللبنانيين ‘كفى’ وليقول ‘أنا هنا’. قد تنجح ثورته وقد لا تنجح ولكنه فرض نفسه على المعادلة القائمة وحطّم ازدراء السياسيين له وتعاطيهم معه كلزوم ما لا يلزم"
"فهم السياسيين اللبنانيين للسياسة هو ما يحول دون فهمهم لما يجري الآن ودون اقتراح حلول للأزمة الحالية... احتقارهم للناس يمنعهم من ذلك. الناس في عرفهم قطعان ماشية لا تسير بلا راعٍ ومرياع"
فهم السياسيين اللبنانيين للسياسة وغرقهم في أساليبها المعتمدة منذ تأسيس لبنان هو ما يحول دون فهمهم لما يجري الآن ودون اقتراح حلول للأزمة الحالية. السياسة في عرفهم جميعاً بدون استثناء هي لعبة تجييش تنطلق من قمة الهرم لتصل إلى قواعد قابلة للاستنفار عند الحاجة. الآن لا يفهمون كيف يمكن لهذه القاعدة أن تتحرك بدون إشارة من شخص يقف في أعلى هرم ما. احتقارهم للناس يمنعهم من ذلك. الناس في عرفهم قطعان ماشية لا تسير بلا راعٍ ومرياع.
ولذلك، يبحثون الآن عن مرياع، أي عن قائد للقطيع وهو من صنفه ويعلّق جرساً في رقبته، ليتحاوروا معه من أجل إعادة الأغنام إلى السير بانضباط. لا يعلمون أن الساحات مليئة بشعب حيّ، لأن هذا يفوق قدرتهم على الاستيعاب.
المشكلة الآن هي في أحد أوجهها مشكلة ثقافة سياسية: بلغ كثيرون من اللبنانيين مستوى من الثقافة السياسية أعتقهم من تقاليد بالية كثيرة، صاروا أوعى وصاروا يعرفون أن لهم حقوقاً، وعلى منظومة السلطة في البلد أن ترتقي لتصل إليهم. ويبدو أن هذا صعب التحقق مع الطبقة السياسية الحالية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
حوّا -
منذ يومينشي يشيب الراس وين وصل بينا الحال حسبي الله ونعم الوكيل
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل هذه العنجهية فقط لأن هنالك ٦٠ مليون إنسان يطالب بحقه الطبيعي أن يكون سيدا على أرضه كما باقي...
Ahmed Mohammed -
منذ 3 أياماي هبد من نسوية مافيش منطق رغم انه يبان تحليل منطقي الا ان الكاتبة منحازة لجنسها ولا يمكن تعترف...
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياموحدث ما كنا نتوقعه ونتأمل به .. وما كنا نخشاه أيضاً
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أيامصادم وبكل وقاحة ووحشية. ورسالة الانتحار مشبوهة جدا جدا. عقاب بلا ذنب وذنب بلا فعل ولا ملاحقة الا...
mahmoud fahmy -
منذ أسبوعكان المفروض حلقة الدحيح تذكر، وكتاب سنوات المجهود الحربي، بس المادة رائعة ف العموم، تسلم ايديكم