شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
هتاف

هتاف "الهيلا هيلا هو" بدأ من هناك... شهادات من الخندق الغميق والجوار

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الاثنين 16 ديسمبر 201906:53 م

فلنتفق على أن تسمية "شباب الخندق" لم تعد صالحة للاستخدام. الخندق الغميق، الحيّ الذي يقف على حافة وسط بيروت، أصغر من أن يتسع للمشهد. فلنتفق على أن "الخندق"، الحي الناجي من مهزلة إعادة الإعمار، محطة تجمّع.

الفرضية الأولى تقول إن الشباب الذين تُطلَق عليهم تسمية "شباب الخندق"، ويهاجمون المتظاهرين المتجمعين في ساحتي الشهداء ورياض الصلح أو على جسر الرينغ، يأتون من ضواحي بيروت الجنوبية ويلتحمون مع بعض قاطني "الخندق"، ثم ينطلقون نحو "الوسط". وهذه فرضية صائبة. لكن لا الخندق، ولا الذين ينزلون فيه قبل "الغزو"، قادمون من الفضاء.

ما شاهدناه في الصور صحيح: لديهم هراوات وعصي وُزّعت عليهم على عجل. وما لم نشاهده صحيح: لديهم أحلام في جيوبهم، وقد يخرجونها يوماً ما مجدداً، ويشهرونها هم أيضاً. قد يخرجون من تحت "العباءة".

قد يبدأ تاريخ لبنان الحديث بحديث ميشال شيحا عن "العتالين القادمين من الجنوب"، وقد يمرّ بقبضايات صائب سلام الذين يعملون تحت أمرة "البيك"، ويصل إلى ما وصلت إليه الصورة. عليك أن تستمتع لما يقوله أهل الخندق لكي تفهم: "لولا الحزب (حزب الله) والحركة (حركة أمل) لبقينا نمسح الأحذية في البلد (وسط بيروت)".

هذه الفكرة الخاطئة والواهمة التي تتردد بين السكان عند الحديث عن إمكان تخليهم عن الأحزاب التي استثمرت في النظام الطائفي اللبناني عبر استثمارها بهم، هي نتاج وعي تشكل على مراحل. ليست السوسيولوجيا من وظائف الناس، وهناك تاريخ للوعي. استسهال إبطال مفعول هذا الوعي بتوزيع "الفلايرز" والورود والسكاكر ليس ممكناً. كما أن اللازمة التي ينقلها الآباء لأبنائهم عن تاريخ علاقتهم بوسط المدينة، تدل على مسألة أساسية: العلاقة سيئة تاريخياً مع الوسط، أو الشعور بأن موقعهم الطبقي هناك "أقل" من أقرانهم دائماً.

دعوة هؤلاء للخروج من طوائفهم ليست أمراً يرجى منه تجاوباً سريعاً، وإنْ كانت الانتفاضة قد عجّلت في حدوث تسربات ناجعة كثيرة. ومثلما أنتج هؤلاء الشباب صورة للمتظاهرين كآخرين، شجّعتهم على الاعتداء عليهم، متجاهلين الشبه في المصالح الطبقية معهم، يبدو أنهم عاجزون أصلاً عن إنتاج صورة أخرى لوسط المدينة نفسها غير تلك التي توارثوها.

حتى قبل إعادة الإعمار، كان موقعهم في هذا "الوسط" متراجعاً. بالنسبة إليهم، الانتفاضة هي استكمال مسيرة طويلة، محاولة لاستعادة موقعهم في "الوسط، لاستكمال بناء موقعهم في "البلد".

"أشعر أنّي أنتمي إلى المكانين"

"كان (وزير التربية في حكومة سعد الحريري المستقيلة أكرم) شهيّب قد أطلق النار على الشباب. لم نسأل أصلاً مَن هم هؤلاء الشباب. نحن لا نسأل. تعاطفنا معهم في البداية، فهم مثلنا ونحن مثلهم. كان يمكن أن يحدث هذا مع أي شاب من هنا أيضاً. ثم علمنا أن هناك حشوداً تتجه إلى وسط بيروت. كان الأمر مسلياً في البداية. كان معنا ‘دربكّة’ وأعلام فريق النجمة. وما يقولونه عن ‘ثورة’ في البداية لم يكن صحيحاً، لم يكن أحد يخطط لشيء. أنا كنت هناك، ورأيت أن التظاهرات بدأت في البداية من أجل الواتساب (مشروع فرض تعرفة على الاتصالات عبر الواتساب). مع الوقت، اكتشفنا أن عددنا أكثر مما نتصور. لا أخفي عليك. كان مشهداً جميلاً فعلاً. **** أخت الدنيا، أحرقنا كل شيء حتى حاويات النفايات. شخصياً بقيت أشارك وأنزل إلى الاعتصامات لأسبوع كامل يومياً وبلا انقطاع. لكني شعرت بالغربة في ساحة الشهداء، وشعرت بأن الأمر لم يعد مسلياً. تسألني إذا شاركت في الهجوم على الساحتين لاحقاً؟ نعم، شاركت وأفتخر. وبقيت أنزل وأعتصم حتى بعد مشاركتي في الهجوم. لا أحد طلب مني أن أنزل في اليوم الأول، ولا أحد طلب مني أن أرافق الشباب إلى المشكل. هناك مَن يطلب في الحالتين، ولكني أوكد لك أن غالبية الذين ينزلون مثلي، يلحقون بالبقية. ليس هناك إحصاء وسجلات بمَن ينزل ومَن لا ينزل. أشعر أنّي أنتمي إلى المكانين. كثيرون هنا في الخندق مثلي". (عباس، اسم مستعار لشاب يبلغ من العمر 23 عاماً)

كان الطقس حاراً، وتقريباً بدأت الانتفاضة عند مغيب يوم 17 تشرين الأول/ أكتوبر. مثلما تبدأ الانتفاضات، حدث الأمر فجأة واستمر حتى الصباح، وما زال مستمراً منذ أكثر من خمسين يوماً.

في الليلة الأولى، أدار المتظاهرون ظهورهم للشمس ونظروا إلى البحر. من هنا، على "حافة" الخندق الغميق الصورة ستبدو واضحة تماماً. المدينة أمامهم، والضواحي من ورائهم. عبروا جسر الرينغ مع العابرين. من فوق ومن تحت. كانوا من أوائل الواصلين، دشنوا الانتفاضة. أحرقوا الإطارات في الشوارع. فعلوا ما يتوجب فعله. قطعوا الطريق. جرّبوا الحرية فوجدوا أنها تشبههم، وأنهم هكذا يُشبهون أنفسهم أكثر، ثم انكفأوا تدريجياً، كما لو أن هناك مَن "يسحبهم" من الساحات التي حاولوا اكتشافها.

في إحدى "الغزوات" الرئيسية الثلاث نحو "الرينغ" ونحو وسط بيروت، كان القادمون الأساسيون من حيّ الخندق الغميق بالفعل، ورافقتهم مجموعة كبيرة من شباب الأحياء في الأوزاعي، غرب بيروت. بقي الأمر مجهولاً بالنسبة للإعلام عموماً، وحتى لمعظم المهتمين. كانت التحليلات تقول إن هذا العدد الكبير يستحيل أن يكون من منطقة واحدة، أو من منطقتين. وبدأت لعبة الترجيحات: جاؤوا من زقاق البلاط أيضاً، وهو حيّ يقع بالقرب من "الخندق"، أو من الشيّاح، أول أحياء ضواحي بيروت الجنوبية، وتلت ذلك تصنيفات كثيرة على أساس طائفي، بما أن الحدث يتجه إلى منحى طائفي، وبما أن ثمة جهداً كبيراً بُذل "خلف الستارة" لدفع هؤلاء الشباب لأن يرددوا الهتاف الطائفي الفظيع "شيعة شيعة شيعة"

كان يكفي أن يردد هذا الهتاف واحد أو اثنين، حتى يعتمده الباقون. لا يحتاج إلى تدريس. إنه مجرد شعار، وليس فيزياء نووية. إطلاقه أسهل من تداعياته بكثير.

"دعني أذكّرك، وأتحدى أي أحد أن ينكر القصة: نحن الذي ألّفنا ‘الهيلا هيلا هو’، ونحن الوحيدون الذين ما زلنا نرددها بصيغتها الأصلية"... مَن هم "شباب الخندق" الذين "يغزون" ساحات التظاهر في وسط بيروت ويعتدون على المتظاهرين؟
لديهم هراوات وعصي وُزّعت عليهم على عجل. ولديهم أيضاً أحلام في جيوبهم، وقد يُخرجونها يوماً ما مجدداً، ويشهرونها هم أيضاً. قد يَخرجون من تحت "العباءة"... عن "شباب الخندق" الذين يعتدون على المتظاهرين في وسط بيروت

يمكن النظر إلى الصورة من زاوية إضافية. القادمون من الأوزاعي، "نصرةً" للخندق، بلا وعي، ربما جاؤوا نصرة لأنفسهم ضد مشروع "أليسار"، وهو مشروع "لترتيب منطقة الضاحية الجنوبية الغربية لمدينة بيروت" رأى النور نظرياً عام 1995 ولكنه لم يرَ النور على أرض الواقع بسبب رفض أبناء المنطقة له، وعبّروا عن ذلك بتضامنهم مع الذين اختنقوا من مشروع "سوليدير"، أي "تطوير وإعادة إعمار وسط بيروت"، وهو المشروع الذي أفضى إلى شكل وسط بيروت الحالي بعد انتزاع ملكية المباني من أصحابها.

ليس هذا تبريراً، وليس بينهم "بروليتاريا"، لا لأنهم ليسوا في زمن صناعي أصلاً، ولأن وعيهم ليس طبقياً في أساسه، بل لأن محاولات إنتاج وعي طبقي جديد تحدث عملياً في الطرف المقابل الذي يتعرّض للهجوم، ويحاول التأسيس لجبهة ممكنة وطويلة ضدّ طبقة محتكرة، تدافع عن نفسها بالمصرف حيناً، وبالأداة الطائفية حيناً آخر.

لكن إنكار الحقائق ليس في فائدة الانتفاضة، والنقاش حول "أليسار" وحول "سوليدير" صار في وعي أعداء الرأسمالية المباشرين، طائفياً وليس طبقياً، ولا يجب بناء تصورات يوتوبية حوله.

"نحن دعاة تغيير النظام الحقيقيون"

"يا أخي عليكم أن تجرّبوا العيش في الفقر، وأن تنتموا إليه، قبل أن تطلقوا الأحكام. يقولون إننا طائفيون، طيب فلنتحدث بصراحة. نحن طائفيون. ولكن ماذا عن الانتفاضة التي تريد تغيير النظام، ونحن نوافق على ذلك؟. ثمة سوء فهم كبير. تغيير النظام يعني أنا يحق لي أن أصير رئيساً للجمهورية، أو رئيساً للحكومة. أعرف أني لن أصير رئيساً لشيء، لكني أعطي مثلاً. نحن نعاني في الدخول إلى وظائف الدولة، ليس لأن الأحزاب هي التي تتحكم بذلك وحسب. نعاني فعلاً من النظام، الذي يجبرنا على القبول بحصة أقل من عددنا، مقابل إهمال معيار الكفاءة. لدي أصدقاء نجحوا في امتحانات الدرك ولم يدخلوا لأن هناك كوتا محددة. ما هو المطلوب لكي يصدّق اللبنانيون أن النظام ليس عادلاً. هناك بين الشباب من يقول ‘شيعة، شيعة، شيعة’، لكن ما الذي تريدنا أن نقوله؟ فنحن شيعة. هل نظر إلينا النظام بطريقة مختلفة في حياته؟ دعني أكون صريحاً أكثر، هل نظرت الانتفاضة إلينا بطريقة مختلفة؟ لن أضع عصبة على رأسي وأكتب عليها ‘أنا شيعي’ عندما أشارك مع بقية الطوائف. ولكني لن أتظاهر مع أشخاص يعتقدون أن الشيعة لا وجود لهم إلا في حزب الله وحركة أمل وحولهما. نعم لدي انتقادات على الحراك وليس أنه يوزع المناقيش مجاناً وليس لأن في الساحات صوتيات مكلفة. هذا غباء. لم أشارك ولن أشارك في حياتي في ضرب المتظاهرين، لكن ماذا تنتظر عندما تضع مجموعة منّا مع حزب غني مثل حزب ‘سبعة’؟. مَن هم هؤلاء؟ أجزم لك أن هذا الحزب دفع أموالاً لأفراد من عشائر مقابل ‘الحماية’. وهذا صار معروفاً وأنا أستطيع تمييز أن هذه أفعال جانبية وليست عامة. لكن ليس سهلاً أن تقنع الشباب في الخندق بأن حزب ‘سبعة’ يشبههم أكثر من حزب الله. يفضّل الشباب هناك أن يكونوا مع السيد حسن (نصر الله)، طالما أن ليس بإمكانهم أن يكونوا مع أحد آخر. سأقول لك أكثر من ذلك. سأقول لك ما يريدون أن يسمعونه. عدد الشباب الذين يمشون خلف الأحزاب سيتراجع كثيراً، في حال تغيّرت أحوالنا الاقتصادية. ولكن تغيير الاقتصاد ليس ممكناً من دون تغيير النظام. نحن دعاة تغيير النظام الحقيقيون". (علي، اسم مستعار لشاب يبلغ من العمر 30 عاماً)

غالباً ما يتحدث المشاركون في الانتفاضة أو الذين يصنفون أنفسهم من "النخبة" عن ضرورة الحديث مع "شباب الخندق"، والاستماع إليهم. يقولون إنه يجب "بناء ثقة" بين هؤلاء الشباب وبين الانتفاضة، وهذه دعوات أثبتت فشلها، لانطلاقها دائماً من منطلق طبقي، حيث توضع الانتفاضة "فوق"، ويصير هؤلاء الشباب "تحت".

هذا الخطاب المتناسل من تجارب المجتمع اللبناني البائسة، لم يجد له مكاناً في طرابلس وفي جل الديب وفي أماكن أخرى، لأن الانتفاضة ليست كياناً مباشراً يفاوض الآخرين على الانتساب إليه، وإنْ كانت حدود الالتحاق بها مفتوحة دائماً. لكنها ليست جوهراً بحد ذاتها، ووجودها يستدعي وجود الناس. الانتفاضة هي الآخرون. وأهل الخندق، كتمثيل من تمثيلات جماعة أهلية لبنانية لا يمكن نكران طبيعتها وأصولها الاجتماعية، عندما يغزون يعبّرون عن رفضهم أن يكونوا "تحت". ما زالوا أكثر ميلاً للشعور بفائض من القوة، ويميلون باتجاه الذي يقترح عليهم عرضاً يضمن لهم هذا الشعور.

لا يجب إلقاء كل شيء على الأحزاب الطائفية التي تستغل العلاقة الشائكة بين النظامين السياسي والاقتصادي والتاريخ الاجتماعي للمنطقة لكي تحكم قبضتها على هؤلاء تحديداً. ما ترفضه "النخب" عن شعور "الخنادقة" بأن الانتفاضة لا تمثّلهم طبقياً، يوجب الاستماع إلى هذا الخطاب، حتى ولو كان لا يستند إلى شيء. فهم لا يقولون إن جميع المتظاهرين لا يشبهونهم، ولكنهم يقيمون وزناً للشبه بحق. وقد بات معلوماً أن الشبه بينهم وبين المتظاهرين أعلى مما يتصورون، حيث لا وجود لمنطقة "وسطى" بين اللبنانيين إلا في المظهر، لكنه ليس معلوماً للشباب في الخندق. لديهم صورهم الخاصة. مسؤولية إزالة هذه الصور لا تقع على أحد، تفادياً للتحليلات النخبوية. لكن التعرف إلى هذه الصور مسؤولية الجميع.

"نحب أن نضرب"

"نحب أن نضرب. ويجب أن نضرب. والذي يتحدث عن السيد يجب أن يُضرب. يقولون إننا نقاتل ضدّ مصلحتنا، ولكن مَن هم ليقدّرون مصلحتنا. لدينا مصلحة حقيقية بأن يتوقف النهب، لكننا ضدّ إسرائيل. هل تظن أننا سنحزن في حال نجاح الثورة على المصارف وعلى اللصوص؟ الخندق أصلاً أحلى من وسط بيروت. لدينا حياة هنا، نعرف بعضنا، ونسهر مع بعضنا البعض. وليس سيئاً أن نسهر في بيروت أيضاً، ولكن الخندق أحلى منطقة في العالم. مَن قال لك إننا نريد "الداونتاون"؟ فليأخذوها. ليحلوا مشكلة الإيجارات وطرد الناس من بيوتها هنا، وليأخذوا وسط المدينة. **** فيهم وبالداونتاون، لا نحبّها ولا تعنينا. دعني أذكّرك، وأتحدى أي أحد أن ينكر القصة: نحن الذي ألّفنا ‘الهيلا هيلا هو’، ونحن الوحيدون الذين ما زلنا نرددها بصيغتها الأصلية (يضحك هنا، ويدندن بالشعار)". (حسن، اسم مستعار لشاب يبلغ من العمر 23 عاماً)


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image