تنتظر غالبية المصريين رمضان بفارغ الصبر من عام إلى عام، يبدؤون بالتجهيز قبل موعده بشهر كامل، في حالة من الفرحة الدينية التي لا تتغير كل عام، وحتى وإن اختلفت المظاهر أو قلّت نسبياً بسبب ظروف عارضة، حالية، لكن يبقى شعور داخلي لديهم بمحبة هذا الشهر الروحاني، وانتظاره، والاحتفال بقدومه لمدة ثلاثين يوماً متتالية.
هكذا يتصور مصريون "رمضان" واستقبال الكثيرين له، إَّلا أنَّ هناك من يحملون مشاعر سلبية تجاه هذا الشهر، مرتبطة بذكريات نفسية سلبية، تعرّضوا خلالها لمواقف آلمتهم، وبقيت آثارها عالقة في ذاكرتهم.
"كتّفوني وقصّوا شعري"
تحكي منة الفطيمي (25 عاماً) من إحدى محافظات الصعيد، عن تجربة لم تستطع أن تنساها، أو تتجاوز أثرها النفسي، تقول: "كنت أبلغ من العمر 9 أعوام أو 10 تقريباً، وقبل رمضان بشهرين أو ثلاثة، ظل والدي يلحّ عليّ لارتداء الحجاب، وبالطبع كنت صغيرة، ومعجبة بضفيرتي وإكسسوارات شعري الملونة، فكنت أرفض، حتى قبل رمضان بأسبوع واحد، وجدته يدخل عليّ غرفتي ومعه أخي الأكبر، وأخذ يحدثني عن أنني سمينة وجسدي يحمل معالم الأنوثة، وأنه لابد من ارتداء الحجاب حتى يكتمل إسلامي".
"الساعة التي يستيقظ فيها والدي قبل موعد الإفطار، تعد مثالاً حياً للجحيم على الأرض، يتطاول أبي عليّ أنا وأخي الأصغر، ويعنف والدتي، حتى أنه ضربها مرة في وجود الضيوف، دافعنا عنها، فضربنا جميعاً"
تقول منة لرصيف22: "لما أصرّيت على رفضي، واحتدّ الحديث بيننا، وجدت أخي يكتّف يديّ، وأحضر أبي مقصّاً، وقصّ لي شعري الطويل بشكل عشوائي، فأصبح هناك مناطق برأسي ليس بها شعر، وأخرى بها شعر لا يتعدى طوله الـ10 سنتيمترات، وهكذا طبعاً أصبح الحجاب وقتها أمراً مفروغاً منه، نظراً لاستحالة خروجي إلى الشارع بهذا الشكل".
ارتدت منة حينها الحجاب، وقاطعت أبيها وأخيها، لا تحادثهم أو تشاركهم الطعام، تتناول وجبتها في غرفتها، وساعدتها والدتها في تخطّي "الأزمة"، تقول: "تخطيتها ظاهرياً من أجلها فقط، ولكنني وحتى الآن أعاني من الآثار النفسية لتلك الواقعة، وبداخلي شعور دفين قوي بكراهية شهر رمضان، وبعد أن كان شهراً للفرحة، تجمع العائلة والجو الأسري الدافئ المطعّم بالروحانيات، أصبح بالنسبة لي رمزاً للهوس بالتدين الظاهري، حتى لو كان على حساب صحة الآخرين النفسية".
ولا تقتصر تلك الممارسات التي تجبر الآخرين على "سلوكيات دينية" قد لا يرغبون فيها على المرأة، تطال بعض الرجال أيضاً.
"لا أشبه أبي وجدي"
سامر فريد (21 عاماً)، طالب بكلية الحقوق في الإسكندرية، تشبه حكايته ما تعرَّضت له منة، يقول: "منذ أن بلغت سن الـ14 عاماً، وأبي وأمي يعدّونني لأكون نسخة مكررة عن أبي وجدي من قبله، الشخص المتدين الحافظ للقرآن، والذي يؤمّ المصلّين في المسجد، ورغم احترامي لكل تلك الاختيارات، لكنني لم أرد أن أكون هذا الشخص، فأنا أريد أن أختار حياتي بنفسي، وألا أكون نسخة مكررة عن أحد، حتى لو اخترت هذا الطريق، أريد أن أشعر أنه اختياري الحر، ولست مدفوعاً إليه دفعاً من قبل أسرتي".
وكان شهر رمضان فرصة كبيرة لممارسة أسرة سامرة ضغوطها عليه حتَّى يصوم، ويعتكف في المسجد، ويمارس كل شيء يخصّ الطقوس الدينية في هذا الشهر، يكمل سامر لرصيف22: "كبرت، وبداخلي شعور سلبي تجاه شهر رمضان، رغم أنني أحب الأجواء الرمضانية، والتقاليد الشعبية، سواء في المأكولات أو المظاهر الاحتفالية، ولكن لا يمكنني الكذب والقول إنه لا يذكرني بكل مرّة تمّ إجباري فيها على شيء لم أختره بنفسي".
"يعاملوني كطفلة منبوذة"
فدوى العايد (26 عاماً)، وهي مساعدة طبيب صيدلي في الجيزة، فتُعتبر ظروف تنشئتها أفضل من منة وسامر؛ عائلتها غير متديّنة، وكانت تحرص على أن تعيش أفرادها كافة الأجواء الرمضانية، مع ترك كامل الحرية لها ولأخوتها في اختيار الصلاة أو الصيام، ولكن معاناتها كانت خارج البيت.
تقول فدوى لرصيف22: "عانيت من المجتمع المحيط بي، مثلاً كنت في المدرسة الطفلة المنبوذة في رمضان، لأنني لا أصوم ولا أغطي شعري، ثم كبرت قليلاً واستمرت تلك الحالة، ولكن زاد عليها التحرّش المستتر بالدين في الشارع".
أما عن أكثر المواقف تأثيراً عليها، تحكي العابد أنّ رجلاً بصق عليها لأنها غير محجبة وترتدي كنزة بكمّ قصير، تقول لرصيف22: "لن أنسى هذا الموقف طالما حييت، بعدها بدأت أنتبه لتعليقات الرجال عليّ في الشارع مثل "اللهم أني صائم" أو "أستغفر الله العظيم" مصحوبة بنظرة طويلة محدقة في وجهي وتفاصيل جسدي، الأمر الذي يجعل من شهر رمضان أكثر الشهور المؤذية للنساء، والذي يزداد فيه التحرش اللفظي، والتعليقات الحقيرة عليهن، لذلك وبطبيعة الحال، لم أعد أتحمَّس لقدومه، ولم أعد أنتظره من العام للعام، على العكس، أعد أيامه منتظرة انتهائه".
"عشت طفولتي في رمضان منبوذة لأني لا أصوم ولا أتحجب، وعندما كبرت يتحرش المارة بجسدي، ويسمعوني كلمات مثل "اللهم إني صائم"، مصحوبة بنظرة طويلة محدقة في وجهي وتفاصيل جسدي، لأني أرتدي كنزة بكم قصير"
أما إيناس عبد الحافظ (19 عاماً)، طالبة بالسنة الأخيرة من الثانوية العامة، فرمضان يأتي مصحوباً بتعرضها هي ووالدتها لتعنيف شديد من والدها، لا يصدر منه طوال شهور السنة.
"لا أحب رمضان بسبب أبي"
تقول إيناس لرصيف22: "طوال حياتي في الطفولة والمراهقة، وأنا أحب شهر رمضان جداً وأنتظره كل عام، لعشرات الأسباب الدينية والدنيوية، حتى قبل عامين، حين بدأ أبي بتغيير سلوكه في شهر رمضان، ويتحجج بالصيام وإرهاقه ليتطاول على والدتي ويعنفني أنا وأخي الأصغر، رغم أنه يقضي نهار رمضان نائماً".
"ساعة ما قبل الإفطار مثالا حيا للجحيم".
تحكي إيناس عن أكثر اللحظات شقاء في اليوم الرمضاني، تقول: "الساعة التي كان يستيقظها قبل موعد الإفطار، كانت تعد مثالاً حياً للجحيم على الأرض، فمثلاً من الأيام التي لا يمكن أن تغيب عن بالي، في رمضان الماضي، كانت والدي ووالدتي قد دعوا العائلة بأكملها للإفطار، وكانت والدتي تحضر وتجهز لهذا اليوم لأسبوع كامل، ضاغطة على نفسها ومتحاملة على صحتها، ويوم التجمع حضر أبي إلى المنزل هائجاً علينا لسبب تافه ولا علاقة لنا فيه، وما إن وجد أمي في وجهه حتى انهال عليها بالسباب والضرب والتعنيف دون أي سبب، وعندما حاولنا أنا وأخي أن نخلصها منه، ضربنا نحن أيضاً، حتى تجمع الجيران على صوت صراخنا".
تنهي إيناس حديثها قائلة: "بدأ رمضان يرتبط في ذهني بتلك الذكريات المليئة بالأذى والعنف، ورغم أنني أعتبر نفسي متدينة، لكن رغماً عني لم أعد أحب شهر رمضان، والسبب والدي وتصرفاته الطفولية، كأنه هو الوحيد الصائم، وكأن صيامه مبرر لضربنا وإيذائنا، وعدم تقدير المجهود الذي تبذله أمي طوال الشهر وهي صائمة مثله تماماً، وتعمل مثله، ويزيد على كل تلك المتاعب، ضربه لها وتعنيفها".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون