لم يمرّ خبر وصول سعر صرف الدولار إلى عتبة الـ4000 ليرة لبنانية مرور الكرام في لبنان، إذ كان كفيلاً بخروج مئات المحتجين الذين كسروا إجراءات الحجر الصحي الخميس، في الـ23 من نيسان/ أبريل، ووقفوا أمام المصرف المركزي في بيروت، وفي مناطق عدّة من لبنان، مرددين هتافات منددة بسياسات حاكم المصرف رياض سلامة وبـ"حكم المصرف".
وعمد عدد من المحتجين إلى قطع طرقات رئيسية بالإطارات المشتعلة، في العاصمة بيروت وشمالاً وجنوباً، وانتشرت القوى الأمنية ووحدات الجيش اللبناني تحسباً لأي طارئ.
وتشهد الليرة اللبنانية في الأيام الأخيرة تسارعاً في انخفاض قيمتها، ما يعني زيادة كبيرة في تضخّم أسعار المواد الأساسية، في بلد يعتمد بشكل كبير على الاستيراد، وبالتالي تفاقم أزمة اللبنانيين الذين يعانون منذ أشهر من تردي الوضع الاقتصادي بشكل لم تشهد له البلاد مثيلاً.
هذا ليس التحرّك الأول من نوعه، بعد أسابيع من الهدوء الذي أعقب قرار الحكومة فرض حالة "طوارئ صحية" في منتصف آذار/ مارس الماضي، وما تلاه من قرارات حظر تجوّل جزئي، أفرغت الشوارع وساحات الاعتصام من المتظاهرين.
ففي الأيام الماضية، عادت التحركات الشعبية إلى الشارع اللبناني، في بيروت وطرابلس ومناطق أخرى، بالتزامن مع عقد البرلمان جلسات تشريعية بين 21 و23 نيسان/ أبريل، على شكل مسيرات سيّارة.
ولكن تحرّكات الخميس يمكن اعتبارها تحوّلاً نوعياً في شكل الاحتجاجات، إذ لم يلتزم المشاركون فيها بإجراءات الوقاية، وعلى رأسها التباعد الاجتماعي، بعكس المسيرات السيّارة التي ارتدى المشاركون فيها كمامات وقفازات طبية والتزموا بتواجد شخصين داخل كل سيارة.
كما تميّزت بعض تحرّكات الخميس بحدتها النسبية. ففي صيدا، اعتقلت القوى الأمنية سبعة متظاهرين، بعد رشقهم مبنى مصرف لبنان في المدينة بالحجارة، قبل أن تطلق سراحهم عقب ساعات. وحصل إشكال بين المتظاهرين وقوة من الجيش في مدينة تعلبايا، في قضاء زحلة، فأطلق الأخير النار في الهواء لتفرقتهم. وفي مكان قريب، في بلدة الفيضا البقاعية، رشق محتجون حاجزاً للقوى الأمنية بالحجارة ما اضطر عناصره إلى إخلائه، ثم أضرموا النار فيه، فتدخلت قوة من الجيش.
ويجري ذلك في وقت يتوقع ناشطون ومراقبون أن يعود الناس إلى الشوارع والساحات بزخم أكبر وأقوى، بعد السيطرة على تفشي فيروس كورونا، لأن الأوضاع الاقتصادية والمعيشية لم تعد تُحتمل، برأي معظم اللبنانيين، وهي الآن لا تُقارن بما كان عليه الحال عندما انطلقت انتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، والتي تحايلت عليها السلطة ولم تحقق شيئاً من مطالبها,
"سنعود وبزخم أكبر"
شارك متظاهرون من مختلف أحياء طرابلس، في تحركات ومسيرات الأيام الأخيرة، ولكن المشاركة لم تكن كبيرة إذا ما قارنّاها بما شهدته المدينة في عز الانتفاضة، ما دعا إلى تسميتها بـ"عروس الثورة".
ويقول الناشط في التحركات الشعبية في المدينة، إبراهيم حيدر (37 عاماً)، والذي يعمل في مهنة النجارة، لرصيف22 إن "مشاركة الناس كانت مقبولة في زمن كورونا"، وإن المتظاهرين أرادوا إيصال رسالة إلى جميع السياسيين "أننا كثوار سنعود وبزخم أكبر، بمجرد احتواء الوباء، كي لا يعتقد أحد أننا تركنا الشارع وليس هناك مَن يحاسبه".
وأضاف: "نحن مستمرون كما في السابق كي لا نسمح بتمرير صفقات ليس آخرها تعميم مصرف لبنان إلى مكاتب تحويل الأموال بعدم تسليم الدولارات للناس كي يضع يده عليها، ما يُعَدّ جريمة بحق المواطن اللبناني".
وكان مصرف لبنان قد أصدر قراراً في 17 نيسان/ أبريل، فرض فيه على مكاتب تحويل الأموال أن تسدد قيمة أيّ تحويل نقدي بالعملات الأجنبية وارد إليها من الخارج، بالعملة الوطنية أيّ الليرة اللبنانية، على أساس سعر صرف السوق، وذلك استكمالاً لتعاميم سابقة قُيد فيها سحب الودائع بالدولار في المصارف.
يتوقع ناشطون لبنانيون أن تشهد الفترة المقبلة "غضباً كبيراً في الشارع" ويعتبرون "أنّ السلطة تصلّي لإطالة عمر كورونا، كي لا ترى هذا الغضب"، وأن "خطر كورونا بات أقل قسوة على اللبنانيين من خطر الجوع"
وكانت طرابلس سبّاقة في خروج تحركات شعبية. ففي الأول من نيسان/ أبريل، وبعد بدء سريان منع التجوّل، الساعة السابعة مساءً، تظاهر عشرات الشباب في أحياء عدة من المدينة، وخرج آخرون في مسيرات على دراجات نارية، احتجاجاً على تردّي الوضع الاقتصادي، ورددوا شعارات ضد الفساد والحكومة، وتدخَّل الجيش لتفرقتهم.
وفي 16 نيسان/ أبريل، تظاهر العشرات من أبناء المدينة في ساحة عبد الحميد كرامي (النور)، فعمدت فرقة من الجيش اللبناني إلى تفرقتهم مستخدمة القنابل المسيّلة للدموع.
"الثورة مستمرة"
المحامي والناشط في التحركات الشعبية علي عباس (45 عاماً) كان أحد المشاركين في المسيرات السيّارة التي جابت شوارع رئيسية في العاصمة ومرّت أمام بلدية بيروت ومصرف لبنان ومجلس النواب ونقاط رمزية أخرى، ورفعت الأعلام اللبنانية وشعارات مطلبية.
يقول عباس لرصيف22 إن "مشاركة الناس في المسيرة كانت جيدة ومتوقعة. رفعنا جميعاً العلم اللبناني لنقول إنّ الثورة مستمرة ولا تزال موجودة في النفوس وهناك رفض لكل الطبقة السياسية سواء في الحكم أو خارجه".
وأضاف: "مستمرون في تحركاتنا، وهي ليست موجهة ضد الحكومة فقط إنما ضد كل الطبقة السياسية من منطلق ‘كلن يعني كلن’، وعلى أساس مطالب الثورة الأساسية بتشكيل حكومة مستقلين تحاسب الطبقة السياسية وتتمكن من استعادة الأموال المنهوبة. ونحن مصرون على ألا يُحَمَّل المواطن مسؤولية معالجة الأزمة المالية في البلاد".
يتوقع عباس أن تشهد الفترة المقبلة "غضباً كبيراً في الشارع" ويعتبر "أنّ السلطة تصلي لإطالة عمر كورونا، كي لا ترى هذا الغضب"، مشيراً إلى توجّه لتنظيم تحركات جديدة موضعية أمام وزارات وإدارات، وإحياء نشاط في عيد العمال، في الأول من أيار/ مايو، "نظراً لرمزيته لا سيّما أنّ العمال هم الأكثر تضرراً في المرحلة الراهنة".
يتوقّع خبراء أن الشرائح الأكثر فقراً في لبنان لن تعود إلى التعبير عن امتعاضها بتظاهرة أمام مرفق عام أو بقرع الطناجر إنما من المتوقع أنّ تمارس العنف لأجل تحقيق مطالبها، فـ"الأزمة الاقتصادية المتفاقمة ستؤدي حتماً إلى انفجار اجتماعي"
بدوره، شارك طبيب الجراحة العامة والطوارئ والناشط السياسي في منطقة صور إبراهيم فرج (58 عاماً) في مسيرة جابت شوارع مدينة صور، جنوب لبنان، بالتزامن مع المناطق الأخرى، ويقول: "استقبلَنا المارة بالتصفيق وأبواق السيارات دعماً لنا".
ويضيف لرصيف22: "خرجنا كتعبير رمزي عن أنّ روحية 17 تشرين لم تنطفئ بل على العكس، هي في تزايد نتيجة تفاقم الأزمات المالية والاقتصادية والمعيشية والصحية، ولا سيّما النقدية، ولنقول إنّ الانكفاء كان قسرياً لأسباب صحية ترتبط بفيروس كورونا، وإننا سنعود حتماً حين تسمح الظروف بذلك، لأن خطر كورونا بات أقل قسوة على اللبنانيين من خطر الجوع".
ولفت إلى أنّ المشاركين يصرون على أن التحركات هي ضد كل الطبقة السياسية ويلتزمون شعار "كلن يعني كلن" سواء في ما خص شكل الحكومة أو مَن أعطاها الثقة وبقي خارجها، معتبراً "أن الأزمة المالية المصرفية هي أزمة سياسية في الأصل".
وبرأي فرج "كلما طال الوقت أكثر كلما انضمت شرائح شعبية إضافية في التحركات الاحتجاجية نتيجة تفاقم أزماتنا".
"انفجار اجتماعي"
يعتبر أستاذ الاقتصاد في الجامعة الأمريكية في بيروت جاد شعبان أن "الأزمة الاقتصادية المتفاقمة ستؤدي حتماً إلى انفجار اجتماعي".
ويقول لرصيف22 إن ارتفاع الأسعار "الجنوني" وانخفاض قيمة الرواتب أو خسارة مصادر الرزق تضعف قدرة الناس الشرائية كثيراً، "ما يؤدي إلى انفجار حتمي في المجتمع"، مبدياً اعتقاده بأن "التحركات الاحتجاجية ستعود وبزخم أكبر وتدميري أكثر أو عنفي في الفترة المقبلة".
ويذكّر شعبان بأنّ المطالب التي خرج لأجلها الناس في 17 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، مثل محاسبة الفاسدين واستعادة الأموال المنهوبة وتشكيل حكومة اختصاصيين مستقلة، لم تتحقق بعد، "بل أضيفت إليها مطالب محاسبة مصرف لبنان وضرورة تثبيت سعر صرف الليرة"، ويتابع: "أعتقد أنّ السياسيات المصرفية المتبعة راهناً ممنهجة من أجل إفقار الناس أكثر، واستفادة السياسيين من حاجة الناس إليهم أكثر".
وبرأيه، لن تعود الشرائح الأكثر فقراً إلى التعبير عن امتعاضها بتظاهرة أمام مرفق عام أو بقرع الطناجر إنما من المتوقع أنّ تمارس العنف لأجل تحقيق مطالبها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...