تلاحظون؟ لم نسأل عن فعل الاغتصاب من عدمه، بل تساءلنا عن عدد المرات...
ولعل هذا الاختيار سيتوجب منا بداية، الإجابة عن سؤال: ما معنى الاغتصاب؟
حسب القانون الأساسي عدد 58 لسنة 2017 المتعلق بالقضاء على العنف ضد المرأة، عُرّف الاغتصاب على أنه "كل فعل يؤدي إلى إيلاج جنسي مهما كانت طبيعته والوسيلة المستعملة، ضدّ أنثى أو ذكر، بدون رضاه"، ووفقاً لهذا التعريف، لا يعدّ الاغتصاب اغتصاباً إلا إذا كان إيلاجاً جنسياً، كما لا يعدّ اغتصاباً إلا إذا كان ضد "ذكر" أو "أنثى".
أما حسب مجتمعاتنا العربية فالاغتصاب هو فضيحة، عار، ثأر، شرف، شهوة وغريزة.
التعريف الأول قانوني والثاني ثقافي، الأول تهيكله "دولة مدنية، دينها الإسلام ولغتها العربية"، والثاني ترعاه مجتمعات متعددة الأديان واللغات"، الأول يدين الفاعل/ة والثاني يدين المفعول به/ها، وكلاهما يدخل في خانة العنف.
ولئن تعترف الدولة التونسية بالعنف الجسدي والجنسي والزوجي والمعنوي والسياسي والاقتصادي وحتى المؤسساتي، إلا أنه يصحّ تصنيفها من الذين ينطبق عليهم تعبير "ويلٌ للمصلّين"، المستوحى من سورة الماعون، بتصرف، "فويلٌ للمصلّين الذين همْ عَن صلاتهمْ سَاهونَ".
كيف ذلك؟ من الضروري أولاً أن نجد إجابة لعدد من التساؤلات، مثلاً:
ألا يعتبر إقصاء النساء عن الحقل السياسي اغتصاباً؟ ألا يعتبر التشغيل القسري للفتيات اغتصاباً؟ ألا يعتبر التنمّر اغتصاباً؟ ألا تعتبر ذكرياتنا الأليمة المتعلقة بطفولتنا اغتصاباً؟ ألا تعتبر تلك الصورة المدرسية الجماعية التي يدفع بعض الأطفال ثمنها، لا نقوداً فقط، بل حرماناً أيضاً، اغتصاباً؟ ألا تعدّ وهمية مجانية التعليم اغتصاباً؟ ألا تعتبر الأشغال الشاقة الملقاة على عاتق الأمهات دون الآباء اغتصاباً؟ ألا يعتبر "اقتطاع" يوم عمل باسم "التبرّع" اغتصاباً؟ وهل يصحّ لنا إذن التحدث عن "اغتصابات" بدل "اغتصاب"؟ ولا تزال قائمة التساؤلات طويلة.
ألا يعتبر إقصاء النساء عن الحقل السياسي اغتصاباً؟ ألا يعتبر التشغيل القسري للفتيات اغتصاباً؟ ألا يعتبر التنمّر اغتصاباً؟ ألا تعتبر ذكرياتنا الأليمة المتعلقة بطفولتنا اغتصاباً؟ ألا تعتبر تلك الصورة المدرسية الجماعية التي يدفع بعض الأطفال ثمنها، لا نقوداً فقط، بل حرماناً أيضاً، اغتصاباً؟ ألا تعدّ وهمية مجانية التعليم اغتصاباً؟ ألا تعتبر الأشغال الشاقة الملقاة على عاتق الأمهات دون الآباء اغتصاباً؟ ألا يعتبر "اقتطاع" يوم عمل باسم "التبرّع" اغتصاباً؟
لقارئ/ـة أن تـ/يقول: هذا ضرب من ضروب المغالاة. ربما.. ولكن الأكيد أن معيشنا اليوم يحمل، في عمقه على الأقل، شكلاً من أشكال الانتهاكات، مادية كانت أو رمزية، وهنا نتحدث عن "ثقافة الاغتصاب"، عن سلوك يتميّز بالتكرار والعود والتساهل والتبرير والاستبطان وإعادة الإنتاج، سلوك يرتقي أحياناً إلى مرتبة "المقدّس" بفعل المجتمع.
الفتاة "مريم" هذ الاسم المستعار الذي أحدث جدلاً واسعاً سنة 2012، في حادثة استنكرها المجتمع التونسي، ربما لخروجها عن المعهود أكثر من الواقعة في حد ذاتها. "مريم" كانت تبلغ من العمر حينها 27 سنة، تم اغتصابها من قبل ثلاثة من رجال الشرطة في الضاحية الشمالية للعاصمة تونس.
"فتاة الكاف"، تسمية تذهب بنا نحو جريمة الاغتصاب الجماعية التي تعرّضت لها فتاة تبلغ من العمر 15 سنة، من قبل 4 فتيان تتراوح أعمارهم بين 11 سنة و19 سنة، في شهر فبراير/ كانون ثاني 2020، بولاية الكاف. هذه الجريمة امتدت إلى العالم الرقمي بهدف الانتقام، لتضاعف من ثقل الواقعة.
"أمل" اسم نطلقه في هذا المقال على فتاة أصبحت تعاني من شلل نصفي بسبب اغتصاب وحشي، تعرضت له في الأيام الأخيرة، أي زمن كورونا.
بين الواقعة الأولى والأخيرة مرّت تسع سنوات، تطورت فيها آليات الجريمة وأركانها، صدرت فيها قوانين جديدة، أجرينا فيها عدة انتخابات، توفي فيها رئيس جمهورية، تزوجت خلالها صديقات، ومنهن من أصبحت أمّاً، اجتاح العالم وباء مميت... باختصار توقفت فيها حياة الضحايا واستمرّ العالم بالدوران: هل هو قانون الطبيعة؟ لا ... هو قانون وضعي، قانون الأقوى. فمن الأقوى، الدولة أم المجتمع؟ لا ندري من الأقوى، ولكن نعرف من الأضعف، حسب تراتبية يصنعها هذا المجتمع، تراتبية تكون فيها النساء والأطفال في المراتب الأخيرة.
فقصة كل من "مريم" و"فتاة الكاف" و"أمل" تتعلق كلها في الظاهر بالاغتصاب الجنسي فقط، ولكنها تحمل اغتصابات أخرى: اغتصاب لأمن الدولة وما يمثله الشرطي من دلالة رمزية وعملية، اغتصاب الحق في تنشئة اجتماعية ونفسية سليمة تتماشى مع سنوات الطفولة، اغتصاب مجتمع يدين "أمل" ليجعلها في موضع الاتهام.
والمحيّر في الأمر أن كلّ هذه الجرائم، على الرغم من وقعها القوي والفوري، إلا أنها تتلاشى مع الزمن، لتصبح مجرد مثال يقع الاستشهاد به ونمضي، فهل يكون الأمر نفسه إذا ما وقع اغتصاب رجل؟ أم أن الفرضية أصلاً ملغاة؟ وطبعاً لن نتحدث عن اغتصاب البينيين، فالقانون لم يشمل هذه الفئة.. وبعد كل هذا نرجو أن تجيبوا على سؤال: "كم مرّة تمّ اغتصابك؟
ولأن التاريخ لا يكتبه إلا المنتصرون/ات، نأمل بأن تنتصر "أمل".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...