هبت رياح اللغة العربية على مختلف القرى الأمازيغية التي تنتشر في محافظات الشمال الشرقي لتونس، ولكن قرية تاوجوت ظلت صامدة، محافظة مع عادات الأجدات على لغتها الأصلية، حيث لا يزال أهلها إلى اليوم يتحدثون الأمازيغية بنسبة 100%، في حين يتحدث سكان القرى الأخرى اللهجة التونسية بدرجات متفاوتة إلى جانب لغتهم الأم، بحسب من تحدثوا لرصيف22.
تقع قرية تاوجوت في أحضان أحد المرتفعات الجبلية في منطقة مطماطة التابعة لمحافظة قابس جنوب تونس، فهي توجد ضمن "الثالوث الأمازيغي" الشهير في المنطقة، حيث تتوسَّط قريتي تامزرط وزراوة، في أكبر تجمع سكاني ناطق بالأمازيغية في البلاد.
وعلى مدى سنوات طويلة، حاول سكان القرية الصمود في وجه زحف الحياة العصرية، والحفاظ على موروثهم الثقافي الأمازيغي.
عندما تدخل القرية، تشعر بشموخ قديم مشترك بين ملامح وجوه الأهالي ومبانيهم، حيث تناسقت بيوتها البسيطة المكونة من الحجارة الضخمة، الطين، الإسفلت وبعض الأثاث القديم، فتسرّ كل من يراها أو يمرّ قربها.
تاوجوت الشامخة
يقول عبد الله تاوجوتي، أحد أبناء قرية تاوجوت، في حديثه لرصيف22، إن قريته الصغيرة تمكَّنت على مدى عقود طويلة من المحافظة على موروثها الثقافي الأمازيغي، رغم أن عدداً كبيراً من أبنائها هاجروا، واختاروا العيش في مدن أخرى بحثاً عن العيش الكريم.
ويضيف تاوجوتي (23 عاماً) متذكراً: "في السابق كانت مدرسة قرية تاوجوت تستقبل سنوياً مئات الطلاب من أبناء القرية، لكن اليوم لا يوجد في المدرسة سوى 40 طالباً، في السابق كان أبناء القرية يسافرون للعمل والدراسة، ويعودون في العطل والمناسبات، لكنهم في السنوات الأخيرة اختاروا الاستقرار نهائياً في مدن أخرى هرباً من العزلة والبطالة".
عندما تدخل قرية تاوجوت تشعر بشموخ قديم مشترك بين ملامح وجوه الأهالي ومبانيهم، حيث تناسقت بيوتها البسيطة المكونة من الحجارة الضخمة، الطين، الإسفلت وبعض الأثاث القديم
في المقابل، يفتخر الشاب عبد الله بأصوله الأمازيغية، وخصوصاً بقريته التي يؤكد أنها تتميز عن باقي القرى الأمازيغية، يقول لرصيف22: "جميع أطفال تاوجوت يتحدثون الأمازيغية، ولا يفهمون اللغة العربية ولا يتحدثونها".
ويضيف: "رغم ذلك، تحرص منظمات المجتمع المدني على تعليم اللغة العربية لأطفال القرية، باعتبار أن المناهج التربوية والمدارس التونسية لا تدرّس اللغة الأمازيغية، بل تعتمد في تعليمها على اللغة العربية، الفرنسية والإنجليزية".
وتتعاقد جمعية "إحياء قرية تاوجوت الأمازيغية" سنوياً مع مدرسين لتعليم أطفال القرية قراءة وكتابة اللغة العربية، وتحفيظهم القرآن الكريم، إلى جانب حضور مكثف من النوادي الثقافية لتشجيعهم على التمسك بالهوية والأصالة الأمازيغية، بحسب تاوجوتي.
ولا يقتصر التمسك بالهوية على اللغة، يقول تاوجوتي بلغة شاعرية: "نساء القرية لازلن يتمسكن باللباس الأمازيغي، فتجدهن يتجولن في القرية شامخات بالملية والمنديل على رؤوسهن".
"إلى جانب ذلك فإن أهل القرية حافظوا أيضاً على الأطباق والأكلات التقليدية التي ورثوها عن أجدادهم وآبائهم، فلا يغيب طبق الكسكسي، العصيدة، البسيسة والبركوكش من منازل سكان القرية، خصوصاً في الشتاء".
ويرى عبد الله أن "قريته الجميلة" كما يصفها، يتمتع سكانها بمشاعر التكافل، والتكامل حيث "يكمل فيها السكان بعضهم البعض، فهم يد واحدة في ساعات الفرح والحزن"، حسب قوله.
ورغم جمال القرية وعمق تاريخها وموروثها الثقافي، إلا أنها تعاني من ضعف البنية التحتية، ونقص المياه، والعزلة، حيث يواجه الأهالي صعوبات في زراعة محاصيلهم الزراعية، ورعاية مواشيهم.
ويعيش في قرية تاوجوت اليوم 500 شخص ينتمون لمائة عائلة، وتتميز نساء القرية بملابسهن الأمازيغية التي تتكون عادة من "الملية" و"الحِرام" والمصوغ الذي يحمل رسوماً أمازيغية قديمة، كما يتميزن بوجود وشوم دائمة على وجوههن وأياديهن بأشكال وأحجام مختلفة.
"الكهف قصر الأجداد"
"قرية تاوجوت هي القرية الوحيدة في أفريقيا التي حافظت على اللغة الأمازيغية ونشرتها بين أطفالها، حيث تعيش الأمازيغية موتاً سريرياً، وإن لم تتدخل الدولة فستندثر وتختفي قريباً"، يقول الناشط الأمازيغي وابن قرية تاوجوت، الكيلاني بوشهوة، لرصيف22.
ويضيف في حديثه عن قريته الصغيرة: "لا يمكن تحديد عمر القرية في ظل غياب دراسات علمية تهتم بالقرى والقبائل الأمازيغية في تونس، لكن حسب معرفتي بالمكان، فإن القرية قديمة جداً، باعتبار أنها تحتوي على مجموعة من الكهوف الذي حفرها أجدادنا وسط الجبل، وقبل وجود المعمار والبناء الحديث".
وتوجد في قرية تاوجوت 6 كهوف سكنها الأجداد في الماضي البعيد، وتسمى باللغة الأمازيغية أغاثرو، أي القصور الجميلة، تمّ حفرها في الجبل بدقة عالية، لكنها تعاني اليوم من الإهمال، وعدم الصيانة حيث أن الدولة التونسية لا تهتم بترميم واستكشاف المناطق الأمازيغية القديمة، حسب ما تنشره منظمات المجتمع المدني الأمازيغية.
ويعزو بوشهوة تمكّن أهالي القرية من الحفاظ على عاداتهم وتقاليدهم طيلة عقود طويلة إلى عاملين: نقص الزواج المختلط مع من هم خارج القرية، وتعامل أبناء القرية من الجيل الجديد مع موروثهم الثقافي على أنه أمانة يجب الحفاظ عليها ونقلها من جيل إلى آخر.
ويعمل سكان القرية في قطاع الفلاحة وتربية المواشي، بينما تعمل النساء في صناعة الأغطية الصوفية، المفروشات المزركشة بالحروف، الشعارات الأمازيغية وبيعها في الأسواق القريبة منهن، بحسب من تحدثوا لرصيف22.ويرى بوشهوة أن واقع الأمازيغ في تونس يختلف كثيراً عن أمازيغ الجزائر والمغرب، لأن اللغة الأمازيغية في بلاده ليست متداولة بشكل كبير وفي تراجع متواصل.
يقول بوشهوة: "أبناء القرى الأمازيغية في تونس يخوضون تحدياً كبيراً للحفاظ على اللغة الأم من الاندثار".
وللحفاظ على اللغة الأمازيغية والموروث الثقافي، يقترح بوشهوة أن تبادر السلطات التونسية بالحفاظ على هذه اللغة من خلال تكوين معلمين لتعليمها في المدارس الابتدائية وفي الجامعات، استناداً إلى أسس علمية ومنهجية واضحة.
ولم يخفِ الناشط الأمازيغي مخاوفه من إمكانية اندثار اللغة الأمازيغية بعد عدة سنوات، خصوصاً وأن سكان القرى الأمازيغية أصبحوا منذ سنة 1990 يهاجرون للعيش والعمل في محافظات أخرى، وأصبحوا أيضاً يتزوجون من خارج القرية، وهو ما تسبب بضعف دور العائلة في الحفاظ على اللغة الأم.
في المقابل، تتولى الجمعيات الأمازيغية العمل على التعريف بالموروث الثقافي الأمازيغي، وتطالب باستمرار السلطات التونسية بتنفيذ التوصيات التي أصدرتها الأمم المتحدة سنة 2016 لفائدتهم.
هبت رياح اللغة العربية على مختلف القرى الأمازيغية التي تنتشر في محافظات الشمال الشرقي لتونس، ولكن قرية تاوجوت ظلت صامدة، محافظة مع عادات الأجداد على لغتها الأصلية، حيث لا يزال أهلها إلى اليوم يتحدثون الأمازيغية بنسبة 100%
ووجهت لجنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بالأمم المتحدة في تقريرها الحقوقي حول تونس، أصابع الاتهام إلى الدولة التونسية بـ"محاربة وإقصاء وتهميش اللغة والثقافة الأمازيغية بالبلد".
وطالبت الأمم المتحدة تونس بضرورة تدريس اللغة الأمازيغية، التعريف بالموروث الثقافي الأمازيغي، العمل على نشر الثقافة الأمازيغية وإعطائها مكانة في الأعمال الثقافية ودعم المهرجانات والعمل الجمعياتي للمحافظة على عادات وتقاليد أمازيغ تونس.
"أوضاع قرى الأمازيغ مزرية"
يرى عضو الجمعية التونسية للثقافة الأمازيغية، جلول غافي، في حديثه لرصيف22 أنه "من المنطقي والإنساني أن يتلقى الطفل الأمازيغي دروساً باللغة الأمازيغية في المدرسة، لكن للأسف السلطات التونسية لا تتعامل مع الموروث الثقافي كجزء من الهوية الثقافية التونسية".
ويضيف عضو الجمعية التونسية للثقافة الأمازيغية بحزن كبير: "عقب ثورة 2011 طلبنا ترسيم الحق الثقافي للمحافظة على التراث الأمازيغي في الدستور الجديد، باعتباره جزءاً من الهوية التونسية، وبعد إحالة هذا الطلب على البرلمان رفضه 215 نائباً، وصوَّت له نائبان فقط".
ويشير جلول غافي إلى "أنّ جميع القرى الأمازيغية تعاني أوضاعاً مزرية، وتعيش منذ سنوات الإهمال المتواصل والعزلة، بسبب نقص الماء الصالح للشراب وغياب البنية التحتية ومكونات العيش الكريم، وهو ما دفع السكان لمغادرتها هرباً من الفقر والتهميش".
وتشير الإحصاءات الرسمية، إلى أن عدد الأمازيغ في تونس يبلغ حوالي 500 ألف، أي بنسبة 5% من سكان تونس، ولا يتحدث اللغة الأمازيغية سوى 2% منهم فقط.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...