شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
من

من "مدرسة المشاغبين" إلى "التجربة الدنماركية"... تمثيلات المرأة اللبنانية في السينما المصرية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأحد 26 أبريل 202002:52 م

وهو يجمع بين النساء والمقررات الدراسية، في إحدى التصنيفات الذكورية الكثيرة في "مدرسة المشاغبين"، يقول مرسي الزناتي إن "المقررات في بيروت سهلة جداً"، ويقصد بذلك، حسب سياق العرض، أن "النساء في بيروت سهلات جداً".

قلة هم الذين يذكرون مشهد سعيد صالح الأول هذا، في المسرحية التي يحفظ فصولها جيل عريض، ربما لطول مدتها وكثرة تفاصيلها، وقدرتها على العيش أكثر من عمرها، وربما لأن جذورها كانت تنبت من مكان عميق في وعي المشاهدين.

خلف هذه التخيّلات هناك أسباب، ولفهم هذه الأسباب، لا بد من عدة محاولات. بقراءة تحاول الاحتكام إلى حد أدنى من "الصوابية السياسية"، يمكن القول إن مرسي الزناتي، مثل طوني باغودا النابوليتاني في "كلهم على حق" لباولو سورنتينو، وبدرجة أقل مثل زوج والدة "لوليتا" كما يصفه لنا نابوكوف.

بالنسبة للماينستريم الذكوري، كان سلوك باغودا "طبيعياً"، ولكنه بالنسبة لسورنتينو كان ضحية للتفاعل بين مجموع البنى الاجتماعية التي أنتجته. أما زوج والدة لوليتا، فقد كان لوقت طويل "ضحية الابنة اللعوب".

لم يتضح للكثيرين بعد أن هذه قراءة خاطئة لنص لا يتحدث. لكن كثيرين فهموا أخيراً أن لوليتا ليس لعوباً، بل كان الذكر متحرشاً وسلطوياً مدفوعاً بالنزعات الأبوية. مُرسي الزناتي، هو الآخر، كان أحد ضحايا النظام التعليمي، الذي هو بدوره ضحية نظام سياسي، الذي هو الآخر ضحية إرث كولونيالي، وعلى هذا المنوال.

تنميط الصورة ثم تهجينها

المؤكد أن مرسي الزناتي كان ذكورياً. وهذه ليست محاكمة عرضية للطبائع السلطوية، أو قراءة للمسرحية خارج الزمن الذي عرضت فيه. هذه مجرد استعارة. والدلائل إلى ذكوريته شبه واضحة.

هناك حاجة إلى "التقاطعية" لفهم "طبقة أخرى" من هذه الذكورية، الذكورية التي "تخصص" المرأة اللبنانية بقدر صريح وواضح من التنميط، رغم أن سياقات إنتاج النسوية التقاطعية تختلف عما هو متوافر في مجتمعاتنا العربية، إذ ظهرت بعد عمل كبير من الباحثات النسويات الأمريكيات من أصل إفريقي، لتحديد مراحل الإقصاء التي تتعرض لها المرأة السوداء في مجتمع يهمين عليه البِيض والذكور، وشكلت إحدى أثرى منتجات الموجة الثالثة للحركة النسوية.

هذه النظرية ليست فقط مجالاً نسوياً هاماً، بل هي أداة منهجية قابلة للاستخدام في مباحث النظرية الاجتماعية (Social Theory) عموماً. لذلك، يمكن الاستفادة من التقاطعية، لمحاولة تفكيك العلاقة بين عدة بارادايمات، مثل الجنس والعرق والوضع الاقتصادي والإثنية، عند الحديث عن التمييز ضدّ المرأة.

وعلى الأرجح، صورة المرأة اللبنانية، في العمل السينمائي المصري، ما زالت مطابقة للصورة التي يتخيّلها مُرسي الزناتي، حين تحدث عنها بشغفٍ، كما لو أنها حقيقية. سنجد هيفاء وهبي تحاول مقاومة هذه الصورة في "دكان شحاتة" داخل الفيلم، بوصفها امرأة تتعرض لضغوطات من المجتمع، ولكن الدور المنوط بالمرأة اللبنانية في السينما المصرية لا يحيد عن هذه الصورة بحد ذاتها، أي الحاجة إلى ظهور المرأة اللبنانية بمظهر "السلعة الجيدة"، في غالبية الأعمال. وسنجد ما هو أكثر من ذلك، عندما نشاهد نيكول سابا، في "التجربة الدنماركية".

ترسخ هذه "التجربة" صورة خاطئة عن المرأة اللبنانية، بوصفها كائناً يتجاوز بيئته، إلى تصورات "ما بعد غربية". فالمرأة اللبنانية، حسب هذا المخيال، تستطيع لعب دور المرأة الأجنبية أفضل من المرأة المصرية. وبعد هذا الافتراض المبالغ فيه، "تُهجَّن" هذه الشخصية في الإطار الذي يفترض العمل السينمائي أنه طبيعي، وهو الإطار الذكوري-الشرقي، كما لو أن العمل السينمائي في النهاية ينتفض لخروج "المرأة اللبنانية" عن الإطار الذكوري الشرقي الذي يجب أن تجلس فيه، فيعيدها إليه، إذ نجدها داخل الفيلم مستجيبة للهيمنة الذكورية استجابة تامة، إنْ كان من ناحية الشكل، أو من ناحية السلوك الخانع لإرادة الرجل وتصوراته عنها.

لبنان أيضاً من الشرق

ليس ضرورياً التذكير بأن إدوارد سعيد نفسه، ينبّه في كتابه "الاستشراق"، إلى أن الشرق هو مساحة متخيّلة، وهو شرط كان اختراعه ضرورياً ليسمح للعقل الكولونيالي بتخيّل نفسه غرباً.

هذا التذكير قد يكون مفيداً لأن العلاقة بين لبنان والغرب، في جزء يسير من السينما المصرية، لا تقوم على اختراع علاقة بين الشخصية اللبنانية وخصال غربية مفترضة، ومن جوانبها الأساسية الروح الليبرالية التي يجتهد اللبنانيون في تقديمها عن أنفسهم، بل قامت وتقوم على ربط بين المرأة اللبنانية (تحديداً) والعادات الغربية.

العامل "التسليعي" ليس عاملاً حاسماً لوحده في تحديد صورة المرأة اللبنانية في السينما المصرية. بطلات هذه السينما تعرضن بدورهن لتمثيلات ذكورية من التي تتعرض لها المرأة عموماً، وتعرضن للتسليع مثل زميلاتهن اللبنانيات تماماً

ما يمكننا الاستفادة منه هو هذا الخيال، أو تحديداً هذه القدرة على الخيال. العامل "التسليعي" ليس عاملاً حاسماً لوحده في تحديد صورة المرأة اللبنانية، ذلك أن السينما المصرية في تاريخها عرفت وما زالت تعرف بطلات مصريات أكثر تحرراً، أو عرفت نساء تتفاوت حدود موهبتهن من درجة مبهرة إلى العدم، وقد تعرضن بدورهن لتمثيلات ذكورية من التي تتعرض لها المرأة عموماً. تعرضن للتسليع مثل زميلاتهن اللبنانيات تماماً.

ربما يكون العامل الحاسم الذي لا يعرفه مرسي الزناتي، هو وجود صورة مفترضة في رأسه، لشبه غير موجود بين لبنان وبين الغرب. هذا الشبه المزعوم، بإضافة "الحشوة" الذكورية إليه، قد ينتج علاقة بين امرأة لبنانية متخيّلة، وامرأة غربية متخيّلة أيضاً بدرجة موازية.

وللمناسبة، جزء كبير من اللبنانيين الذين ما زالوا يتحدثون عن "سويسرا الشرق"، يسعون إلى تقديم صورة مماثلة عن المرأة اللبنانية في أعمالهم، شرط أن تكون مؤطرة بالقيود الذكورية طبعاً. وهذا الميل إلى الغرب ليس تفصيلاً.

في وجهة النظر المصرية، يمكن أن تكون التعليقات الرهيبة التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، بعد الانتفاضة اللبنانية أخيراً، أوضح مثال على تفشي هذه النظرة إلى المرأة اللبنانية من السينما إلى المجتمع، أو العكس. ففي تعليقاتهم على حضور النساء الواسع في الساحات، استغرب عدد كبير من المصريين "عدم وجود ذكور في لبنان"، والسماح للنساء بالانتشار بهذا الشكل في الطرقات. أثارت المسألة أخذاً ورداً، ولا يعني ذلك أن المجتمع المصري كله عنصري تجاه المرأة اللبنانية، لكنه قد يدلّ على حقيقة غريبة قليلاً: نظرية مُرسي الزناتي ما زالت رائجة.

استشراق معكوس؟

بكل تأكيد، هناك أدوار تستدعي وجود شخصيات من جنسيات لبنانية. حضور المرأة اللبنانية أو العنصر اللبناني في السينما المصرية قد يكون محبباً. وليست هناك أي مشكلة في الأدوار بحد ذاتها، أو في العلاقة بين المرأة والسينما. والحاجة إلى شرح كل هذه البديهيات قد تكون بلا فائدة. ولكن الإصرار على صورة واحدة للمرأة اللبنانية، لشدة التكرار في هذه الصورة، هو تماماً مثل الإصرار على جنسية الناطور في الفيلم، إذ غالباً ما يكون سودانياً، ويكون اسمه غالباً عثمان.

ما يجري هو نتيجة تصورات ارتقت إلى درجة التأكيد في الوعي، وبات التخلص منها يستدعي نقاشاً بصوت مرتفع. هذا النقاش بقي غائباً لفترة طويلة في ما يتعلق بلوحات المستشرقين الغربيين ممّن رسموا نساءً عربيات بصورة "الحريم"، يرقصن خلف جرار مزركشة وأحياناً مع أفاعٍ وحولهم قردة. سنجد عناصر تقليدية في هذه الرسومات، مثل التعري أمام رجال يضعون على رأسهم عمامات ويدخنون الشيشة. هذه الصورة، امتدت من أواخر القرن الثامن عشر إلى القرن التاسع عشر، واستمرت في إنتاج صور نمطية وإطلاقية عن المرأة في الشرق.

ربما يكون العامل الحاسم الذي لا يعرفه مرسي الزناتي، هو وجود صورة مفترضة في رأسه، لشبه غير موجود بين لبنان وبين الغرب. هذا الشبه المزعوم، بإضافة "الحشوة" الذكورية إليه، قد ينتج علاقة بين امرأة لبنانية متخيّلة، وامرأة غربية متخيّلة أيضاً بدرجة موازية

هذا الفعل ينسحب على إسباغ اللبنانية بصورة "اللعوب" في الأفلام، بكونها أقرب إلى الغرب، وبكون المرأة في الغرب "لعوب" دائماً، في ما يبدو وكأنه حركة تستلهم من الاستشراق، وتعمل ضد نفسها بمنهجيته.

يمكننا أن نضع "موهبة" الاستشراق الرهيبة في تحويل الخيال إلى حقيقة، عندما نتحدث عن صورة المرأة وتمثيلاتها في أماكن متعددة. يبدو أن ثمة "استشراق ذاتي" لا يؤدي إلى تنميط المرأة اللبنانية في العين المصرية وحسب، بل يتخذ منحى مشابهاً، في حالة المرأة المصرية، التي تخضع لتنميط مشابه.

أثر النيوليبرالية

قد لا يوجد "بطل" بشعبية مرسي الزناتي في التاريخ المسرحي أو السينمائي اللبناني. لكن بدراسة الأفلام المصرية نفسها، ستحضر أسئلة كثيرة عن صورة المرأة. طبعاً هذه ليست دعوة للرهبنة، لكن بالنسبة إلى جيل من اللبنانيين، عرف السينما المصرية عبر "أفلام السوق"، وبعد استطلاع عينات منهم، نجد أن الممثلة المصرية في ذهنهم هي "راقصة" دائماً. ويُستخدم الوصف بابتذال لغوي يضيف ضرراً إلى الضرر المعنوي الكبير، فيقال "رقاصة" بدلاً من راقصة.

كل هذا يأتي من ضمن تصور محدد للرقص، يشترك في تحديده عاملان أساسيان: صورة الذكور عن الرقص الشرقي أولاً، وثانياً وظائف الراقصة وأدوارها المكرسة في السينما على نحو متواتر.

هذا التصور المريع، كنتاج للعقل الذكوري، والذي يختزل سيرة الموهبة التمثيلية المصرية الطويلة، وتحديداً النسائية منها، بتنميط ساذج، يتعزز بسينما السوق وإفرازاتها. فإلى الاستخدام المتكرر للمرأة كسلعة، فإن المرأة في "أفلام السوق" تبدو دائماً من دون أدوار سياسية، من دون نزعة قيادية، كما أن حدود تأثيرها ترتبط دائماً بالغواية، في محاكاة غير معلنة للرؤية التوراتية.

التمييز بين أفلام السوق والأفلام الجيدة يحتاج إلى باحثين مختصين، وثمة اتجاه بين الناقدين يميل إلى التدقيق في تفشي عوارض النزعات التجارية في السينما المصرية بعد التسعينيات.

في أي حال، قد يحيلنا تنميط المرأة المصرية في أفلام السوق، كشخص بلا أي قوة تقوم على أساس المساواة، إلى ما تبحث عنه ريبيكا سترينغر: إعادة صياغة تعريف معنى الضحية. ذلك أن المعنى السائد يُعدّ تمويهاً لعملية القمع المنهجية التي تتعرض لها النساء.

أوضح استغلالات هذا التمويه ليس مجهول المصدر، بل هو من صناعة السيستم النيوليبرالي، السيستم الذي يقترح استبدال القمع بأفكار مبعثرة عن الفردانية والمسؤولية الشخصية، ويتمادى في الانتقاص من فكرة الضحية. وإنْ كان الاستغلال ظاهراً بوضوح في الخطاب النيوليبرالي الذي يحاول التعامل مع مفهوم "الضحية" بصورة شخصية، وليست سوسيولوجية، فإن النقاش عن صورة المرأة في السينما قد يقودنا إلى خلاصات مشابهة. قد يُقال: هذ أفلام، وهذه ذائقة. يجب أن تخضع كل حالة لدراسة محددة، لأن كل "مشهد" من كل "فيلم" يحمل أبعاداً مختلفة.

وكما يقال في البارادايم النيوليبرالي عن الفقر أو عن التمييز العنصري، وعن التمييز ضد النساء أنفسهم، بحيث ينقل الضحايا إلى المرايا، ويصير هؤلاء جميعهم مسؤولون عن "جرائم لا يمكن تفسيرها"، كما تسميها سترينغر، قد يقال بالطريقة نفسها، وقد قيل أكثر من مرة، إن المرأة اللبنانية مسؤولة عن صورتها كسلعة في السينما المصرية، والمرأة المصرية بدورها مسؤولة عما يتخيّله الرجال عن علاقة لا يمكنهم، في الحالة الذكورية، فهمها، بين الرقص والأجساد، إلا من ضمن هذه الحالة وخلالها. بهذا المعنى، فإن محاولات البحث عن هذه التمثيلات لن تكتمل بسهولة.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image