تولّت لجنة تحكيم الجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر العربي" 2020 مساء اليوم الثلاثاء، الإعلان عن الفائز بالدورة 13 للجائزة، وهو الكاتب الجزائري عبد الوهاب عيساوي عن روايته "الديوان الإسبرطي". وتقدر القيمة العينية للجائزة بـ 50 ألف دولار أمريكي، كما ستحظى الرواية بعد التتويج مباشرة بترجمة إلى اللغة الإنجليزية من قبل المؤسسة الأمBooker Prize Foundation .
وكانت هذه الرواية الصادرة عن دار ميم للنشر سنة 2018، قد انضمت، منذ شباط الماضي، إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر، جنباً إلى جنب مع روايات "حطب سرايفو" لسعيد خطيبي من الجزائر، "فردقان" ليوسف زيدان من مصر، "ملك الهند" لجبور الدويهي من لبنان، "التانكي" لعالية ممدوح من العراق و"الحي الروسي" لخليل الرز من سوريا.
ولاحظ عدد من النقاد الأدبيين أن الدورة 13 للجائزة قد تميزت بهيمنة جلية للرواية الجزائرية، وذلك منذ الإعلان عن صدور القائمة الطويلة للبوكر، والتي ضمت أربع روايات وهي: "حطب سرايفو" لسعيد خطيبي، "سلالم ترولار" لسمير قسيمي، "اختلاط المواسم" لبشير مفتي، إضافة إلى "الديوان الإسبرطي".
أعلن فوز الرواية الجزائرية في البوكر العربي 2020، برواية "الديوان الإسبرطي" لـ عبد الوهاب عيساوي. فما هي أبرز المضامين الأدبية الكامنة في هذه الرواية؟ وما الذي يميز الرواية الجزائرية حتى تنال هذا الاهتمام؟
فما هي أبرز المضامين الأدبية الكامنة في "الديوان الإسبرطي"؟ وما الذي يميز الرواية الجزائرية حتى تنال هذا الاهتمام؟
التاريخ الكولنيالي
تعد رواية "الديوان الإسبرطي" لعبد الوهاب عيساوي عملاً طويل النفس، إذ تمتد على 384 صفحة. وتتكون من خمسة أقسام، يضم كل قسم منها خمسة أبواب، تتكرر عناوينها في كل باب بشكل طريف وملفت وهي: ديبون، كافيار، ابن ميار، حمة السلاوي ودوجة، ويضم كل قسم بشكل طريف.
فالكاتب يجذب قارئه منذ الصفحة الأولى للرواية إلى غواية التاريخ وسطوته، وقد اختار عبد الوهاب عيساوي سرد فترة التاريخ الاستعماري المرير لبلاده، ونعني بذلك تبعات الإرث الثقيل لفترة هيمنة الباب العالي العثماني وفترة الاحتلال الفرنسي. ويحاول الكاتب استقراء جوانب من يوميات الألم لوطنه وشعبه، مركزاً على ما حدث في مدينة الجزائر المحروسة، بين الفترة الممتدة بين عامي 1815 إلى 1833.
"اثنا عشر عاماً انقضت على موت نابليون، وثلاث سنوات بعد سقوط الجزائر، وما زالت هذه الكلمات تضج في رأسي، صديقي القديم لم يشأ أن يغيرها في كل خطاب". أجوب شوارع مرسيليا، الناس تناسوا ضجيج السنوات الماضية..". بهذه الجمل المتفجعة يبدأ الفصل الأول، منطلقاً من توتر آت من الماضي يتعلق بموت الإمبراطور الفرنسي وسقوط الجزائر، وليس أشد ثقلاً على الذاكرة من موت الغازي واستباحة الوطن. يبدو الراوي هنا متجذراً في الصحو والاستفاقة، لكأنه ضمير الوطن بأكمله.
تنهض الشخوص، أو أبطال الرواية الخمسة، وهم ديبون وكافيار وابن ميار وحمة السلاوي ودوجة، لاستعادة الإرث الدامي للجزائر المحروسة. إنها استعادة أدبية خالصة لمحو بعض الكدر العالق، ومحاولة لاستخلاص العبرة من الماضي عبر السرد المحموم.
منذ أول تصدير للفصل وللرواية عامة، يفسّر البطل كافيار لصديقه اللدود ديبون مضمون العزاء الموجع، وهو التسليم بسياسة الشيطان للعالم الأرضي، بتوحش كل قادة الكون وباندثار صنف النساء الشبيهات بمريم المجدلية. فحتى يتوقف الرأس عن الدوران لا مناص من نسيان فكرة المخلص والمنقذ للإنسان والعالم من الشرور ومن الكوارث، ومن حسن الحظ، كما يقول الراوي، إن "ذاكرة الناس ضعيفة" وإلا لكان العيش لا يطاق.
تعرية المكر
في حوار أجراه معه الموقع الإلكتروني للبوكر العربي، يتحدث عبد الوهاب عيساوي (من مواليد 1985) محاولاً تقديم إضاءات عن كاتب لا يعرف عنه القارئ العربي الكثير، كما غطت على كتبه أسماء شهيرة نالت حظوتها بما يكفي من التعريف والشرح، ويزيح الكاتب الستار المعتم عن الجهد الكبير الذي بذله لتأثيث بناء روايته التاريخية، باعتباره جنساً أدبياً عصيّاً، يعتمد بالأساس على النبش والتقصّي، تكثيف الرحلات وجمع التقارير العسكرية. فلقد أُجبر مثلاً على قراءة أزيد من سبعين كتاب تتمحور حول موضوعه المعنيّ والمخطط له، كما ركّز أساساً على ما أهملته الروايات الرسمية و"على شخصيات تاريخية لا يعرف عنها المثقف إلا القليل". أما فيما يتعلق بتبريره لاتباع حبكة سردية معقدة، فيوضح عيساوي قائلاً إنه حاول "تقديم الحكاية من منظور وحيد.. لكنّ البنية البوليفونية تشتغل على مناظير متعددة، تروى الحكاية من زوايا مختلفة، وتتعدد الخطابات المتباينة".
كافيار وديبون، الشخصيتان الأكثر تعمقاً في فهم علم اللاهوت، وهما يتوسلان بهذه الأحجية المشوشة والغيبية للقيام بدور "المطهر الأرضي"، في مقابل ذلك، تسعى شخصيات السلاوي وابن ميار ودوجة لتخطي أسيجة المستعمر وقهر أقانيمه، كلّ على طريقته. أما شخصية المزوار فتقوم بعملية كشف سحيقة لعجرفة النظم التسلطية، فنرى المزوار في أعماق النسيج السردي وهو يستثمر رتبته كضابط مكلف بحماية مهنة البغاء في المدينة، ففي نسيج المدينة تتكثّف المهن الخسيسة والحيل العنيفة، وتتداخل تحت غطاء التعقيد المعماري للمدينة حتى تتستر.
قبل أن يدخل المستعمر إلى الجزائر، نشر مخبريه في سحنة علماء أنثروبولوجيا، أطباء أبالسة وقساوسة يتدثرون بزيّ العفاف والرحمة، حتى يحققوا مطامعهم الدفينة، وتبدو الصورة هنا متشابهة لحد التطابق في مكرها: صورة المستعمر المتواري في مسوح تاجر دين، أهدى الأسفار المقدسة إلى أصحاب الأرض، فلما استفاقوا وجدوا أن خيرات أرضهم قد اختفت وسرقت كلها، ولذلك لابد من تعرية هذا المكر و"البزنس" المعاصر، أو "سوق الدين" المموّه لأغراض شيطانية.
في الصفحة 346 من الرواية، تظهر بجلاء الصورة القاتمة لصراع العربي مع الآخر، الغربي، الغازي، على لسان البطل ابن ميار، وهو يتحدث عن أبنية المحروسة التي يهدمها الفرنسيون، قائلاً: "نظل نميل إلى الأشكال المنحنية، كالأقواس والدوائر، بينما ترتفع أبنيتهم مثل مربعات ومثلثات، لا يمكن أن يصبح الهلال صليباً. قرون من الحروب والموتى، وما حال هلال إلى صليب، مثلما لم يتحول صليب إلى هلال".
في توثيق إخلاصي دقيق لأبناء وطنه ولخلانه، يورد الكاتب عبد الوهاب عيساوي أن كتابه مهدى لروح صديقه الشاعر والناقد والجامعي الجزائري حميد ناصر خوجة: "أهدي هذه الرواية ذكرى أحاديث لم تنته". فحميد ناصر خوجة الذي توفي سنة 2016، هو من ألمع كتاب الجزائر، كان قد خلف إنتاجاً أدبياً غزيراً، لعل أهمه كتاب "البير كامو -جان سيناك أو الابن المتمرد"، بالإضافة إلى "موسوعة الشعر الجزائري الجديد" التي كتبها بمعية الراحلين يوسف سبتي وحميد سكيف وآخرين، أما في ختام نص الرواية فيجذّر عبد الوهاب عيساوي إخلاصه حينما أنه أنهى كتابة عمله بمدينته الجلفة في 5 مارس 2017. فهو واعٍ تمام الوعي بمهمته كراوٍ يتقن أفانين القصّ، وككاتب ضمير لجيل بأكمله في مناطق منسية من الوطن الكبير الذي بدده المستعمر بلا شفقة، ومهمة حملة الأقلام تقتضي رتق هذا الشتات وإعادة الروح إلى أوصاله المترامية.
غزارة السرد وتنوعه
في جواب عن سؤال وجهه له رصيف22، يقول الكاتب الجزائري بشير مفتي، الذي كانت روايته "اختلاط المواسم" ضمن القائمة الطويلة لجائزة البوكر للسنة الحالية: "إن رواية الديوان الإسبرطي تستحق الفوز لكاتب يستحق ذلك". وقد علل بشير مفتي الحضور الطافح للرواية الجزائرية الحديثة في البوكر بقوله: "هذه هي المرة الأولى التي تصعد فيها أربع روايات للقائمة الطويلة، بينما كان الأمر يقتصر في السابق على رواية أو روايتين، وأحياناً لا تظهر أية رواية.. على العموم، الجزائر أرض الرواية بامتياز، وليس غريباً أن تكون أول رواية كتبت في تاريخ الإنسانية، الحمار الذهبي لأوبلويوس، رواية كاتبها جزائري. وقدمت الجزائر أسماء روائية كبيرة، سواء بالفرنسية أو العربية، من كاتب ياسين إلى مالك حداد ومحمد ديب وآسيا جبار والطاهر وطار وعبد الحميد بن هدوقة. وبالنسبة للروايات الأربع، فهي تعكس تاريخ الجزائر القديم والمعاصر وهموم الجزائريين بأشكال سردية مختلفة بين كاتب وآخر".
وفي خطاب تصريحه بالجائزة، الذي نشر على "اليوتيوب"، بعد إلغاء الحفل، بسبب المخاوف من عدوى "فيروس كورونا المستجد"، صرّح محسن الموسوي، رئيس لجنة التحكيم، قائلاً: إن رواية الديوان الإسبرطي في استجلائها تاريخ صراعات منطقة المتوسط كاملة، تعدّ بمثابة "دعوة القارئ لفهم ملابسات الاحتلال وكيف تتشكل المقاومة بأشكال مختلفة ومتنامية لمواجهته. هذه الرواية بنظامها السردي التاريخي العميق لا تسكن الماضي بل تجعل القارئ يطل على الراهن القائم ويسائله".
"تسحرك رواية الديوان الإسبرطي.. وتسير بك في شوارع الجزائر المحروسة ومرسيليا وباريس، وكأنك تعاينها بنفسك في زمن مضى ولم تنقطع مآلاته، وتحتكّ بالتركي والأوروبي والعربي وغيرهم من الأقوام، متعاطفاً وساخطاً في آن واحد".
أما ياسر سليمان، رئيس مجلس أمناء الجائزة العالمية للرواية العربية فقد قال، مشيداً بأحقية العمل الفائز: "تسحرك رواية الديوان الإسبرطي.. وتسير بك في شوارع الجزائر المحروسة ومرسيليا وباريس، وكأنك تعاينها بنفسك في زمن مضى ولم تنقطع مآلاته، وتحتكّ بالتركي والأوروبي والعربي وغيرهم من الأقوام، متعاطفاً وساخطاً في آن واحد".
وفي الواقع لا يعتبر عبد الوهاب عيساوي غريباً عن عالم الرواية، على الرغم من أنه يعمل مهندس إلكتروميكانيك، فهو لم يخطف جائزة مكرسة للأدباء فقط. لقد أثبت في السنوات المنقضية أن له قائمة طيبة من الأعمال المتوجة، من ذلك فوز باكورة أعماله السردية "سينما جاكوب" بالجائزة الأولى للرواية في مسابقة رئيس الجمهورية في سنتي 2012، و2015. كما خطف جائزة آسيا جبار للرواية، عن رواية "سييرا دي مويرتي"، زد على ذلك تتويجه بجائزة كتارا للرواية غير المنشورة سنة 2017، بكتاب "سفر أعمال المنسيين"، أما رواية "الدوائر والأبواب"، فقد أتاحت له نيل جائزة سعاد الصباح للرواية عام 2017.
ويكشف هذا الفوز المستحق عن جدارة، الرواية الجزائرية بما بلغته من ثراء وغزارة في الإنتاج، بعد أن تمرس أجيال الكتاب بمعارك قاسية سلطت عليهم قسراً من قبل جحافل استعمارية متعددة، أو من قبل أبناء الجلدة المخططين في الظلام، وغيرهم حركات التسفيه والتصفية.
وحتى تثبت قيمتها الفنية، مرت رواية "الديوان الإسبرطي" لعبد الوهاب عيساوي بعدة لجان قراءة، مؤلفة من كتاب ونقاد وأكاديميين متمرسين، مثل الناقد العراقي محسن جاسم الموسوي، الصحافي اللبناني بيار أبي صعب والباحثة والمترجمة الروسية فيكتوريا زاريتوفسكايا، وغيرهم من الوجوه اللامعة في مجال الأدب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...