في منزل على شاطئ مدينة العريش المطلة على البحر المتوسط، يعيش شادي سامي، شاعر في منتصف الثلاثينيات، من وقت لآخر يدوّن علاقته بالمكان، وخصوصاً تأثير الطبيعة على الناس، ويتذكّر طقوس أربعاء أيوب، التي بدأت تختفي منذ انتشار المتشددين المسلحين في سيناء، وانتهت مع مخاوف انتشار العدوى بكورونا.
يقول شادي سامي لرصيف22: "كان الطقس أشبه بصلاة يؤديها الجميع بحميمية مدهشة، فالكل يرى الكل، ويعرف أن الكل نازل، وهو يحتاج لمعجزة ما، والإيمان بمعجزة في حد ذاته في الأيام دي معجزة".
في يوم الثلاثاء السابق ليوم عيد الفصح، أو شمّ النسيم، من كل عام، يحتفي أهالي محافظة شمال سيناء في مصر بـ"أربعة أيوب" أو أربعاء أيوب.
يعد اليوم ذكرى لشفاء النبي أيوب، بحسب الحكاية الشعبية والنصوص الدينية لأيقونة الصبر والتعافي يعقوب، لذلك يرتبط اليوم بالبحر أو مكان شفائه، حيث يذهب السكان للشاطئ لتلاقي أجسادهم أمواج البحر، أملاً بشفاء مماثل من علّة الجسد، كما يُعتبر اليوم السنوي طقساً لاستحضار حالة من الصبر، ليس الصبر على علة الجسد فقط، بل على المعاناة في الحياة بشكل عام.
في مثل هذا اليوم من كل عام، تبدأ طقوس الذكرى الشعبية المرتبطة بساحل مدينة العريش بتوافد معظم سكان المدينة للشاطئ وقت "العصاري" من يوم الثلاثاء، ويستمر الاحتفاء إلى فجر يوم الأربعاء.
"كان الطقس أشبه بصلاة يؤديها الجميع بحميمية مدهشة، فالكل يرى الكل، ويعرف أن الكل نازل، وهو يحتاج لمعجزة ما، والإيمان بمعجزة في حد ذاته في الأيام دي معجزة"
تشترك ثلاثة بلدان عربية في الاحتفاء بـ"أربعة أيوب"، وهي مصر، فلسطين ولبنان، وربما يعود ذلك لتقارب الحكاية الشعبية واشتراكها في مساحة متقاربة من ساحل المتوسط، يعتقد أنها مكان شفاء "الصابر أيوب".
مشاهد قديمة و"إفيهات" مفقودة
الذهاب إلى شاطئ البحر للاستحمام أو الترفيه والاحتفال، جزء من حياة كاملة ارتبط بها سكان مدينة العريش بالبحر، لكن يوم "أربعة أيوب" ليس مجرد يوم للترفيه.
قبل غروب شمس يوم "أربعة أيوب" في مدينة العريش الساحلية، تتوافد العائلات إلى الشاطئ، وداخل كل أسرة توزع مهام اليوم، وتبقى أولوية الاهتمام للأسر في هذا اليوم بالشخص المريض أو السيدة التي لا تنجب، لذلك يحمل شباب العائلة على أكتافهم من لا يستطيعون السير من المرضى ليجلسوهم على شاطئ البحر، ويتولى آخرون إحضار الكراسي، وربما يضطر بعضهم للسير لكيلومتر نظراً لكثافة الحركة على المواصلات العامة في ذلك اليوم، ثم يجلس الجميع في لحظة تأمل، وانتظار غروب الشمس في أفق البحر.
محمد جلبانة (35 عاماً) موظف إداري بأحد النوادي، يقول لرصيف22: "عدد كبير من الناس كان ينزل إلى البحر في هذا اليوم، رغم أن طقس اليوم يكون بارداً بدرجة ما، وبما أن سكان المدينة يعرفون بعضهم بحكم طبيعة البلد، فسرعان ما تتناقل الحكايات وأسباب المجيء بين الناس".
يتذكر جلبانة: "رأيت مشهد المرضى بالشلل المحمولين على أيادي أولادهم، وإذا ما اقتربت من تجمعات هذه الأسر، فستجدها في الغالب تقوم بالدعاء حتى غروب الشمس".
يكمل جلبانة: "كان هناك من هم مثلي من شباب وفتيات العائلة لا ينتمون للطقس بكل ما فيه، إلا أن المنظر المهيب لوقوف الناس بطول ساحل المدينة في لحظة واحدة كان يجذب كل الفئات".
لم تخل خلفية المشهد المهيب من بعض الإفيهات الساخرة التي يطلقها الجيل الأحدث على من يؤمنون بقدرة البحر على الشفاء في هذا اليوم.
تقول شيماء أشرف( 35 سنة)، موظفة في القطاع الحكومي لرصيف22: "كنت أسمع عن أحداث اليوم من الأقارب والأصدقاء، وكنت دائماً أرغب بالذهاب لأرى بعيني ولو مرة، لكن لم يحدث ذلك، لأن والدي كان يمنعني وأخوتي خشية التحرش والمعاكسات في الزحام".
تعرف شيماء حتى الإفيهات الساخرة الشهيرة التي كانت تطلق من الشباب والفتيات، كانوا يتخيلون مشاكل الناس، ودعواتهم، ويسخرون منهم أحياناً.
حرب التطرف ومفاتيح الصبر
فرضت حالة الطوارئ على "محافظة شمال سيناء"، وطبق حظر التجوال بسبب إعلان الحرب على الإرهاب منذ 5 سنوات، إلا أن المدينة مغلقة منذ 9 سنوات بسبب سيطرة مسلحين متطرفين.
منذ ذلك الوقت، اختفى طقس "أربعة أيوب"، حيث منع المسلحون إقامته لمخالفته الشرعية الإسلامية، وأصبح الخوف من ممارسة الناس لعاداتها يسيطر كما يسيطر على أبسط جوانب الحياة، كالسير في الشوارع.
العام الماضي عاد الاحتفاء بأربعاء أيوب مع حضور بسيط للسكان على الشاطئ، لكنه حضور مصحوب بخوف وقلق وبهجة مفقودة، بسبب تهديدات المتطرفين المسلحين.
يقول الكاتب والباحث السيناوي حسونة فتحي (60 عاما) لرصيف22: "يبدأ أربعة أيوب من صباح اليوم الذي كان فيه سليماً معافى، بعد سنوات من المرض والضرر غير المسبوق، وهو يوم أربعاء".
ويحتفي السيناويون عامة، وأبناء مدينة العريش خاصة، بهذا اليوم على شاطئ بحر العريش، قبيل غروب شمس يوم الثلاثاء من الأسبوع السابق لأسبوع شم النسيم، الذي يحتفلون به أيضاً على شاطئ البحر، حيث يعتقدون أن نبي الله أيوب قد جاء وسكن مدينة العريش، حي أبي صقل، وذلك قبيل شفائه، وأن زوجته" ناعسة" قد تركته على شاطئ البحر وسعت في رزقهما، فسعى تجاه مياه البحر وجلس حتى لطمه الموج، سبع موجات متتاليات، فكان أن شفاه الله وعادت له عافيته.
تناولت الحكايات الشعبية والفنون عامة قصة شفاء أيوب مثل "أيوب وناعسة" التي كتبها زكريا الحجاوي، وغنتها خضرة محمد خضر في ملحمة شعبية، وأيضاً استهل فريق الطنبورة أغنية "يا لالالي" بجملة "الأولى للنبي والتانية لأيوب يا لالالي" استلهاماً للصبر في زمن الاحتلال.
يقول حسونة فتحي: "من هذا اليقين كان ينطلق بعض الأهالي تجاه الشاطئ عصر يوم الثلاثاء، حتى إذا أوشكت الشمس على المغيب أو الغطس في مدى البحر البعيد، أخذوا يغطسون في المياه مستقبلين الموجات السبع المتتاليات، وكل منهم يستحضر طلبه وأمنيته من الله، حيث كانت الأمنية قديماً لا تتجاوز أمنية الشفاء، لكن بمرور الوقت تعددت الأمنيات، فشملت الشفاء والإنجاب والرزق والزواج وكافة الأمنيات بين أفراد المجتمع، ولا يزالون حتى الآن يتحدثون عن مرضى بالكاد يستطيعون الحراك شفاهم الله، وفقراء فتح الله عليهم أبواب الرزق فصاروا من الأثرياء، وعواقر منحهن الله الولد فأنجبن الكثير من الأبناء، لذا فهو طقس شعبي يجمع بين الترفيه، كيوم يتاح للجميع فيه نزول البحر دون حرج، والتفاؤلية، حيث يعتبرونه يوماً مفصلياً يأتي بعده الفرج في المدى القريب، والتداوي حين لا يحقق الطب النتائج المرجوة مع أي مريض".
ويضيف فتحي: "هذا اليقين بشفاء النبي أيوب في هذا اليوم على شاطئ العريش، يجاوره يقين المجتمع اللبناني، حيث يعتقدون أنه شفي قرب بحر بيروت، ويقين سوري حيث يعتقدون أنه شفي قرب شاطئ اللاذقية".
"هذا اليقين بشفاء النبي أيوب في هذا اليوم على شاطئ العريش، يجاوره يقين المجتمع اللبناني، حيث يعتقدون أنه شفي قرب بحر بيروت، ويقين سوري حيث يعتقدون أنه شفي قرب شاطئ اللاذقية"
لكن تظل المعتقدات ليست بعيدة عن شاطئ البحر الأبيض المتوسط، هذا الغامض الكبير كما يرونه، وأن غموضه يحمل أسراراً كثيرة، منها سر شفاء النبي أيوب، ومن سعى سعيه.
ويرى فتحي أن المعتقد بقدرة البحر على الشفاء تراجع كثيراً في السنوات الأخيرة حتى كاد يتلاشى، سواء بأثر السلفية الدينية وتحذيرها بأن هذا المعتقد يُدخل الإنسان في دائرة الشرك بالله ومخالفة الدين، خاصة وأن الجميع ينزلون البحر، رجالاً ونساء، وأن ملابس النساء تلتصق بأجسادهن فتصفها.
أما في السنوات الأخيرة، يكمل الباحث، وبعد ظهور التيارات والجماعات الإسلامية شديدة التطرف، وتحريمهم هذا الطقس، وتوعد من يفعله بالعقاب الشديد، وربما الذبح، كاد يوم أربعاء أيوب أن يصير يوماً عادياً، وربما تجاوز التحريم والمنع أربعاء أيوب ليطال يوم شم النسيم أيضاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...