وقف مروان ذو السنوات التسع وحيداً على بعد خطوات من الأطفال المتجمعين حولي في حديقة قرية شبانة في شمال سيناء. التردد باد على ملامحه، والخجل يمنعه من الانخراط ببقية الأطفال. لكن سرعان ما تحرك نحوي، جذبني بطفولية إلى الجدار الشرقي للحديقة، وقال بفخر وسعادة لم أر مثلهما: "أنا اللي دهنت الجزء ده يا أستاذ".
مروان صالح هو أحد أطفال قرية شبانة التابعة لمدينة رفح شمال سيناء، الواقعة على مسافة 6 كم من الحدود المصرية الإسرائيلية. وهي المنطقة التي لم تكد تنتهي من ويلات الحرب المصرية الإسرائيلية، حتى ذاقت مرارة التهميش. سنوات طويلة منذ توقف القتال في السبعينيات حتى اليوم، والدولة المصرية تصر على تجاهل هذه المنطقة وتهميش أهلها، واعتبارهم محل شك وتخوين واتهام دائم بالعمالة.
وسرعان ما عادت لتتحول اليوم إلى ساحة حرب من جديد، بين الجيش المصري وتنظيم أنصار بيت المقدس، الذي انضم إلى داعش، وأصبح اسمه ولاية سيناء. فبات القصف المدفعي وصوت ضرب النار، مألوفين في هذه المدينة. "عيالنا ما بيشوفوا غير المسلحين وما عادوا يسمعوا إلا ضرب النار"، يقول الشيخ عبد القادر أحد مشايخ قرية نجع شبانة، واصفاً الوضع المأسوي في قريته.
هناك، لا بنية تحتية، الكهرباء تغيب أكثر مما تحضر، ولا توجد تغطية لشبكات المحمول، أما الحديث عن الانترنت فهو ضرب من الخيال. الموت هو ما يحيط بك في هذه المنطقة. لكن، وسط كل هذا الظلام واليأس والإحباط، يمكنك أن تجد عشاقاً للحياة.
مبادرة "فكرة خير"، هي مبادرة لافتة قامت بها مجموعة من شباب شمال سيناء، بالتنسيق مع أسرة طلابية في جامعة الزقازيق في دلتا مصر. التنمية المجتمعية هو المسار الذي تبناه شباب فكرة خير، معتمدين على جهودهم الذاتية. يقول أحمد العطار أحد مؤسسي المبادرة إن "هؤلاء الشباب قرروا أن لا أمل في الأحزاب أو المؤسسات الكرتونية القائمة، وقطعاً لا مجال للحديث عن الدولة التي تركز فقط على محاربة الإرهاب، وهي على أتم استعداد لسحق الأهالي في مسارها هذا".
لذلك كانت الجهود الفردية هي الأمل المتبقي الوحيد. في البدء، تحركت فكرة خير لتقديم يد العون للأهالي، فقامت بإصلاح عدد من أسقف البيوت المنهارة، إذ في الشتاء، المطر غزير والبرد لا يرحم.
يضيف العطار: "بعد ذلك اشتد عودنا وفكّرنا في إقامة معرض ملابس بأسعار مخفّضة، فنظمنا بعض الدورات التدريبية لشباب المنطقة، باختصار هي محاولة للتشبث بالحياة في منطقة يسعى الجميع لقتلها".
مقالات أخرى
إيجابيات وسلبيات دخول القبائل في سيناء على خط المواجهة مع داعش
"جزيرة الدهب"، القرية التي لا يعترف بها أحد
"الجماعة ساعدونا كثيراً"، هكذا يجيب حسن، أحد شباب المنطقة، حين تسأله عن هذه المبادرة. ويضيف بأسى: "أهمية ما يفعله هؤلاء الشباب، يتجاوز الفاعليات إلى إحساس بالحب والتعاطف، يقدمونهما لنا، فيجعلوننا نشعر أن في هذا الوطن من يهتم بمعاناتنا. وهذا كفيل برفع الروح المعنوية للأهالي، الروح الواقعة تحت ضغط الموت، والاتهامات الدائمة من الجيش والإحساس بالدونية التي تشعرنا بها الدولة، كأننا لسنا مواطنين".
ويشير العطار إلى أن "أطفال قرية شبانه وربما شمال سيناء بأكملها لم يذهبوا خارج حدود قراهم، والانترنت هنا رفاهية لا مجال للحديث عنها، ومشاهدة الفضائيات ليست سهلة، نظراً للانقطاع الدائم للكهرباء. لذلك فكرنا في ترتيب رحلة لأطفال كُتاب القرية إلى القاهرة".
"نعم سمعتني جيداً"، يقول العطار مبتسماً بأسى. فحتى اليوم ما زال أهل القرية يعتمدون على الكُتاب للتعلم بدلاً من المدارس. والكُتاب هي طريقة بدائية للتعليم، يجلس الشيخ ويتحلق حوله الأطفال ليعلمهم القرآن الكريم، وربما مبادئ القراءة والكتابة. يقول العطار: "تخيل أننا في عام 2015 وما زلنا نعتمد على طرق القرون الوسطى في التعليم!".
تحركت الرحلة بأطفال القرية إلى القاهرة، زاروا الأهرامات، والنيل، وبرج القاهرة. وفي المساء ذهبوا إلى حديقة الأزهر، هناك حدّثهم المشرفون عن قصة هذه الحديقة، وكيف كانت مكب قمامة"، لكن بمساعدة بعض الجهات الدولية، وبالتعاون مع الحكومة المصرية، تم تحويلها إلى حديقة رائعة. وما إن رأى الأطفال حديقة الأزهر، وسمعوا قصتها، حتى قالوا بعفوية شديدة: "سيكون عندنا حديقة مثلها في قريتنا شبانة".
سعيد (11 عاماً)، أحد أطفال القرية، قال لرصيف22 عن الرحلة: "انبسطنا قوي في الجنينة، وقررنا نعمل لنفسنا واحدة. نلعب فيها هنا". هكذا ببساطة يقول سعيد "قررنا".
خلال رحلة العودة إلى القرية، لم يكفّ الأطفال عن الحديث مع مشرفي الرحلة عن حلمهم في إنشاء حديقة في قريتهم.
الفكرة رائعة، لكن حماسة الأطفال وحبهم للحياة وحدهما لا يكفيان لإنجاز هذا الحلم. هناك صعاب تبدأ بمشقة البحث عن قطعة أرض صالحة، ثم موافقة الأهالي، وبعض النفقات لتدبير الأموال والمعدات.
سعيد ورمضان ومحمود، ثلاثة أطفال ممن عملوا في تجهيز الحديقة، يتحدثون عن تجربتهم بفخر: "تحدثنا إلى أهالينا، وأخبرناهم عما رأيناه في القاهرة، وكيف كانت حديقة الأزهر من أجمل المناطق التي سعدنا فيها، وأخبرناهم أننا سنعمل بأنفسنا على تجهيز حديقتنا ورعايتها".
أمام حماسة الأطفال وإصرارهم على إنجاز الحديقة، لم يجد الشيخ عبد القادر، أحد وجهاء القرية بداً من أن يحترم حلم الأطفال ويثني عليهم بل يساعدهم. بدأ الأهالي في البحث عن قطعة أرض مناسبة، وتم العثور على "مقلب قمامة"، ثم بدأت خطوات التنفيذ. كان الأطفال أول من بادر بالعمل، بدءاً من إزالة القمامة، ثم تسوية الأرض، وغرس النخيل وأخيراً طلاء الجدران. لم تمر مرحلة في المشروع من دون مساهمة الأطفال، إلى أن أصبح لهم أخيراً حديقتهم، "حديقة الأمل".
عن هذا المشروع، قال أحمد صقر مساعد رئيس جهاز تنمية سيناء الأسبق، والمهتم بأحوال سيناء وأهلها، إن "الإنسان هو من يصنع الفرق، وإذا كان هناك قدر من التدبر والحكمة في عقل صانع المشهد في سيناء، فمن هنا يبدأ أول خيط النجاة، من الأطفال المتشبثين بالحياة قدر ما نقدم نحن الموت لهم".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين