شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
بعد “هجر” المطاعم بسبب كورونا... الجدّات سيدات المطبخ التونسي من جديد

بعد “هجر” المطاعم بسبب كورونا... الجدّات سيدات المطبخ التونسي من جديد

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأربعاء 15 أبريل 202002:24 م

منذ انتشار فيروس كورونا المستجد المعروف بعدواه السريعة، وإعلان خبر بقاء الفيروس مدة طويلة على الأسطح، أصبحت النظافة هاجساً جماعياً، ويعدّ الخبز من بين المأكولات اليومية الضرورية، إلَّا أنَّ نقله من الفرن إلى المتاجر في المدن أو في الأرياف، يتطلَّب مروره على أكثر من يد، الأمر الذي يسهّل نشر العدوى بسرعة كبيرة.

العديد من التونسيين اختاروا صنع الخبز في البيوت، الأمر الذي شمل سكان المدن والريف، الذين لم تعد شاحنات التوصيل تصلهم بسبب غلق المدن، ما جعلهم يشمّرون عن سواعدهم، ويعدون خبز "الكسرة" (الخبز البلدي) كما يسمونه، بعد أن هجروه منذ عقود.

في هذا السياق يرى سكان منطقة زغاية الريفية، الواقعة في محافظة مدنين جنوب تونس، أن الوقاية من فيروس كورونا المستجد ليست فقط بالابتعاد عن المدن وتجمعاتها الكثيرة، بل أيضا مقاطعة الخبز والأكلات السريعة التي يمكن أن تنقل لهم الفيروس، خاصة وأن منطقتهم لم تسجل أية حالة إصابة إلى حد الآن.

"خبز السوق خطير"

فاطمة (65 عاماً) تقطن مع زوجة ابنها وحفيدتها، قررت أن تقاطع هي وعائلتها "خبز السوق" كما شاءت أن تسميه، الخبز الذي يجلبه الخباز يومياً من المدينة على بعد 9 كيلومترات تقريباً، لتاجر الحي الذي يضعه في علبة كرتون في واجهة المحل، ليأتي الزبون، ويختار منه ما يشاء دون الالتزام بقواعد النظافة.

تجلس الخالة فاطمة في المطبخ، تراقب ابنتها وهي تُعد خبزاً بلدياً لتناول فطور الصباح، تقول لرصيف22: "قررت مقاطعة خبز السوق بعد أن سمعت أن الوباء اللعين ينتقل عبر لمس الأسطح، فالخبز يمر بمراحل ليصلنا، فتلمسه يد العامل والخباز والحمال والتاجر والزبائن، وهو أمر خطير جداً".

وكانت زوجة ابنها مريم (40 عاماً) تضع العجين على النار، تنتظر استواءه، وتتبع نصائح حماتها في ذلك، فهي غير معتادة على طهيه.  

تلقي الخالة فاطمة نظرة على قرص العجين، وتحوّل بصرها نحو حفيدتها زينب (17 عاماً) وهي جالسة قربها تفحص هاتفها، قائلة بلغة الفخورة بكبر سنها، وحنكتها في الحياة: "لمن لا يعرف الخبز البلدي فهو أنواع، منه خبز "الروينة" الذي يصنع من الطحين والماء، عجينه سائل وهو طري يأكل مع فطور الصباح، مثل الذي نعده الآن، أما "الكسرة" أوخبز الطابونة، فهو خبز مدور مصنوع من السميد الرطب والزيت والماء، لونه يميل إلى الحمرة، ونجد أيضا خبز "الحماس" أو "الغناي" الذي يطهى غالباً في أوانٍ فخارية على نار الحطب، وله مذاق رائع".

باتت للجدات التونسيات مكانة في مطبخ الأسرة، حيث عاد الكثير إلى المخبوزات القديمة، والأكلات التقليدية بعيداً عن خبز المحلات والوجبات السريعة بسبب الخوف من عدوى كورونا 

فاحت رائحة الخبز، فأمرت فاطمة ابنتها بإنزاله عن النار لتأكله ساخناً مع القهوة، زيت الزيتون والجبن، ووضعته في صحن على الطاولة، وشرعت في تقسيمه إلى قطع، تضعها بالتساوي أمام كل واحدة منهنّ، إلا أنها رأت على ملامح زينب ما يشي بعدم رضا، فسألتها قائلة: "ما بك؟ لم يعجبك طبعاً، فأنتم جيل يحب الأكل السريع والسوقي الذي لا فائدة منه، يجب أن تتعوّدي على الأكل الصحي".

ردت زينب مستنكرة: "وما به الخبز الذي نشتريه من المتجر، على الأقل أستطيع أن أحوله إلى ساندويش لذيذ، ليس مثل هذا الذي لا يصلح إلا للأكل العادي".

نظرت لها الجدة نظرة حادة، وتنهدت بعمق، وقالت: "ها قد أتى هذا الوباء عله يبرهن لكم أن عاداتكم في الأكل خاطئة ويعيد لكم عقلكم، ماذا فعلت حضارتكم التي تتبجّحون بها لمقاومة الفيروس".

ضحكت مريم، وحاولت تهدئة الوضع، غمزت لابنتها كيلا تُغضب جدتها، وقالت لها: "كلام جدتك صحيح، الخبز البلدي صحي ونظيف، عليك بالصبر ستمر هذه الجائحة وستشبعين سندويشات لا تقلقي".

غير بعيد عن منزل الخالة فاطمة، تفوح رائحة زكية ممزوجة برائحة دخان أبيض تصاعد في الفضاء، إنها رائحة "كسرة الغناي" الخبز الذي يطهى على الحطب، تُعدّه فتحية (50 عاماً) في إحدى زوايا الحضيرة، تقول لرصيف22 ضاحكة: "لولا أن هذا الوباء قتل العديد من الأرواح لحمدت الله عليه، فقد اقتنع أبنائي أخيراً بتناول الكسرة، بعد أن كنت محرومة من مذاقها بسببهم".

استفاقت فتحية منذ ساعات الصبح الأولى، تجمع الحطب لإعداد خبز يوم كامل، فهي تصنع منه سندويتشات لذيذة، محشوة بصلاً وفلفلاً وبيضاً مسلوقاً لتحبب أطفالها الصغار فيه، وتتجنب طلبهم الملح لشراء خبز السوق.

لطفي (30عاما)، يسكن منطقة زغاية، عاد من فرنسا مؤخراً، وغيرت الوجبات التقليدية من ذوقه، بعد أن تناولها في البداية بدافع توقي انتشار عدوى كورونا، يقول لرصيف22:"لم أتوقع أبدا أن أتعوّد على الأكلات الشعبية بعد أن اعتدت على الوجبات السريعة في باريس، إلا أنني أحببتها جدا، وأدركت قيمتها الغذائية، وطعمها أيضاً رائع، عند عودتي إلى فرنسا سآخذ معي برغلا و كسكسي بلدي لطبخها هناك".

ويشاطره الرأي صديقه عامر (31عاما)، مهندس ديكور، يضيف قائلاً: "فعلاً أكلات الأجداد لذيذة، وهي صحيّة جداً، وأنا بصدد تعلم كيفية إعدادها لأني أعمل بالعاصمة بعيداً عن أمي، ولن أعود للأكل الخفيف بعد ذلك".

حنين للماضي في الأزمات

لم يدفع كورونا الناس للعودة لاستهلاك "الخبز البلدي" فقط، بل إن الأكلات الشعبية على غرار "كسكسي القمح" و"البرغل" عادت إلى الواجهة بقوة، خاصة بعد أن أدرك الجميع أن تقوية جهاز المناعة يساعد في مقاومتها للفيروس، والحال أن تلك الأكلات غالباً ما تكون صحية، على عكس الأكلات الخفيفة التي تعتمد بالأساس على المقليات.

"لولا أن هذا الوباء قتل العديد من الأرواح لحمدت الله عليه، فقد اقتنع أبنائي أخيراً بتناول الكسرة، بعد أن كنت محرومة من مذاقها بسببهم"

وتعد العودة إلى الأصول وثقافة الأجداد في الأكل شبه اعتراف لهم بأفضليتهم على الجيل الجديد من حيث العادات الغذائية، بحسب الدكتور المختصّ في علم الاجتماع، سامي نصر.

يقول نصر لرصيف22: "نحن الآن في تونس أمام ظاهرتين اجتماعيتين، وهما الهروب والعيش في الريف، أو ترييف المدينة، أي جلب عادات الريف إلى المدينة على غرار الأكلات الشعبية".

وعن ظاهرة العودة إلى صنع "الخبز البلدي" في المنازل، وطبخ الأكلات التقليدية، يقول نصر: "إنها تنقسم إلى قسمين، عودة اختيارية وباقتناع تام بأنها الطريقة الأسلم لحياة صحية أفضل، وأخرى اضطرارية خوفاً من عدوى الفيروس فقط".

وقد انتشرت ظاهرة العودة إلى الأكلات القديمة على غرار "الكسرة" أو "الخبز البلدي" في بعض الدول الأخرى أيضاً، كالجزائر وليبيا والمغرب، فالجميع بات مقتنعاً أنها الأفضل، وباتت صور الأكل التقليدي تتصدر منصات مواقع التواصل الاجتماعي، وهو عربون اعتراف الصغار بجميل الأسلاف، وحنين من الكبار إلى زمن مضى، وطوته العولمة والحضارة طي النسيان، وقد فسر ذلك الدكتور سامي نصر قائلا: "حسب علم النفس الاجتماعي، فإن الإنسان عندما يحس بالألم أو الخطر فإنه يحن إلى الماضي لاشعورياً، أو بالأحرى يحاول الهجرة إليه لنسيان محنته، وهو ما يحدث اليوم في ظل جائحة كورونا".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard