شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
ثلاثون ساعة سورية... وصولاً إلى عالم أقل تلوثاً

ثلاثون ساعة سورية... وصولاً إلى عالم أقل تلوثاً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأربعاء 15 أبريل 202012:56 م


مع الاستمرار بالحجر وتقييده لحرية الحركة، تستذكر شعورك بالحبس في وثائقك وتواريخ انتهائها. تطفو على السطح، ذكريات وأحداث تعيد استحضار حلم المواطن العالمي الضائع، على وقع عولمة تم التبشير بها مع صعود التقنية وما بعد الحداثة، تبدو اليوم قاصرة محجّمة في عبائتها الاقتصادية، مهزومة أمام الخوف البشري الغريزي ومنطق الحدود وجوازات السفر.

* * *

رفع الشرطي العصى السحرية المضيئة بالأحمر، مشيراً للحافلة الممتلئة بالركاب التوقف إلى الجانب الأيمن من الطريق، نقطة العبور الأولى من إيطاليا إلى سلوفينيا. تسارعت دقات قلبه، مع اقتراب الكابوس الذي كان يطارده مذ قرر السفر. فالشاب الإيطالي الهيئة، الجالس في المقعد الأول خلف السائق، ما هو إلا سوري آخر من سِفر التشرد الكبير، ينتظر بطاقة إقامته التي لا يمكنه مغادرة إيطاليا قبل الحصول عليها!

شبه مفلس، قرر السفر في رحلة يفترض أن تطول لخمس وعشرين ساعة، يعبر خلالها أربعة بلدان حتى يصل إلى وجهته الأخيرة، بعد أن ضاق ذرعاً بعاصمة الرومان الجميلة والمنهكة، التي ذكّرته كل يوم بدمشق، ليس لأنه لم يشم رائحة ياسمينها إلا هناك، بل لأنها متروكة هي الأخرى، للزمن ينهش حجارتها وشوارعها.

عندما صعد إلى الباص في روما، أظهرهوية إقامة إماراتية مازال يحتفظ بها، وتبقى أقل إثارة للشبهات من الجواز السوري، فنظرت إليه معاونة السائق البولندية وسألته:

- "إنغليش"؟

"نعم"، رد عليها بالانكليزية مع ابتسامة خفيفة قلقة، ليأتيه الجواب سريعاً بلامبالاة واضحة:

- "تغيير الباص في فيرونا"

شعر بقليل من الارتياح، بعد أن أثبتت فكرته بالسفر برا صوابيتها لعدم التدقيق، وبدأ يفكر بوجهته بولندا. هناك، ينتظره سوري آخر على أحرّ من الجمر، صديق قديم مازال يعتاش على ذاكرة الأيام الجميلة في دمشق العاصمة. فالغربة الأوربية لها معان مختلفة الآن، عندما تدرك أن لا بلاد تنتظر عودتك، تلاحقك لتذكرك بكل الأحلام التي صنعتها يوما في مطبخك الصغير، مع الكثير من الأصدقاء والعابرين، انتشلتك في زمن "السلم" الذي كان يشبه سكون المقابر، قبل أن تُفتح أبواب تلك المقابر على مصاريعها بوجه الجميع.

توقفت الحافلة وفتح سائقها الباب، ومازال السوري متماسكاً برباطة جأش ولكن بتسليم للقدر، على وقع العاصفة التي كانت تصرخ أمامه، برق عنيف في السماء يضيئ خلفية المشهد، عناصر الشرطة على يمين الباص بمصابيح يحركون أضوائها في كل الاتجاهات، ومطر خفيف بدأ ينهمر. استطال الزمن مشهدا سينمائيا، تتحرك فيه الأحداث بشكل يحبس الأنفاس، على وقع الخوف من تحقق السيناريو الذي كان بانتظاره إن تم سؤاله عن الوثائق، وهو الاحتجاز ثم ترحيله إلى روما كالسجناء.

"الأوراق لو سمحت!"، قالها الشرطي السلوفيني بإيطالية ركيكة، ليبدأ معاون السائق، الذي يعلم مغزى هذا السؤال، بإخراج مستندات الرحلة وتراخيص الشركة، والتي لسبب تقني ما لم ترضي ذلك الشرطي وبدأ سجال بمختلف اللغات، والسوري يتحاشى التحدث مع الشاب إلى جانبه بالانكليزية لعدم لفت الأنظار. أضواء المصابيح ما تزال تتراقص أمامه، وهو يلعن الساعة التي تغير فيها كرسيه، من آخر مقعد في الباص إلى الأول، بسبب خلافات على الأماكن بين الركاب الأوربيين، لا دخل له بها.

بدأ الوقت يصبح ثقيلاً بانتظار انتهاء المفاوضات المارثونية، مع أول "حاجز" يصادفه منذ بدء الثورة السورية. فقد كان غادر دمشق قبل بدء الحراك بأربعة أشهر إلى دبي، وسقف أحلامه حينها، لم يتجاوز بعض التغيرات المحتملة في البلاد هنا وهناك، تمكنه عند عودته بعد سنوات من بعض العمل الثقافي، عسى ولعله يصلح في ركن، ما أفسده الدهر العسكري، في بلاد كان قد تعب سكانها من مضغ أحلامهم على عتبات العالم، داخل أسوار وطن، يتصارعون على هويته بصمت مريب.

في حالة الإغلاق العام في العالم... كل ركاب الحافلة اليوم لاجئون في هذه الأرض، خاضعون للحدود التي ترسمها الطبيعة، يُجرّبون الحصول على أوراق إقامتهم الآمنة، من خلال لقاح يأملون بالعيش حتى تحقيقه، أو مناعة قطيع قد تهلكهم، إن لم يكونوا أقوياء كفاية لمواجهة أسرار الحياة

المطر يهطل بغزارة شديدة الآن. عناصر الحاجز في سيارتهم يتحدثون على الهاتف ويراجعون الأوراق. الباص متوقف والسيارات تطير مسرعة على الطريق بجانبه. كانت قد مرّت قرابة ساعة من الزمن، وفجأة، يصرخ شرطي من الخارج ويشير للسائق الممتعض أصلا، بالعودة للخلف إلى أقصى يمين الطريق المنحني، عندها، التفت الشاب الذي بجانبه نحوه في حيرة وتأفف قائلا: "إنها المرة الأولى الذي يحصل هذا معي على حدود أوربية!". فابتسم السوري وهو يقول في سره: "لو أنك تعلم فقط...".

بدأ السائق بالرجوع مستخدما المرايا، والرؤية تحت مصابيح الطريق تبدو أصعب، على وقع المطر وبيروقراطية الأنظمة والحكومات، ليقفز الجميع في كراسيّهم بعد لحظات، من شدة ارتطام حصل في الخلف، ليتبيّن لاحقاً أن الحافلة اصطدمت بأحد الأسوار المعدنية للشارع، ما تسبب بعطل في المحرك. وهنا، بدأت معضلة انتظار من نوع مختلف هذه المرة، فقد اختفى خطر الشرطة بعد التأخير والخراب الذي تسببوا به، لكن كان على الجميع انتظار وصول عمّال الصيانة لإصلاح المحرك، لتستمر حكاية الأقدار لتلك اليلة.

تحرك الباص بعد خمس ساعات، عبر ليلاً من بلد إلى آخر حتى دخل وجهته الأخيرة، وكان قد نال التعب والملل من السوري الغافي مستندا على عضلات رقبته، إلاّ أن مشهدية الطريق وسحره مع صباح اليوم التالي، أسعفاه لينسى ما حصل في الجزء الأطول من الرحلة. نزل في محطة الحافلات الرئيسية في المدينة المقصودة، مبتسماً، بعد أن زال عنه إرهاق السفر الذي دام لثلاثين ساعة، لتصله لحظتها رسالة من صديقه على أنه سيتأخر بالحضور، لزوم ما يلزم لاستكمال السيناريو الذي ينتهي به واقفا في المحطة، ساهيا، يستحضر في خياله أن يأتيه شرطي الآن، ليسأله عن أوراقه في دورة جديدة للعبة الأقدار. عندها، يربت أحدهم على كتفه وسط الازدحام الكبير من حوله، ليشعر فجأة أنه تحت بقعة ضوء صغيرة في عتمة هذا العالم، فيلتفت بتحفز، وإذ بالصديق معتذراً يشتم الحظ، فيرد عليه سوري الرحلة: "وماذا كنت تتوقع بعد كل ما حصل؟!".

* * *

حدثت هذه الواقعة معي قبل خمس سنوات من الآن. وأنا اليوم أستعيدها متأمّلا حالة الإغلاق العام في العالم. فكل الناس يحملون جزءا من تلك المخاوف التي حملتها في رحلتي. كل ركاب الحافلة اليوم لاجئون في هذه الأرض، خاضعون للحدود التي ترسمها الطبيعة، يُجرّبون الحصول على أوراق إقامتهم الآمنة، من خلال لقاح يأملون بالعيش حتى تحقيقه، أو مناعة قطيع قد تهلكهم، إن لم يكونوا أقوياء كفاية لمواجهة أسرار الحياة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard