يعدّد عالم الأنثروبولوجيا جيمس فريزر في كتابه "الغصن الذهبي" مراحل التطوّر البشري، التي ابتدأت بالسحر ومن ثمّ الدين وأخيراً العلم، وإذا أردنا أن نضيف مرحلة رابعة على ما ذكره فريزر، لابدّ أن تكون خليطاً غير متمايز من السحر والدين والعلم، لربما نعيشها الآن!
يتابع فريزر بذكر وسائل زمن السحر في التأثير على الكون، من خلال السحر التشاكلي أو المحاكاة، بأن يقوم الشامان بتقليد حالة ما، كأن يمثّل بأنه في حالة وضع، كي يسهل على الحامل ولادتها، أو أن يقلّد صوت الرعد وينثر الماء كتشبيه لصوت سقوط المطر عند حدوث الجفاف. ويورد في كتابه عن السحر التواصلي وخاصة في أعمال الأذية، فالأجزاء تتبع الكل وتؤثر فيه، هكذا يصبح حرق قلامة ظفر لشخص ما سبباً في وقوعه في الحمى والمرض.
هل نعيش اليوم مرحلة خاصة من التطور البشري؟ مرحلة فضحها الرعب من وباء كوفيد 19، حيث تبين أننا خليط غير متمايز من السحر والدين والعلم
كان زمن السحر يسمح باستعارة قوى الطبيعة ومن ثم تمثّلها، أما مع الدين، فقد استحوذ الخالق على تلك القوى، أو لنقل بلغة الدين وفق المنظور الإسلامي: "لاحول ولا قوة إلا بالله"، ومن غرائب النتائج التي تسبّبت بها هذه النظرة إلى الكون، ليس فقط مقتل الجعد بن درهم، الذي تكلم بحرية الاختيار، على سبيل المثال، بل ترتب على هذه النظرة الدينية أن نظرية الفاعل في النحو أصابها الخلل، فلو قلنا "نبت البقلُ" واعتبرنا البقل فاعلاً، لأشركنا في مفهوم الخالق الأوحد للكون فاعلًا آخر. ومن هنا كان المقول الفعلي يستتبع مقولة "إن شاء الله"، فالفاعل في اللغة حالة مجازية تخيلية والفاعل الحقّ هو الإله.
وهذا الأمر لا يقتصر على المنظور الإسلامي، فالمنظوران اليهودي والمسيحي لا يخرجان عن هذه الرؤية، وإن كانت بكلمات وتعابير أخرى. واستمرّ هذا الأمر حتى جاء زمن العلم وشرّع الباب واسعاً أمام الإنسان أن يكون الفاعل الأوحد في أرضه.
احتلال أريحا... فانتازيا حربية بصبغة دينية
تذكر لنا التوراة كيف أن يوشع بن نون، القائد الحربي للنبي موسى، أمر محاربيه بالسعي حول سور أريحا لمدة ستة أيام، فيما ينفخ سبعة من الكهنة في أبواق من قرون الكباش، بالإضافة إلى كهنة يحملون تابوت العهد. وفي اليوم السابع أمرهم بأن يصرخوا صرخة واحدة، ما أدى إلى سقوط أسوار أريحا، ومن ثم استباحتها من جنود يوشع بن نون. هذه الفنتازيا الحربية ذات الصبغة الدينية، التي لم يستطع علم التاريخ أن يتحقق منها أبداً، ولكننا نجد لها جذوراً في الحادثة الفلكية لخسوف القمر، فأكثر الشعوب تلجأ إلى إطلاق الأصوات ودقّ الطبول والطناجر وكل ذي صوت، حتى يخيفوا الحوت الذي يبتلع القمر.
قصة احتلال أريحا في التوراة... فانتازيا حربية بصبغة دينية لم يستطع علم التاريخ أن يتحقق منها، ولكن نجد لها جذوراً في الحادثة الفلكية لخسوف القمر
لم يبق من صراخ بني إسرائيل أمام أسوار أريحا إلا صرخات الجنود في الحروب أثناء الهجوم، طمعاً بأن يدبّ الخوف في الطرف الثاني.
إن الأدوات الدينية ظاهرة بوفرة في هجوم جنود يوشع بن نون، فالأيام الستة دلالة على عدد الأيام التي خُلق بها العالم من قبل يهوا، واليوم السابع دلالة على استراحة يهوا، أي تهديم أسوار أريحا، أما تابوت العهد والأبواق، فأوضح دلالة على المعنى الديني لهذا الهجوم، فلا شيء ينجز إلا بإرادة من الإله وموافقته.
القديس أغسطين ومظاهرات الاستغفار
نظّر القديس أغسطين في القرن الخامس ميلادي لمفهوم الخطيئة التي ارتكبها آدم وحواء، حيث نظّر بأن الأمراض والكوارث هي نتيجة طغيان البشر وانغماسهم في الخطيئة، ونستطيع أن نجد ذات المفهوم في طوفان نوح الذي كان لذات السبب المتعلق بفساد البشر، وعندما ضرب الطاعون أوروبا، لجأت المرجعيات الدينية إلى مظاهرات الاستغفار، على الرغم من أنها كانت المكان الأنسب لانتشار براغيث الطاعون، ومن ثم سقوط الكثير من الضحايا. هذه التفصيلة نجد لها ما يشبهها حالياً في زمن انتشار وباء كورونا، حيث رفض الكثيرون إغلاق أماكن الصلاة من جميع الأديان.
لم تنفع مظاهرات الاستغفار بوقف انتشار الطاعون، لكن للجانب الديني حسناته أيضاً، فمرضى الجذام وجدوا من يعتني بهم، مع أن سبب حدوثه في القرن السابع عشر والثامن عشر، كان يعزى إلى فساد أخلاقي ارتكبه المصابون به، لكن معجزة شفاء المسيح للمجذومين دفعت بالكثيرين إلى السير على خطاه ومساعدتهم. وللغرابة في جائحة الزهري، ذكر شلدون واتس في كتابه "الأوبئة والتاريخ" بأنّ الخوف والرعب من المساوئ الأخلاقية والجسدية التي تسبّبها العادة السرية، كما كان يقول أطباء القرن السابع والثامن عشر، دفع بالكثير من الشباب لارتياد المواخير والوقوع فريسة لمرض الزهري، الذي كان بطريقة أو أخرى، ردّ شعوب الأمريكيتين على الغزاة الأوروبيين، بأن نقلوا لهم مرض الزهري الذي أصابته طفرة وتحوّل إلى مرض الزهري القاتل في أوروبا.
يتابع شلدون في كتابه غرائب التعاطي العلمي مع الأوبئة، لقد رأى أصحاب الداروينية بأن الشعوب الملونة محصّنة ضد الملاريا، وهكذا فتكت الملاريا بالكثير من سكان إفريقيا والهند والأمريكيتين، في حين كان المجذومون، نتيجة للعقيدة الدينية، يجدون المساعدة وإن كانت في حدودها الدنيا.
Covidiot
تعني: الأحمق، الذي لا يقدّر مفهوم التباعد الاجتماعي، كي يتم كسر حلقة انتشار فايروس كورونا/ كوفيد19. تتألّف الكلمة من "COVID19 + Idiot"، هذه الكلمة أضيفت حديثاً إلى قاموس اللغة الإنكليزية الساخر (Urban Dictionary) نتيجة لواقع الحال، الذي لحظ استخفاف الناس باتباع إجراءات الحظر الصحي، وضرورة التباعد الاجتماعي حتى بين المحبّين والعائلات والمتدينين.
الأحمق، الذي لا يقدّر مفهوم التباعد الاجتماعي، كي يتم كسر حلقة انتشار فايروس كورونا/ كوفيد19. تتألّف الكلمة من "COVID19 + Idiot"، وأضيفت حديثاً إلى قاموس اللغة الإنكليزية الساخر (Urban Dictionary) نتيجة لواقع الحال، الذي لحظ استخفاف الناس باتباع إجراءات الحظر الصحي، وضرورة التباعد الاجتماعي حتى بين المحبّين والعائلات والمتدينين
كوفيد ليس على وزن كيوبيد/ إله الحب. وليس على وزن الاستغفار. تظاهرات التوبة التي عرفناها في القرون الوسطى في أوروبا تتكرّر الآن في منطقتنا العربية، عبر مسيرات وتكبيرات وخطب دينية وصلوات جماعة، ستؤدّي حتماً إلى ازدياد حالات الإصابة بالفيروس، وهنا لابدّ من القول: ألا تكفينا التجمعات أمام الأفران ومراكز توزيع الإعاشة وكوات صرف الرواتب حتى نزيد الطين بلّة.
نحتاج إلى جماليات السحر ورحمة وغفران الدين، لكن لن تكون طبخة الحياة صحيحة من دون ملح العلم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...