هل تعلمون أن في وسط دمشق شارعاً يحمل اسم "شارع شيكاغو"، وهو عبارة عن زقاق متفرع عن شارع "بور سعيد"، في منتصف المسافة تقريباً بين مقهى "الهافانا" وتقاطع جسر فيكتوريا؟
ورغم أن طوله لا يتجاوز المئة وخمسين متراً، وعرضه ليس أكثر من خمسة عشر متراً، لكن على عتباته كان ينتهي زمان ويبدأ آخر، وكأنه جزيرة مستقلة، مدخلها أشبه بالبوابة التي تدخل منها "أليس" إلى "بلاد العجائب".
في ستينيات القرن المنصرم، كان ذاك الشارع ملتقى لمحبّي الكيف، الباحثين عن المغامرة وإثبات الوجود بطرق مغايرة، بحيث يستلهمون من مدينة شيكاغو الأمريكية سيناريوهاتها في العشق والخروج على القانون وفق منطق الهامش، بعيداً عن المتن الدمشقي الذي تميَّز حينذاك بتعددية الانتماءات الفكرية، السياسية، الدينية والاجتماعية.
هناك، يتوحَّد الجميع أمام فتنة الجمال و"رَوْحَنَة" أجساد الساقيات الجميلات، و"الأرتيستات" الهيفاوات، ويصبح للمَرْجَلة طعم آخر بين النهود العارمة، السيقان المشدودة والأرداف المهتزة، وفي المسافة بين أوهام الرجال وتهيؤاتهم ورغباتهم المتأججة بفعل الكحول الرخيص، تتصاعد الصراعات، يتفعَّل التشويق وتتشابك الحبكات، من أجل دراما خاصة لا تشبهها أخرى في أي مكان آخر ضمن دمشق.
سبيرتو أزرق أو "كونياك فليت"
هنا تستعيد ما قرأته منذ ما يزيد عن الخمسة عشر عاماً، في رواية "الراقصة" للعراقي شاكر الأنباري، الذي بناها على عدة مداميك، منها شارع شيكاغو، وتتذكر بعض ملامحه الاجتماعية، حيث جاء في الرواية أن رواد حانة "الوردة الزرقاء" كانوا "يشربون السبيرتو الأزرق الذي يستخدم لإشعال بوابير الكاز، ويدعى تحبباً كونياك فليت"، وأنهم "ضحايا المدينة وضحايا العبث الذي يمارسونه للخلاص من حياتهم التي يكرهونها"، وبأنهم "يتفلسفون كالعادة، يشرحون سياسة أمريكا في المنطقة، ويتناولون بالتفصيل قصيدة النثر وروادها، ثم يدخلون في متاهة العوالم السفلية لمدينة دمشق"، وكأن "الأنباري" كان يسعى لرسم ملامح مختلفة للمدينة.
كما تسترجع ذاكرتك شخصية الراقصة ماغي التي "تُلَعِّبُ الرجال على أصابعها، ترقّصهم، تفتعل بينهم المعارك، تقودهم إلى المذبحة، فالجمال يقود الى الموت، والدم يسفح على ساقي ماغي وجيدها وعينيها النجلاوين"، وتستذكر قصتها مع الإقطاعي "نسيم بك" الذي أخضعه جمالُها، وأذله، بعدما جعله يلبي وعده لها بأن يشرب العرق من حذائها أمام الجميع، فشعرت أنها بذلك انتقمت من الطبقة الحقيرة التي استلمت زمام السلطة لعشر سنوات، بينما هو في تيه سطوتها يتنعَّم بأغنية محمد عبد الوهاب "الهوان وياك معزّة".
ورغم أن طول "شارع شيكاغو" لا يتجاوز المئة وخمسين متراً، وعرضه ليس أكثر من خمسة عشر متراً، لكن على عتباته كان ينتهي زمان ويبدأ آخر، وكأنه جزيرة مستقلة، مدخلها أشبه بالبوابة التي تدخل منها "أليس" إلى "بلاد العجائب"
ثلاث مستويات للذاكرة
نتواصل مع الروائي شاكر الأنباري لنعرف أكثر عما أراده من جعل شارع شيكاغو مسرحاً لمعظم أحداث الرواية، فيجيبنا في تصريح خاص لرصيف22: "رواية الراقصة مكرسة لمدينة دمشق، لكن بطل الرواية رؤوف وحيد الدين يراها بعينين مختلفتين، فهو من عائلة مهاجرة في زمن بعيد استقرت في دمشق وتكيفت مع حياتها، وبسبب كونه مهاجراً عمد إلى الاندماج مع المدينة وحياتها عبر استرجاع تاريخ المدينة، وكأن الذاكرة هي المعادل الموضوعي للانتماء إلى نسيج الواقع".
ولتلك الذاكرة ثلاثة مستويات كما يقول الروائي، المستوى الزمني البعيد وتمثل باسترجاع مذكرات "البديري الحلاق"، وما كتبه عن يوميات دمشق في حقبة آل العظم والدولة العثمانية، وهناك مستوى الماضي القريب في ستينيات القرن الفائت، وتمثل باسترجاع شخصيات وأحداث شارع شيكاغو، وقد عاش رؤوف وحيد الدين جزءاً من شبابه في ذلك الشارع أو عاصر حكاياته وأمكنته، ثم هناك الحاضر الذي يتحرك فيه رؤوف متنقلاً من الخمارات إلى شلل الصداقات وتجاربه الروحية بعد أن صار شيخاً ثم مات لاحقاً.
يضيف الأنباري: "عبر تواشج تلك المستويات من السرد والشخصيات والأحداث، قيض لرؤوف أن يحس بالانتماء إلى المدينة، لقد امتلك ذاكرتها. وهي بشكل عام مشكلة كل المغتربين والمهاجرين الذين يجدون أرواحهم وقد اقتلعوا من بيئة الطفولة وزرعوا في بيئة جديدة، وهم يحاولون تكوين هوية لهم، لذلك ينغمرون في تفاصيل الأمكنة وذكرياتها سواء القريبة أو البعيدة. ذلك هو المبرر الفني، حسب رؤيتي، لحضور شارع شيكاغو في رواية الراقصة، وكان على أية حال اجتهاداً فنياً لرسم شخصية بطل الرواية".
مرآتان للصراع والحب والجمال
إذن كان الاشتغال على ذاكرة المدينة وإعادة تكوين الهويات المهاجرة هو ما سعى إليه الأنباري في "الراقصة"، فهل تتطابق رؤاه الفنية مع العمل الدرامي السوري الجديد الذي يحمل عنوان "شارع شيكاغو" من إخراج محمد عبد العزيز وكتابته، مع ثلاثة خريجين من المعهد العالي للفنون المسرحية، هم رزان السيد، علي ياغي ويزن الداهوك؟
في مؤتمر صحفي أقامته شركة "قبنض" المنتجة للعمل في دمشق منذ حوالي شهرين، تلمسنا بعضاً من التقاطعات مع الرواية، حيث جاء فيه أن المسلسل يروي "قصة فتاة دمشقية، سلاف فواخرجي، تهرب برفقة بطل شعبي، مهيار خضور، من المجتمع والجهات التي تلاحقها في حقبة الستينيات، فتلجأ لتياترو في شارع شيكاغو الذائع الصيت، والذي كان يمثل وقتها الامتداد الحضاري والمعاصر للمجتمع الدمشقي، وينتهي الصراع بجريمة قتل غامضة تتكشف خيوطها في الوقت الحالي، على يد محقق يعثر مصادفة على ملف القضية، فتتحول الحقبتان الزمنيتان إلى مرآتين تعكسان قصص الصراع والحب والتضحية والجمال".
حول تعدد الأزمنة وتحوُّل الهوية، المشابه لبناء رواية "الراقصة" كان لقاؤنا مع علي ياغي، الذي أوضح في تصريح خاص لرصيف22، أن "شارع شيكاغو ارتبط بالتحولات السياسية والديموغرافية التي شهدتها دمشق بعد مرحلة الاستقلال وحتى الثمانينيات، حيث تحولت هوية الشارع كلياً من شارع الخمارات إلى محلات بيع عادية. ومن خلال هذه الارتباطات حاولنا ابتكار قصة متخيلة بإطار واقعي تجري في الشارع، ضمن سياق تاريخي يتخذ فترة الوحدة بين سوريا ومصر، في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات، خلفيةً لأحداث العمل".
ويتحدث ياغي عن حكاية تدور على السطح وتحمل كمّاً من العناصر الجماهيرية المعروفة المألوفة قي صناعة الدراما، كالتشويق والحركة وقصص الحب، ضمن إطار سردي جديد في الدراما السورية، مع محاولة إيجاد ارتباطات في البنية العميقة للنص، من خلال الكتابة لخلق قراءات متعددة للأحداث على عدة مستويات من الفهم، ليخاطب العمل شرائح عدة من المجتمع، محاولاً الوصول إلى أذواق متفاوتة في التلقي.
ويضيف: "ضمن هذه المنهجية في العمل، نراقب التحول الذي يطرأ على الشارع بعلاقته مع التغيرات السياسية والصراعات الاجتماعية، ليصبح الفضاء الدرامي الذي يجمع الشخصيات فضاء رمزياً مفتوحاً على التأويل، تتلمس من خلال متابعة تغيراته ما شهدته البلاد في فترة زمنية معينة، دون إغفال الجوانب الدرامية والحكائية الجماهيرية".
والهدف من ذلك بحسب ياغي، هو رصد كيفية تحوّل شارع قائم على موروث ثقافي ومبني على التعددية، ثم صبغه تدريجياً بصبغة أحادية نمطية، فيكون باعتباره رمزاً الضيف الخفي على العمل.
"جورج وسوف" غنّى فيه
لم يعد شارع شيكاغو نهائياً كما كان، وتبدلت ملامحه كثيراً، إذ تحوَّلت جميع الحانات والملاهي ومحلات الشُّرب إلى بيع معدات الكاميرات والتصوير الفوتوغرافي، إلى جانب بعض المكاتب السياحية وشركات السفر.
في منتصف الشارع تحديداً، التقينا المصور فوزي حداد الذي عايش ملامحه منذ عام 1967، وكان حينها، كما أخبرنا، بغالبه خمارات، أشهرها "مشرب الشباب" الذي يمتلك عليّة حيث يسهر الرجال، وهناك خمارة "أم فهد" وخمارة "أبو زكي" ومعظم العاملات فيها كنّ من النساء، وإلى جانب الخمارات، ثمة بضعة محلات للتصوير، كمحل "حداد" ودكانة "ملوحي" و"ميماس".
يحدثنا حداد عن ذكرياته وعن غرابة ذاك الشارع بالقول: "يعود اسمه لكثرة المشاكل فيه، حيث كان مسرحاً لصراعات لا تنتهي، وكلما تعارك أحد مع آخر يقول له: "إن كنت شجاعاً دعنا نلتقي في شارع شيكاغو"، وكنا نسمع دائماً أصوات طلقات نارية، فهنا الإجرام كامل، هناك من يرمي قنبلة، وآخر يطلق الرصاص، وثالث يغسل يديه بعد أن يقتل القتيل وكأن شيئاً لم يكن".
أغلب تلك المشاكل، كما يقول حداد، كانت بسبب السُّكر والصبايا والاقتتال عليهن، فجميع الرجال مسلَّحون إما بالمسدسات أو السكاكين أو الخناجر، وفي الشارع العديد من الشخصيات المنخرطة في المشاكل، مثل بائع الفول "أبو عكيل" ذي الجسم "المشطّب" أي المثخن بالجراح، والذي يعتبر نفسه زعيم المكان، و"أم فهد... ناهد" التي كانت تتوعد أي رجل يقترب منها بأنها ستقتله، والساقية "سحر" الطويلة بيضاء البشرة، "وجميلة" الساقية التي كانت فعلاً جميلة.
ووفق حداد، فإن شارع شيكاغو كان يُغلق في بعض الأحيان من ناحية الغرب من أجل الاحتفالات الجماعية، أو الحفلات التي يحييها مطربون معروفون، ربما أشهرهم جورج وسوف الذي غنى في الشارع عندما كان صغيراً.
المتابع لسيرة شارع شيكاغو يتلمس أن كل التغييرات التي طرأت عليه، تعود إلى إلغاء التعددية الفكرية والسياسية التي كانت سائدة في الستينيات، بحيث أن اصطباغ مدينة دمشق بالأحادية ورفض الآخر في معظم الأحيان، كانت كفيلة بغلبة المَدّ الديني، لاسيما بعد تحالف الحزب الواحد مع رجالات الدين، رغم تستره الدائم بشعارات العلمانية البرّاقة
أما عن سبب إلغاء المشارب والحانات في الزمن الحالي، أخبرنا المصور أن "هذا الشارع كان ملك اللبنانييَّن "رينيه وروبيرت صباغ"، ومنذ الثمانينيات وضعت وزارة الأوقاف يديها على المنطقة بحجة وجود جوامع قريبة، وأول ما قامت به إلغاء المشارب، فمن غير الجائز أن يدخل مال إلى خزينة الوزارة من الخمارات، وبعد الإغلاق اضطر أصحاب الحانات لبيعها بأسعار بخسة، لأنها من دون مشروب لم تعد قابلة للحياة".
المتابع لسيرة شارع شيكاغو يتلمس أن كل التغييرات التي طرأت عليه، تعود إلى إلغاء التعددية الفكرية والسياسية التي كانت سائدة في الستينيات، بحيث أن اصطباغ مدينة دمشق بالأحادية ورفض الآخر في معظم الأحيان، كانت كفيلة بغلبة المَدّ الديني، لاسيما بعد تحالف الحزب الواحد مع رجالات الدين، رغم تستره الدائم بشعارات العلمانية البرّاقة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...