شارع ضيق يتفرع عن أحد الأسواق التجارية الهامة وسط العاصمة السورية دمشق، بوابة حديدية صغيرة، مدخل لا يتجاوز طوله ثلاثة أمتار، وبضع درجات نحو الأسفل، وبعدها لن يلزمنا سوى قرع الجرس المعلق على زاوية الباب الخشبي أبيض اللون، كي ندخل عالماً رحباً من الكتب والمخطوطات والمجلدات، سنعرف اسمه من اللافتة المعدنية المعلقة على بابه الصغير: دار أطلس للنشر والتوزيع.
وبين ملصق كبير أزرق اللون يبدو فيه شعار الدار، وهو رجل يسند بيده اليمنى الكرة الأرضية على كتفه ويحمل كتاباً مفتوحاً بيده اليسرى، ولوحات أخرى مختلفة تظهر الاسم والشعار إلى جانب عناوين لفعاليات ثقافية مختلفة، لا يمكن للزائر سوى أن يبتسم حين يستقبله العاملون في دار أطلس، ومالكته سمر حداد، بابتسامة عريضة وترحيب كبيرين. يستطيع بعدها أن يغرق بمطالعة عناوين مئات الكتب التي تزدحم بها زوايا المكان الذي يعود تاريخ العمل فيه لأكثر من ستين عاماً.
دار أطلس بدمشق.. الفلسطيني الذي أورث ابنته شغف الكتب والثقافة وقصة سوريا الفلسطينية
الدار تحكي تاريخ جيلين من العائلة
مع لجوء الفلسطيني سمعان حداد وعائلته إلى سوريا عام 1948، إثر النكبة وسقوط مدينته صفد تحت الاحتلال، وبعد ممارسته لأعمال مختلفة في العاصمة دمشق التي استقر فيها، قرر عام 1956 إنشاء مكتبة ودار نشر مستقلة، فرأت "أطلس" النور لتكون من أوائل المكتبات ودور النشر في المدينة، وذلك وفق حديث ابنته سمر لرصيف22.
احتلت المكتبة مكانها سريعاً في المشهد الثقافي الدمشقي، فتحولت ملتقى لمثقفي ووجهاء المدينة وعلى الأخص القادمين من فلسطين، ونشرت عشرات العناوين المتنوعة كل عام، ومنها الروايات والكتب التاريخية والفلسفية، لكنها لم تكن بمنأى عن التغيرات التي طالت البلاد برمتها في عقد التسعينيات الفائت، وتركت للثقافة حيزاً تتضاءل مساحته يوماً بعد آخر.
وفي عام 2000، وبعد رحلة دراسة وعمل امتدت لسنوات طويلة في كندا، عادت سمر، وهي الابنة الكبرى لسمعان، إلى سوريا لتستلم إدارة المكتبة والدار وقد كانتا بحال متعبة، مع تقدم الرجل بالعمر واستعانته بموظف واحد كبير بالسن لإدارة العمل بأكمله.
صورة سمعان حداد، مؤسس دار أطلس
"اتخذنا قراراً صعباً بإغلاق المكتبة في شارع الصالحية وسط دمشق والإبقاء على دار النشر، حيث لم يعد من المجدي تواجدنا في منطقة تجارية ذات طابع استهلاكي لا مكان فيها سوى لمتاجر الأحذية والألبسة". هذه الخطوة، كما تقول سمر، غيرت حياتها هي أيضاً، حيث قررت الاستقرار بشكل نهائي في سوريا وإدارة المشروع الذي سرعان ما أخذ مكانه المميز في السنوات اللاحقة بين دور النشر النهضوية العلمانية في البلاد والمنطقة.
في العقد اللاحق، نشرت دار أطلس العديد من العناوين التي تنوعت بين الروايات والدراسات الدينية والتاريخية والثقافية، كما اعتنت بنشر ترجمات عربية من لغات مختلفة تحت شعار "إبراز التنوع والاختلاف في الثقافات"، وهو ما يشير إليه أيضاً تعريف إدارة الدار عن نفسها على صفحتها على موقع فيسبوك: "نحن في أطلس، نحترم التنوع كما ندعمه وندافع عنه فيما يختص بالكتب والنشر. ونؤمن بأن أي كتاب مهما كان نوعه يجب أن يحصل على فرص متساوية بالعرض والتسويق عملاً بمبداً التنوع البيبليوغرافي".
إضافة لذلك، نظمت الدار واستضافت العديد من الفعاليات والأنشطة الثقافية، مع التزامها بضرورة تعميم الثقافة من أجل تطوير المجتمع، وإيماناً بمسؤوليتها المجتمعية. من تلك الفعاليات، نادي الكتاب الشبابي، بعض المعارض الفنية والحفلات الموسيقية، حفلات إطلاق الكتب الجديدة والمؤتمرات التي تتناول قضايا تتعلق بالثقافة والدين والتاريخ.
عن ناشرة فلسطينية سورية مستقلة لم تغلق باب دارها الصغير في دمشق يوماً طوال سنوات الحرب
تحديات العمل تحت نيران الحرب
كان من شبه المستحيل أن تعصف الحرب بسوريا دون أن تمس العمل الثقافي بنيرانها، والتي كان لدار أطلس منها نصيب، "فكانت خسارتنا الأقسى هي لقرائنا الذين غادر قسم كبير منهم البلاد"، تقول سمر حداد، وتشرح عن مصاعب أخرى تتعلق بالعقوبات الاقتصادية التي فُرضت على سوريا، وأثرت على معظم الأعمال فيها، وترهل آليات التوزيع التي كانت تعاني من التعثر حتى خلال السنوات التي سبقت الحرب، إضافة للتحدي الذي يعاني منه الناشرون في معظم البلدان العربية، والمتعلق باستغلال حالة الفلتان الأمني وتزوير الكتب وبيعها دون حقوق ملكية.
ومع غياب الدعم الحكومي في سوريا لدور النشر، كان على دار أطلس، وفق حديث سمر، تخفيض عدد مشاريعها وتقليص العناوين الجديدة من حوالي اثني عشر إلى ستة أو سبعة عناوين بشكل سنوي، وأيضاً تقليل عدد النسخ المطبوعة إلى 250 أو 500 أو ألف نسخة على الأكثر، للكتب التي يتوقع أن تلقى رواجاً، مقارنة بما يتراوح بين ألف وثلاثة آلاف نسخة كانت تُطبع قبل الحرب. كما اتجهت نحو سوق الكتاب الالكتروني والصوتي، وأيضاً للاستفادة من منح الترجمة من اللغات المختلفة لترجمة ونشر عناوين جديدة في السوق العربية.
عانت دار أطلس كذلك من تراجع مستوى معارض الكتب العربية، وهي المورد الأول والأكبر للناشر العربي، رغم ضيق الأفق الرقابي فيها، ومن منع بعض تلك المعارض الناشرين السوريين من المشاركة، بذلك قلّصت مشاركاتها في المعارض واختارت الأفضل، وحرصت على إرسال الكتب مع ناشرين آخرين في حال تعذر الحضور بشكل شخصي.
لا أعرف مهنة غيرها
من أصعب اللحظات التي عانت وتعاني منها سمر حداد، كما هو حال جميع مالكي دور النشر المستقلة حسب رأيها، هي تلك التي تعجز فيها عن الالتزام بتسديد تكاليف الطباعة وحقوق المؤلفين، نتيجة كافة التحديات التي تواجه عملها في بلد يعاني من آثار الحرب، وفي منطقة يتراجع فيها دور الكتاب الورقي دون شك. "الناشر المستقل يخاطر بعناوين ربما تكون غير رابحة لكنها مهمة للمكتبة العربية، وهي تعبر عن دوره في تنمية المجتمع ورفع وعيه بقضاياه"، تقول.
رغم ذلك، لم تفكر سمر يوماً بإنهاء عملها أو إغلاق الدار، "فأنا لا أعرف سوى هذه المهنة ولدي شغف بها. ماذا يمكنني أن أعمل غيرها؟ لا خيار لدي".
وتتحدث عن أثر طيب يتركه عملها على العديد من ناشري الكتب الإقليميين والدوليين الذين يبدون إعجابهم بقدرتها على الاستمرار بالعمل من دمشق، والمشاركة بالعديد من الورشات والملتقيات المتخصصة بمجال النشر والترجمة، خاصة مع عضوية دار أطلس في الرابطة الدولية للناشرين المستقلين، وتنسيق سمر للشبكة اللغوية العربية. وتضيف بسعادة: "عندما يخبرونني بأنني ألهمهم، ويفرحون بالهدايا البسيطة التي أحضرها لهم من دمشق حين نلتقي، يعطيني ذلك دافعاً للاستمرار بالعمل".
وتشير سمر كذلك إلى حيازة عنوانين نشرتهما الدار على جوائز عربية، حيث حصلت رواية "قطنا" التي ترجمها عن الألمانية نبيل الحفار، و"يوميات دوستويفسكي" التي ترجمها عن الروسية عدنان جاموس، على جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي في قطر عام 2018 التي تُمنح للمترجمين، وهو أمر أشعر كل فريق العمل بسعادة الإنجاز بعد جهد كبير.
"استمرارنا بتلقي طلبات شراء الكتب سواء ورقياً أو الكترونياً، وتهافت القراء على شراء الكتب في المعارض العربية والدولية يجعلني أقول بأن للكتاب الورقي مكانته التي لا زال يحتلها، رغم أنها بالتأكيد لم تعد كالسابق، وبأن زبائننا الذين لا زالوا ينتظرون كل جديد بشغف يستحقون أن تبقى دار أطلس موجودة من أجلهم"، تقول سمر.
وتتبع الناشرة، التي لم تغلق باب دارها الصغير يوماً طوال سنوات الحرب، شعارها الذهبي الذي يحلو لها ترديده على الدوام: "كما تحتاج أجسادنا تمارين وأنظمة غذائية لتبقى محافظة على صحتها، كذلك عقولنا هي بحاجة للقراءة كي تكون بأفضل حال".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ اسبوعينمقال رائع فعلا وواقعي