شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
عنف لفظي يحمل أبعاداً اجتماعية وسياسية... التمييز في العامية التونسية ضد الآخر

عنف لفظي يحمل أبعاداً اجتماعية وسياسية... التمييز في العامية التونسية ضد الآخر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الاثنين 6 أبريل 202005:18 م

ينظر التونسيون إلى أنفسهم وينظر إليهم الآخرون على أنهم متسامحون، ويتقنون فن التعايش والاختلاف. غير أن هذه السردية تتعارض مع ما يستخدمونه من كلمات وأقوال، إذ تكشف ألفاظهم الشعبية عن منسوب مرتفع من التمييز ضد الآخر.

كغيرها من اللهجات، تتضمّن العامية التونسية كلمات تعبّر عن الوصم الاجتماعي، وهو فعل يعرّفه الباحث في علم الاجتماع في الجامعة التونسية طارق بالحاج باعتباره ''كل صفة أو تسمية غير مرغوب فيها تُلصق بفرد أو بمجموعة بشكل يحرمها من تقبّل المجتمع لها لأنها مختلفة عن بقية أفراد هذا المجتمع".

ويضيف لرصيف22: "إنه نوع من أنواع العنصرية التي تركز على عنصر الاختلاف في الخصائص بين البشر، سواء تعلق الأمر بخصائصه الجسمية أو العقلية أو النفسية أو الاجتماعية، أو الطبقية التي تجعله مغترباً عن المجتمع الذي يعيش فيه''.

''صور نمطية تفاضلية''

يقف المدقق في العامية التونسية على أمثلة حية من العنف اللفظي تجاه الآخر بما تحتويه من ''صور نمطية تفاضلية''، بحسب تعبير بالحاج محمد.

فالمعجم العامي التونسي يرسم صوراً تفاضلية فيها قدر كبير من العنف، وأساسها عرقي يميّز بين الأبيض وصاحب البشرة السمراء الذي يُشار إليه بألفاظ من قبيل ''وصيف"، "كحلوش"، "عبيد"، "خادم"، و"كحلة".

وألفاظ "وصيف"، "كحلة" و"كحلوش" هي ألفاظ تونسية بامتياز، تشير إلى كل شيء لونه أسود أو ما يُعرف عند التونسيين باللون "الأكحل"، سواء تعلق الأمر بلون البشرة أو غيرها من باقي الأشياء السوداء.

وهناك صور نمطية تفاضلية مبنية على أساس جغرافي تميّز بين جهات يُعتبر أبناؤها ذوو شأن وبين أخرى يُعتبر أبناؤها أقل أهمية ومكانة، فهناك مفاضلة بين سكان الأرياف وسكان المدن.

يمكن العثور على مصطلحات كثيرة تحقّر وتزدري بشكل فاضح القادمين من الأرياف والمناطق الداخلية باعتبار أنهم ''نزوح"، "موش ولد بلاد"، "براني"، "من وراء البلايك"، "عرب"، "عربان"، "جبري"، "من هاك البرور"...

وتشير عبارة "من وراء البلايك" عند التونسيين إلى البقاع النائية التي لا سبيل للوصول إليها إلا بالاسترشاد بالعلامات التي توضَع على الطرقات لتوجيه الناس أو ما يعرف عند التونسيين بـ"البلايك". فهذه أماكن بعيدة عن مراكز المدن وليس من السهل بلوغها دون دليل أو مرشد.

وبخصوص لفظ "من هاك البرور"، فـ"البرور" جمع بَرّ، ويكتسي صبغته التحقيرية حين يضاف إليه لفظ "من هاك" أي "من تلك"، في إشارة إلى البعد لا فقط عن مراكز المدن بل أيضاً عن كل ما تحمله المدن من معاني التحضر والتمدن. وفي المقابل، يشير التونسيون إلى سكان المدن بألفاظ ترفع من شأنهم من قبيل "جماعة العاصمة"، و"سواحلية" (نسبة إلى مدن الساحل التونسي المرفه مقارنة بغيره من أقاليم البلاد).

تفرز هذه المفاضلة المادية مفاضلة أخلاقية وقيمية تجسدها كلمات من قبيل "جبري"، وهي كلمة عامية تونسية بامتياز تصم الوافدين من أرياف البلاد البعيدة بالغلظة والافتقار إلى مظاهر التمدن والتحضر المادي وعدم القدرة على مسايرة نمط الحياة المديني بما تفرضه هذه الحياة من أنماط سلوكية معيّنة لعل أبرزها طريقة التخاطب مع الآخرين.

هذه المفاضلة تبدو أشد وضوحاً عند استعمال كلمات مثل "عرب" وجمعها "عربان" للإشارة بشكل جلي إلى كل مَن يقطن الريف. وقد تكون الفكرة قد تسربت إلى العامية التونسية من تراكمات حضارية وثقافية تصم العرب بأنهم أهل بداوة وبعيدون عن التحضّر.

نزعات جهوية إقصائية

لا يقتصر التمييز ضد الآخر على مجرد مفاضلة بين سكان الريف وسكان المدن، بل ينبني على تكريس جلي لنزعات جهوية وقبلية تخفي وراءها الكثير من العنصرية والإقصاء وتنزع عن هذا الآخر كل صلة بالتحضر والمدنية وتصمه بالغلظة والتأخر.

ينظر التونسيون إلى أنفسهم وينظر إليهم الآخرون على أنهم متسامحون، ويتقنون فن التعايش والاختلاف. غير أن هذه السردية تتعارض مع ما يستخدمونه من كلمات وأقوال، إذ تكشف ألفاظهم الشعبية عن منسوب مرتفع من التمييز ضد الآخر المختلف

ففي العامية التونسية تنتشر أوصاف ''فرشيشي"، "فراشيش"، "همامي"، "ماجري"، "جلاصي"، "جماعة الـ ك. ج. ب"، "جبالي"، "جرابة صافيين"، وهذه ليست مجرّد إشارة إلى مسقط رأس الشخص بل هي أوصاف تحمل محمولات تمييزية ضخمة.

فأن تكون "فرشيشياً" (والجمع "فراشيش")، أي قادماً من منطقة القصرين التي كانت قبيلة فرشيشة من أوائل القبائل التي استوطنتها، وهي منطقة داخلية وسط البلاد لطالما عرفت تهميشاً خلق لدى أبنائها شعوراً بالدونية، يعني أن توصم بالغلظة في الطباع والاندفاع والقسوة في التعامل مع الآخرين.

وكذلك الأمر بالنسبة إلى "جماعة الـ ك.ج.ب"، وهي اختصار لأسماء ثلاث محافظات تونسية تقع شمال غرب البلاد (كاف، جندوبة، باجة)، إذ يوصم أبناؤها بالوشاية والتجسس وتتبع أخبار الناس وأحوالهم وملاحقتهم، فيصيرون محل تهكم وازدراء. ولعل من الصُدف التي ضاعفت من التصاق تلك الصفات بسكان تلك المناطق تطابق تلك الحروف مع الحروف الأولى لجهاز المخابرات السوفياتي الـKJB.

نفس التمييز تحمله كلمات "جلاصي"، "همامي"، "عياري"، و"جبالي"، وهي كلمات تحيلنا إلى انتماءات حامليها القبلية، إذ تُشتقّ من أسماء قبائل استوطنت مناطق داخلية بعيدة عن المدن الساحلية والعاصمة (قبيلة جلاص في القيروان وقبيلة أولاد عيار في الكاف...). هؤلاء تلتصق بهم صفات التهور والاندفاع والخشونة فإذا أراد احدهم أن يقلل من شأنك يصفك بإحدى هذه الأوصاف، وقد يكون ذلك من باب المزاح، ولكنه مزاح قائم على خلفية ثقافية تمييزية.

جماعة "القال" وجماعة "الڤال"

تسلط العامية التونسية عنفاً تجاه فئة كبيرة من التونسيين من خلال تمييز على أساس كيفية نطق حرف القاف.

فهناك "جماعة القال"، أي الناطقون بحرف القاف كما بالفصحى، وتُعتبر رمزاً للرقي الاجتماعي والمكانة المرموقة داخل المجتمع، وهم سكان العاصمة تونس وخاصة سكانها الأصليون، وسكان المناطق الساحلية ومناطق شمال البلاد.

في المقابل هناك "جماعة الڤال"، أي مَن ينطقون حرف القاف كما في اللهجات الخليجية، وهم أغلب سكان الجنوب التونسي وسكان المناطق الداخلية للبلاد، ويتعرّضون للتمييز ويُنظر إلى طريقة نطقهم للقاف على أساس أنها دليل على دونيتهم، وهو وصم كرّسته أعمال درامية تونسية مثل مسلسل "نسيبتي العزيزة" بأجزائه الثمانية.

في العامية التونسية، يمكن العثور على مصطلحات كثيرة تحقّر وتزدري بشكل فاضح القادمين من الأرياف والمناطق الداخلية، ومنها أنهم "عرب" و"عربان". وقد يكون أصل الوصف مبنياً على تراكمات حضارية وثقافية تصم العرب بأنهم أهل بداوة وبعيدون عن التحضّر

ومَن لا يتحدث بلهجة العاصمة ومدن الساحل، يوصَف أيضاً بأنه "شلوح"، وهي إحالة إلى "الشلحة"، لغة بعض السكان الذين يتحدرون من أصول بربرية في بعض مناطق البلاد. وهذا الوصف يُستخدم للتقليل من شأن الموصوف الذي يتحدث بـ"لغة غير واضحة" أو تتضمّن ألفاظاً "غريبة"، ويقوم على تمييز مزدوج ضد البربر وضد أصحاب اللهجات الخاصة.

وفي المصطلحات المستخدمة للإشارة إلى دونية شخص ما الأخلاقية، هناك شتائم كثيرة وهذا موجود في كل لغات العالم، ولكن هناك أيضاً نعوت مثل "يهودي" وهو نعت يتأسس على نظرة سلبية لليهود في الثقافة التونسية تأسست على استنكار مخالفتهم لبعض العادات السائدة بين التونسيين.

في محاولة لقراءة الأسباب التي تقف وراء تفشي هذا العنف ضد الآخر في العامية التونسية، يتحدث طارق بالحاج محمد عن خلفية سياسية للأمر، أو ما يطلق عليه التونسيون ''الحڤرة'' (ثلاث نقاط فوق حرف القاف)، وهي النظرة للآخر من موقع التفوق بشكل يميّز ضده ويستكثر عليه حقوقه.

ويشير الباحث إلى علاقة الأمر بـ"أمراض نفسية وثقافية منقولة تربوياً تؤكد حالة عامة من الانفصام النفسي والاجتماعي والعنصرية تجاه الآخر المختلف عنا".

وبرأي بالحاج محمد، يقصي هذا الفكر الآخر اجتماعياً وسياسياً، لأنه يعبّر عن عقلية رافضة له ومتعالية عليه وتتوق إلى حرمانه من حقوقه كمواطن.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image