أسئلة كثيرة عن أصل وباء كورونا ونسبه المئوية تفرض نفسها علينا، ولا أجوبة حاسمة بعد، ورواية رسمية واحدة سردتها الحكومة الصينية عن أن الفيروس خرج من سوق للسمك وانتشر.
كورونا كالغيب. كثيرون يحللون خلفياته، والإجابات محدودة. هي قابلة لكل الافتراضات والتهيؤات والاحتمالات، وتسهل فيها الاتهامات والتأويلات. وحتى لو جاء الجواب العلمي الحاسم، سيواصل المؤولون والمتهيئون حديثهم. الكلام فيه خارج أطر الدوائر المختصة، العلمية والاستخبارية سهل، ولن يبتعد عن التحليل السياسي أو التجرد الفكري أو الإسقاط الأيديولوجي.
وكالعادة، ينشغل كثيرون من العرب بشكل واسع في تحليل الخلفيات، بدءاً من أسطوانة المؤامرة الأمريكية الإسرائيلية، وانتهاء بحفنة اتهامات لا يجمع بينها سوى أنها تحليلات في أجواء ملبدة. في خطابات هؤلاء، يصعب أنْ يجد المرء الكثير من المضامين التي تتحدث عن المستقبل، إلا من باب التنبؤ بنهاية حضارة غربية شكّلتْ وما تزال عقدة نقص عند منتحِبين على يوم كان العرب فيه غزاةً وفاتحين.
بلداننا لن تتغيّر
ليس مهماً لأصحاب عقدة النقص هذه ماهيّة المتغيّر، أو ماذا تعني الإجراءات المتبعة منذ حوالي شهر في أكثر بلدان العالم، وما هي الدلالات المستقبلية إذا ما نظرنا إلى الأفكار والسياسات والأيديولوجيات والأنظمة المعمول بها. فالفرد العربي بشكل عام لم يشعر بتغيير مهم يتعلق بالأجواء السياسية أو الفكرية والمعرفية. فما تعتمده حكومات البلدان الناطقة بالعربية هو فعل معتاد، فهي الآمرة الناهية على أي حال، ولا أحد قادراً على الرفض، سواء في البلدان النفطية الرعوية، أو في بلدان الخصخصة المسيطر عليه حكومياً.
تلك البلدان لن تتغير. هي مثل السابق، مع كورونا أو بغيرها. حكومات دكتاتورية أو شبهها، تدار مِن قبل شخص أو حفنة أشخاص أو عائلات، يغيّرون الأقدار في كل مرة. إنها، مع الفيروس ودونه، باقية في القديم ومنتظرة نهايات الآخرين وصعود غيرهم. وإذا حدث الصعود والهبوط، ينسب الفعل إلى السماء راعية المسلمين حتى في أشد ساعات ضعفهم.
متغيرات فكرية عميقة
خطورة كورونا ليست فقط في ما ستقتله من بشر، وهو بلا شك عظيم وجلل. الحرب العالمية الثانية، بسبب طموح رجل مزج الحماقة بالعنصرية والأيديولوجية، انتهت بقتل عشرات الملايين من الناس. الخطورة الأكبر أنّ الوباء يدفع نحو متغير فكري معرفي عميق، أو سلوك لا ينسجم مع كل ما اعتمدته اللحظة الديمقراطية. وكأن الأنظمة الشمولية والدكتاتورية تقول إنها الأصح، وكأن "الاشتراكية" بنسختها المتخمة بالبيروقراطية، والتي دفع البشر ثمناً كبيراً نتيجة تطبيقاتها الشيوعية في القرن العشرين، تشير إلى أنها الأسلم.
الحكومات الغربية اليوم تتدخل بشكل مباشر في الحريات الاقتصادية والاجتماعية. تغلق المحلات والمتاجر، وتمنع التجمعات واللقاءات، وتتحكم في مَن يجوز أنْ يلتقي الأفراد ومَن لا يجوز. أحكام الطوارئ حاضرة وبقوة. الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يفعّل قانون "الإنتاج الدفاعي" مجبِراً أو حاثاً شركة "جنرال موتورز" على صناعة أجهزة تنفس. دول كثيرة تعطي موظفي الشركات الخاصة المقفلة بفعل قرارات الإغلاق، نسباً كبيرة من رواتبهم. السلطات بدأت تراقب الأسعار وتتدخل كي لا يستغل أصحاب رؤوس الأموال الواقع... هذه ليست إجراءات طبيعية بالتأكيد، ولا تشبه السياق العام للأنظمة الاقتصادية كما الاجتماعية السائدة في الغرب.
"الخطورة الأكبر أنّ انتشار الكورونا يدفع نحو متغير فكري معرفي عميق. وكأن الأنظمة الشمولية والدكتاتورية تقول إنها الأصح، وكأن الاشتراكية بنسختها المتخمة بالبيروقراطية تشير إلى أنها الأسلم"
مثلاً، تأخرت بريطانيا في إعلان حظر التجول والإغلاق الشامل، حتى اللحظة. الأمر ليس اقتصادياً فقط، بل هو ذو صلة وثيقة بصعوبة اتخاذ قرار يخنق بالكامل حرية الناس. ليس سهلاً في لندن أنْ تُناقَض بشكل حاسم التقاليد الديمقراطية، رغم أنّ الفيروس وصل إلى العائلة الملكية ورئيس الوزراء. اتبعت طريقة النصائح بدءاً وحصل بعد ذلك تدرّج، صاحبه تحذير السلطة الناسَ من هول الكارثة ودعوتهم إلى توديع أحبابهم. وفي النهاية هي مجبرة على إعلان حاسم قريباً، خصوصا إذا ما طال الموت أعداداً كبيرة.
وحين يقول الرئيس الفرنسي إنّ بلاده والعالم في حالة حرب، إنما يسعى إلى تبرير ما لا يمكن تبريره في غير زمن الحرب. تبرير الإجراءات الحكومية الصارمة التي اضطرت إلى إغلاق كل شيء تفسير صعب. هو يحاول أنْ يجد جواباً صريحاً لنفسه وللمجتمع بشأن سؤال انسجام الإجراءات الصارمة مع قيم الليبرالية الاجتماعية وحريات الأفراد.
صحيح أن أكثر الدول الغربية تعتمد نظماً للرعاية الاجتماعية، غير أن القواعد الليبرالية للاقتصاد وأسسه الرأسمالية ظلت دائماً موجودة بشكل واسع، والأسس المعرفية لحرية الأفراد غير قابلة للتلاعب إلا بحذر. لذا إنّ ما يجري يشير إلى إخضاع تلك القواعد والأسس، الاجتماعية فضلاً عن الاقتصادية، لتهديد غير مسبوق.
الديمقراطية لم تكن مستعدة
الديمقراطية لم تكن مستعدة لأحداث مثل انتشار فيروس بهذه السعة والخطورة. كان العالم مستعداً لشتى أنواع الحروب وموجات الإرهاب وردود الأفعال والعنف، لكن لا أحد استعد لفيروس شامل. من هنا بقيتْ أجهزة التنفس أقل بكثير من عدد البنادق والقنابل وربما عدد الصواريخ بعيدة المدى.
وحين تقول الصين، وهي منشأ الوباء، إنها نجحت في التصدي للمرض واحتواء تداعياته، وبدأت بتصدير الأقنعة وغيرها إلى الدول الموبوءة، وفي مقدمتها إيطاليا، فإنها تضع أمام الحضارة الغربية بكاملها أخطر تحدٍّ. هي تقول إنها استخدمت التعبئة للتعقيم وما سواه من المساعي اللوجستية والمادية في سبيل القضاء على الفيروس، وهو ما لا تستطيع الديمقراطية فعله. فالمملكة المتحدة غير قادرة بعد على حشد 25 ألف متطوّع للقطاع الصحي.
وكأن بلاد التنين تفترض أن شموليتها ومركزية سلطتها نجحت بينما فشلت الديمقراطيات. وإنْ صدقت بكين في رواية احتوائها للوباء، تصبح الحضارة الغربية كلها في مواجهة أزمة معرفية غاية في الصعوبة. بالطبع هناك شكوك بشأن نجاح الصين، غير أنها أقنعت الكثيرين بروايتها.
"في خطابات العرب المشغولين بنظريات المؤامرة، يصعب أنْ يجد المرء الكثير من المضامين التي تتحدث عن المستقبل، إلا من باب التنبؤ بنهاية حضارة غربية شكّلتْ وما تزال عقدة نقص عند منتحِبين على يوم كان العرب فيه غزاةً وفاتحين"
وعندما تعاني روما من عزلة مبكرة ولا تجد يد عون كافية من الاتحاد الأوروبي الذي انكفأتْ دوله لحماية شعوبها بعيداً عن التنسيق الجماعي، بينما تجدها من بكين وموسكو، فهذا ينبئ بتداعيات سياسية للكورونا على مستقبل الاتحاد الأوروبي الذي لم يستوعب بعد مشكلة خروج بريطانيا منه.
قضايا مثل الأمة والمجتمعات القومية والتضامن العابر للحدود القطرية تواجه أسئلة بفعل انتشار وباء كورونا والسياسات المتبعة لمواجهته. لا دور للتشابه القومي أو العرقي، ولا أهمية للرابط الديني.
لا وقت للشماتة والرقص على الاختلافات بين الحضارات. الفيروس يهدد البشر أجمعين، ما يخلق تساؤلات بشأن جاهزية التصورات الفكرية والسياسية الغربية لأن تستمر في كونها الأقدر، وما يفسح المجال بشكل أكيد أمام ضرورة فكرة الإنسان الكوني.
مجموعة العشرين مثلاً، تجتمع افتراضياً عبر الإنترنت، لتناقش قضية غير اقتصادية لها تداعيات اقتصادية. وبمعزل عن مدى صدق قادة العشرين في أنهم سيقفون موحدين، فإن الأمر لا يحتاج إلى صدقهم، هم مضطرون إلى ذلك.
وسط هذه المعادلة، فإن الشيء الوحيد المثير للخشية في نفوس كثيرين من المتدينين العرب، أو متديني الهوية بشكل عام، هو إغلاق المعابد والمساجد والأضرحة. هذا هو الحدث الجلل عندهم، وهذا ما انشغلوا بحوار طويل بشأنه، تارة بالرفض وأخرى بالتحليل. أما السياسات فثابتة، هي سلوكيات سلطوية تتعامل في ظل ظروف كورونا بنفس الطريقة التي تتعامل فيها مع المعارضين السياسيين.
العالم يتغير، ولا شيء مؤكد وسط هذه الجلبة، والأسئلة الجوهرية ستكون عنيفة وشديدة. بينما عربياً، لا أظن أنّ هناك بيئة لأسئلة محورية. الأرض التي ستطرح أسئلتها هي التي تعيش التحدي، وتسابق الزمن كي تتغلب عليه، فتشهد انهيارات وصعوداً، أو متغيرات وانقلابات، وليس التي يتساوى فيها زمن النوم بالصحو.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...