أعلنت عدة دول خلال الأيام الماضية عن عودة مواطنين مصابين بفيروس الكورونا إلى أراضيها بعد رحلات قام بها هؤلاء المواطنون إلى مصر؛ في الوقت الذي ظلت فيه مصر صامتة تجاه الانتشار الوبائي. هناك أمور كثيرة خافية؛ النماذج الغيلانية مثل مصر تتفوق في التعتيم والتضليل وحجب المعلومات.
كل ما علينا هو أن ننظر إلى الصين أو إيران لنتعرف على خطورة وصول فيروس مميت إلى أراض يحكمها نظام قمعي. هناك شكوك قوية أن النظامين قاما خلال المراحل الأولى لانتشار الفيروس بإصدار بيانات كاذبة حول أعداد المصابين والضحايا، وأنهما مستمران في اتباع المنهج نفسه لأسباب سياسية. وهناك مؤشرات عدة تجعلنا نعتقد أن مصر ستكون الدكتاتورية التالية التي تمارس المنهج ذاته في التعامل إذا ما حدث انتشار وبائي للفيروس على ضفاف النيل.
يقول مدير منظمة الصحة العالمية إن منظمته تتعامل مع وضع غامض وغير مسبوق. ودول مثل مصر التي تولي الأهمية الأكبر للسيطرة على ما يتداوله الناس، تجعل مواجهة هذا الخطر أصعب.
تنهمر الأخبار المقبضة من مختلف أنحاء العالم كل يوم. يوم الثلاثاء الماضي أعلن مدير منظمة الصحة العالمية أن نسبة الوفيات بين المصابين بالفيروس التي كانت تقديراتها تدور حول 2.3%، هي في الواقع 3.4%، ورغم ذلك قد تكون هذه المعدلات أقل من الحقيقة، لاحتمال وجود العديد من الحالات غير المكتشفة وغير المسجلة. هذه النسب تقع في كافة المجموعات العمرية، ولكن المجموعات العمرية الأكبر التي تصل أعمارها من بين 70 – 79 وثمانين عاماً، ترتفع فيها نسبة الوفيات لتصل إلى 10 إلى 15 بالمئة على الترتيب.
من المخيف أن الخبراء يقارنون موجة كورونا الحالية بوباء الأنفلونزا الذي اجتاح العالم في 1957 وخلف وراءه مليون ضحية. ورغم محاولات تخفيف الذعر، فإن الأسواق العالمية، وخاصة البورصة الامريكية، لا تزال تعاني انخفاضات مزلزلة تصل لعدة نقاط قياسية يومياً. وحتى عندما تدخل بنك الاحتياطي المركزي الأمريكي في محاولة لتهدئة انهيار الأسواق، فإن مؤشر الأسهم الصناعية الامريكية داو جونز استمر في الانخفاض حتى وصل متوسط هبوط 785 نقطة يوم الثلاثاء.
كل ما علينا هو أن ننظر إلى الصين أو إيران لنتعرف على خطورة وصول فيروس مميت إلى أراض يحكمها نظام قمعي
يستمر الفيروس في كسب أراض جديدة على المستوى الدولي، مع نقاط ساخنة نشطة وبائيًا في الصين وإيطاليا وكوريا الجنوبية وإيران، فماذا يعني هذا لمصر وبنيتها التحتية الصحية المتداعية إلى حد كبير؟
توفِّر مصر نصف سرير لكل 1000 مواطن في مستشفياتها ذات الحالة المتراجعة، قارن هذا بإسرائيل التي تملك 3.3 سرير لكل 1000 مواطن. ليس هذا من قبيل المصادفة، تنفق مصر ما يزيد قليلاً على 4% من الناتج المحلي الإجمالي سنويًا على قطاع الصحة، في انخفاض حاد عن المتوسط العالمي الذي يبلغ 10% بحسب تقارير البنك الدولي. لذا فإن ظهور وباء عالمي مثل الذي يتهدد العالم الآن؛ يكشف عن التفاعلات السياسية الداخلية للمجتمعات المختلفة، مصر ليست استثناءً. يتم اختيار العديد من الوزراء بناء على ضعفهم وقابليتهم للتماهي مع المطلوب منهم دون جدال، لا بناء على الكفاءة والخبرة، لتتحول الوزارات المختلفة إلى مجرد كيانات تنفذ سياسات الدولة العميقة. ومع السيطرة التامة على الإعلام، فإن هاتين الرافعتين (الوزارة الضعيفة والإعلام الخاضع) يسهلان السيطرة على الرأي العام والتلاعب به في هذا المنعطف الخطر. إن فكرة سيطرة النظام على كل شيء أياً كانت خطورته هو قلب فكرة الدكتاتورية، لكن الفيروس قادر على قطع الطريق على ذلك التحكم المطلق، لكونه لا يخضع لأي سيطرة. وفي هذا تتماثل مصر مع إيران. لخصت نيويورك تايمز الأمر بأحسن ما يكون هذا الأسبوع عندما كتبت حول تحكم البارانويا والسرية في رد فعل الحكومة. بالنسبة للنظم القمعية؛ فإن التحكم في المعلومات لا يقل أهمية عن الفيروس الذي تحاربه.
يستمر الفيروس في كسب أراض جديدة على المستوى الدولي، مع نقاط ساخنة نشطة وبائياً في الصين وإيطاليا وكوريا الجنوبية وإيران، فماذا يعني هذا لمصر وبنيتها التحتية الصحية المتداعية إلى حد كبير؟
عندما منعت قطر دخول المواطنين المصريين إلى أراضيها زادت من تركيز الشكوك المتزايدة حول ما يحدث في مصر، وإلى أي مدى قد تكون الحكومة المصرية تتلاعب وتخفي معلومات حول انتشار الفيروس بين مواطنيها. الكويت وأنجولا تبعا قطر في إعلان المواطنين المصريين زواراً غير مرغوب فيهم. لا يمكن أن يحدث هذا إلا إن كانت هناك أسباب تدعو للقلق.
مصر، الدولة التي يقطنها 100 مليون مواطن لم تبلغ سوى عن ثلاث حالات من الإصابة بفيروس الكورونا الجديد حتى اللحظة، بينهم مصري واحد. رغم أنه من المثير للقلق أن عدة دول منها فرنسا وكندا والولايات المتحدة وتايوان أعلنت جميعها عن حالات لمواطنين عادوا من مصر مصابين بالفيروس. السؤال المحوري هنا واضح جداً: كيف يمكن أن تكون هناك 10 حالات على الأقل من الإصابة بفيروس شائع ذي صفة وبائية بين مسافرين قادمين من مصر، وفي نفس الوقت لا يكون في مصر حالات أكثر مما اعترفت به؟ بالإضافة لهذا، لو أن عدداً كبيراً هكذا من الاجانب كانوا حاملين للفيروس وتجولوا في مصر بحرية خلال إقامتهم دون حجر صحي، كيف يمكن ألا يصاب من خالطوهم بالفيروس وكيف لم تثبت إصابة أي منهم حتى الأن؟ في نيويورك على سبيل المثال عندما ثبتت إصابة محام بالفيروس وكان مصدر إصابته غير معروف كان أول سؤال وجه إليه هو: من هم الناس الذين كان على تواصل معهم؟
في اليوم التالي، (4 مارس) أعلن عن تسبب الرجل في عدوى زوجته وابنه وابنته وأحد جيرانه. ورغم هذا، يمكن تلخيص رد فعل الحكومة المصرية بموقفين يدعوان للدهشة والصدمة: أولهما توجه وزيرة الصحة المصرية هالة زايد إلى الصين لإيصال شحنة من المساعدات الطبية، بالإضافة إلى تصريح في صحيفة شبه حكومية تطنطن بكون "مصر تسبق فيروس كورونا بخطوة". ما الذي تخفيه الحكومة المصرية؟ المسألة في جوهرها هو غياب الشفافية والتخطيط، وهما عنصران متزاوجان ولا ينفصلان عن بعضهما البعض.
ناشط حقوقي مصري أثار شهقات الفزع في مطلع الأسبوع الماضي عندما تساءل عن حقيقة وجود 25 حالة إصابة محتملة بالفيروس محتجزة بالمستشفيات العسكرية. دقة وتحديد السؤال كانا مدعاة للقلق، حيث أشار إلى وجود خمس حالات في مستشفى طنطا العسكري وحدها ثلاثة منهم ينتمون لعائلة واحدة (بحسب ادعاء ذاك الناشط).
وهناك سؤال آخر لا يقل مشروعية، يتصل بقدرة منظمة الصحة العالمية على الإطلاع على ما يدور في المستشفيات العسكرية والشرطية وفحص سجلاتها. في دولة بوليسية مثل مصر، كل ما يختص بالجيش والشرطة من قريب أو بعيد، يبقى خفياً وغامضاً مثل سر التحنيط. وكما قادت سرية إيران إلى بارانويا سواء داخل أروقة الدولة العميقة أو بين المواطنين. في استفتاء غير رسمي على عينة غير ممثلة من الجمهور حول رؤيتهم لمعالجة الحكومة للأزمة المحتملة، لم تكن هناك مفاجأة في أن يرى 82% من 150 مشارك بعد 30 دقيقة فقط من بدء التصويت، أن النظام يكذب بخصوص حقيقة انتشار الكورونا في مصر، بينما رأى 18% فقط أن سياسة الحكومة صحيحة. رغم أن هذا الاستفتاء غير علمي؛ إلا أنه يعكس الفقدان المخجل للثقة بين شركاء هذا البلد.
تعرف الحكومة هذا، وفي وقت مبكر من الأسبوع الماضي خرج رئيس الوزراء مصطفى مدبولي للناس بتصريحات صحفية يأمل من خلالها في نفى الاتهامات الموجهة للحكومة بالتعتيم ويصفها بأنها شائعات؛ بينما ظلت ندرة المعلومات وغياب التعليمات الوقائية واختفاء المصادر الطبية يذكون نيران الخوف والشك. المثير للسخرية والعجب، أن رحلة وزيرة الصحة إلى الصين لم يكن لها معنى سوى محاولة للحصول على معلومات من الدولة التي ضربها الفيروس بقوة والأكثر خبرة في مكافحته، كما أظهرت الزيارة أن مصر ليس لديها المعدات المخصصة للكشف عن الفيروس، وهي أهم أدوات مواجهته. أهدت الصين 1000 مجموعة اختبار كورونا لمصر، وضخمت الصحافة المحلية من الحدث، مع إصرار على تجاهل السؤال الواضح: كم مجموعة اختبار كورونا تملكها مصر؟ وهل العاملين بالخدمة الصحية مدربون بشكل كافي على التعامل مع هذه المعدات واكتشاف الفيروس؟
لنطرح هذا بطريقة اخرى: عندما لا تقدر 80% من المستشفيات العامة على تحمل إجراء جراحات القلب والكلى والكبد، فلن يكون من العدل أن ننتظر من مؤسسة الصحة العامة المتداعية هذا ان تواجه فيروس فتاك سريع الانتشار كهذا. وبينما يوفر حكم البلاد على طريقة كرويا الشمالية التحكم الكامل في السردية التي تخرج للعامة ويتداولونها؛ لكن الجانب الاقتصادي والسياسي لطريقة الحكم نفسها، يواجه هذه السردية المهيمنة بجدل قاتل. بوضوح: غياب التخطيط وتواضع الانفاق على الصحة، سيعرقل أية جهود لكشف وعزل وعلاج فيروس كورونا.
لو كنت تشك في هذا الطرح، فلنستعد تاريخ مواقف مصر الرسمية السابقة التي تشكل عمودًا فقريًا لما يحدث الآن. في 1967، وبينما كانت إسرائيل تدك القوات الجوية المصرية، كان الإعلام المصري يتفجر تصريحاتٍ حماسية حول انتصارات مصرية متخيلة. وصارت "صوت العرب"، أشهر محطة إذاعية تنطلق من مصر، معروفة بـ"الكذبة الكبيرة" بسبب "الانتصارات الكاذبة" التي حملتها موجاتها للجمهور.
وفي وقت أقرب، فإن عملية الكذب الكبرى التي تجري في سيناء يتجسد فيها منهج "الثقب الاسود للمعلومات" الذي تتبعه أجهزة الحكم. فعلى الرغم من أن أجهزة الإعلام التي باتت خاضعة للسيطرة التامة للدولة دأبت على تكرار أن سيناء ستستقر تحت الإدارة الكاملة للحكومة خلال أشهر؛ فإن اجهزة الإعلام الغربية نشرب قصصا مهمة حول تفوق الإرهابيين على الجيش المصري. لا يمكننا إغفال دور الدعاية السلبية في التقليل من شأن واثر الرواية الحكومية فيما يتعلق بمواجهة كورونا؛ الناس لا تشتري الاكاذيب التي تبيعها لهم الحكومة.
ومع ذلك، فمن الواضح مع قلة المعلومات المتوفرة فمن المستحيل إثبات أن هناك حالات كورونا جرى إخفاؤها عمداً عن الناس. ولكن هناك أمران لا يقلان وضوحاً وصحة: الدكتاتوريات المماثلة لمصر لديها أسباب عديدة لإخفاء انتشار محتمل للكورونا، وأن مصر ليست مجهزة للتعامل مع هذا الانتشار المحتمل.
أخيراً خلال الساعات القليلة الماضية، أعلنت إصابة أول مصري بالفيروس، وعزل مصري آخر. في هذه الحالة الصمت ليس من ذهب على الإطلاق.
لنتذكر كلمات خبير الأوبئة الامريكي جيرمي كونيندايك: "الشفافية فيما يختص بعدد الحالات مسألة مهمة جداً، لا يمكنك أن تقاتل عدواً لا تراه".
لو تراجعت الأمور سريعًا، فإن حتى النظم التي تشبه نظام السيسي سيكون عليها إما اتباع الشفافية أو الموت. ولكن الآن، لننتظر.. ونخاف.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...