شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
أغلقت حلقات مصارعة الثيران وبيوت الدعارة وحانات الجعة... أول مدينة معزولة في التاريخ

أغلقت حلقات مصارعة الثيران وبيوت الدعارة وحانات الجعة... أول مدينة معزولة في التاريخ

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 31 مارس 202010:49 ص

تبدو فكرة الحجر الصحّي على الأشخاص أمراً طبيعياً نتيجة الأمراض المعدية، لكن أن يحجر صحياً على المدن كما حدث في ووهان الصينية، فهو تخييل ديستوبي من عمل قصص وأفلام الخيال العلمي، إلا أن الأمر أبسط من ذلك، فهو واقع جرى في تاريخ الإنسان، له تفاصيله المختلفة عما يحصل الآن، ولكن بنفس الأهداف: أن يتم وقف انتشار المرض.

يرتبط الحجر الصحي بمرض الطاعون الدّملي الذي لم يكتشف الجرثوم المسبّب له حتى تسعينيات القرن التاسع عشر، على يد الطبيب الألماني روبرت كوخ. ومع ذلك بدأت المدن الإيطالية ومن بعدها الدول الأوروبية منذ القرن الرابع عشر الميلادي، بتطبيق إجراءات الحجر الصحي: تحديد انتقال السكان، دفن الموتى بالجير الحي والتخلّص من مقتنياتهم، عزل مرضى الطاعون في مستشفيات خاصة، فرض الضرائب لتقديم الخدمات الصحية وتقديم المعونة لمن أصابهم المرض.

اكتشف روبرت كوخ مفهوم العدوى الوبائية التي على أساسها بُني علم الأوبئة ومفهوم الحجر الصحي كما نعرفه الآن، إلا أن الحجر الصحي سبق مفهوم العدوى الوبائية، فكيف حدث ذلك؟

الرازي وابن الخطيب

قبل أن نخوض في استفسارنا السابق، لابدّ من القول بأن الرازي ذكر في كتابه "الحاوي" بأن الجذام يعدي، ولقد قسّم الرازي المرضى في مشفاه إلى قسمين كي يوقف انتشار المرض والعدوى.

كذلك فعل الطبيب الأندلسي ابن الخطيب، الذي عاصر طاعون 1384 وقد كتب متسائلاً: "فإن قيل كيف نسلّم بالعدوى وقد ردّ الشرع بنفي ذلك! قلنا: لقد ثبت وجود العدوى بالتجربة والاستقراء والحس والمشاهدة والأخبار المتواردة. ولا يخفى أن من يخالط المصاب بهذا المرض يهلك ويسلم من لا يخالطه. إن المرض يقع في الدار والمحلّة من ثوب أو آنية، فالقرط يتلف من علّقه بأذنه ويبيد البيت بأسره ومن البيت ينتقل المرض إلى المباشرين ثم جيرانهم... أما مدن الساحل فلا تسلم إن جاءها المرض من البحر عن طريق وافد من مدينة شاع عنها خبر الوباء".

ردّاً على النظرة الخاطئة للعدوى في زمنه، كتب ابن الخطيب الأندلسي "فإن قيل كيف نسلّم بالعدوى وقد ردّ الشرع بنفي ذلك! قلنا: لقد ثبت وجود العدوى بالتجربة والاستقراء والحس والمشاهدة والأخبار المتواردة. ولا يخفى أن من يخالط المصاب بهذا المرض يهلك ويسلم من لا يخالطه..."

وقد كتب الوزير الطبيب ابن الخطمية في مدينة غرناطة: "إن نتائج تجاربي الطويلة تشير إلى أن من خالط أحد المصابين بمرض سار، أو لبس من ثيابه ابتلى مباشرة بالمرض".

من خلال الأمثلة السابقة، نرى أن مفهوم العدوى الوبائية كان قد تم اكتشافه من قبل الأطباء العرب، فلماذا لم يتم تطبيقه على الرغم من الجوائح الوبائية التي تعرضت لها المنطقة العربية؟ للحقيقة كان محمد على باشا هو أول من طبق الحجر الصحي في مصر، في جائحات الطاعون التي ضربتها خلال حكمه.

نستطيع أن نستنتج من ردّ ابن الخطيب، بأن الشرع قد نفى تلك العلاقة بين المرض والعدوى، وبذلك يكون الشرع الإسلامي أحد الأسباب الرئيسية في منع تطوير علم الأوبئة.

مدن إيطاليا المستقلة

لم يكن الأوروبيون في القرن الرابع عشر أكثر تقدماً، فأفكار جالينوس الطبية عن المياسما "الأبخرة الفاسدة" وحركة النجوم كمسببات للمرض، كانت هي السائدة، مع مزيج من فلسفة أفلاطون وأفلوطين والديانة المسيحية وفكرة الخطيئة الأساسية، وكلها تعتمد على الفكر النظري وتستبعد التجريب والاستنباط، ومع ذلك طبقت مدن إيطاليا ومن بعدها أوروبا إجراءات الحجر الصحي!

ضرب طاعون 1347- 1351 كلاً من أوروبا، آسيا الغربية وشمال إفريقيا، وقد أودى بحياة 24 مليون إنسان في أوروبا لوحدها، واستمر الحال على هذا المنوال عبر هجمات متتالية حتى عام 1450، حيث بدأت الوفيات في أوروبا بالانخفاض عن غيرها من مناطق العالم القديم.

استدعى هذا الطاعون من حكام المدن الإيطالية والأوروبية تطبيق مفهوم النظام الذي يبرر التدخل في حياة الناس خلال الوباء: بداية، وفق نظرية الأبخرة الفاسدة قاموا بتنظيف الشوارع من القاذورات، ومن الناحية الأخلاقية، طردوا العاهرات واليهود كمسببين بصلب المسيح، ومن ثم غادروا مدنهم أيضاً، وأقاموا صلوات عبر مسيرات طلب الغفران من الإله الغاضب، ومع أن إجراءات طرد العاهرات واليهود ومسيرات طلب الغفران لم تقلل من عدد الموتى، إلا أنها دفعت إلى الواجهة الجدالات التي كانت تتم بين أصحاب الأفكار القديمة من رجال لاهوت، وأطباء وأصحاب الأفكار الجديدة، من حكام المدن الإيطالية والأطباء التجريبيين الذين بدأوا بالتشكيك بكل المعرفة القديمة.

أنشأ حكّام المدن المجالس الصحية التي لعبت دوراً مهماً في الحدّ من هجوم الطاعون، لكن تلك المجالس كانت تشهد مقاومة من رجال الدين والشعب، فالبابا إربان الثامن قاطع مجلس فلورنسا الصحي لمنعه مواكب الاستغفار للإله الغاضب، ومع ذلك فرضت تلك المجالس سطوتها، ففي طاعون1567 طبق مجلس مدينة باليرمو في صقلية الشعار التالي: "الذهب والنار والمشنقة"، الذهب لدفع تكاليف الحجر الصحي، النار لحرق البضائع المشكوك في أمرها والمشنقة للفقراء الذين يتحدون سلطة المجلس الصحي.

قامت المجالس الصحية بإغلاق الأماكن المعتادة للاختلاط الاجتماعي، مثل أماكن مصارعة الديوك وحلقات مصارعة الثيران وبيوت الدعارة وحانات الجعة...

في فترات الطاعون في القرن الخامس عشر، قامت المجالس الصحية للمدن الإيطالية بإغلاق الأماكن المعتادة للاختلاط الاجتماعي، مثل أماكن مصارعة الديوك وحلقات مصارعة الثيران وبيوت الدعارة وحانات الجعة...

في إنكلترا بعد عام 1578، أغلقت الحكومة البيوت على المصابين، وكانت توضع لهم الأطعمة في السلال التي تتدلى من النوافذ، وكان من الممكن شنق أي شخص يتجرأ على معارضة الحجر الصحي إن وجد في الشارع. وقد تم نقل المصابين إلى أكواخ خارج المدينة، وأنشئت مبان من أجل المصابين بالطاعون كي يحجر عليهم. لم تكن الأمور بهذه النظرة الوردية، فقد خلّفت الكثير من المآسي والموت، فقد كتب الكاردينال سبادا معلقاً على حال مشفى للأمراض المعدية في بولونيا: "هنا أنت محاط بروائح لا تطاق... لا تستطيع المشي سوى بين الجثث... وهذه صورة طبق الأصل عن الجحيم".

أول مدينة معزولة في التاريخ

أول عزل لمدينة حدث في التاريخ كان على يد برناردو فيسكونتي، حاكم ميلانو عام 1374، فقد أمر بعزل مدينة "ريجيونيل إميليا" المبتلاة بالطاعون والتي تبعد عن ميلانو 150كم، وطوقها بالجنود، وأمر أن يقتل كل من يحاول أن يهرب منها. كان هذا الأمر قبل أن تصبح إجراءات العزل والحجر متواترة في كل المدن الإيطالية، ومن ثم رتب بأن يطلب جواز عبور صحي يثبت عدم إصابة المسافر بالطاعون، وقد طبقته مدينة فلورنسا واستقدمت هذا الإجراء أرملة هنري الرابع في فرنسا.

كل ذلك حدث ولم تكن تُعرف آلية انتقال الطاعون بعد، لكن النتائج الجيدة لإجراءات العزل كانت مبشرة، لذلك اعتُمدت. وفي القرن السابع عشر بدأ تطبيقه في أكثر البلاد الأوروبية، فقد نجت مدريد، على الرغم من رائحتها القذرة كما كان يعرف عنها، من الطاعون عبر الحجر الصحي، وبذلك أسقطت نظرية المياسما من الحسبان.

بعد أن وضعت الحرب أوزارها في البلقان بين العثمانيين والنمسا، أقام النمساويون منطقة عزل للتحكم بالطاعون، غطّت حوالي نصف إقليم سلوفينيا وكرواتيا، ووفرت العمل لأربعة آلاف من القوات المسلحة التي كانت تملك الحق بإطلاق النار على من يتسلّل ولا يخضع للكشف على الجسد والعزل الصحي لمدة 48 يوماً.

بهذه الطرق استطاعت أوروبا أن تحمي نفسها من الطاعون!

والآن إذا أردنا أن نرى تاريخ الطاعون في غرب آسيا وشمال إفريقيا، لنأخذ ما قاله الكسندر كينجلاك عام 1836: "القاهرة والطاعون! كان الطاعون سيد المدينة طوال فترة إقامتي، وظهر الخوف في كل شارع ومدينة... يمتلك المشرقيون، على كل حال، حظاً وافراً أكثر من أوروبا تحت بلوى هذا الطاعون... في مدن الموت نصبت الخيام، وعلقت المراجيح لتسلية الأطفال – عيد كئيب- لكن المسلمين تباهوا... في اتباعهم لعاداتهم القديمة غير عابئين بالموت".

لن نحاكم هذا الانطباع الذاتي، لكن محمد علي باشا عبر فترات حكمه، استقدم أسلوب الحجر الصحي، واستطاع عام 1844 من وقف اجتياح الطاعون لمصر كل مرة.

كل ذلك حدث قبل روبرت كوخ واكتشافه للجراثيم، لكن الغريب أن إيطاليا التي تملك تاريخاً في الحظر الصحي لم تتعلّم من تاريخها على ما يبدو الكثير، فأصبحت في المرتبة الأولى في انتشار وباء كورونا، في حين الصين قرأت التاريخ جيداً، وها هي ووهان تقضي على الوباء في قلب دارها، فهل تستلهم الدول العربية تجربة محمد علي باشا بشكل كامل قبل فوات الأوان.

ملاحظة: كُتب المقال بالاستناد إلى كتاب: الأوبئة والتاريخ- المرض والقوة والإمبريالية، تأليف شلدون واتس، ترجمة وتقديم، أحمد محمود عبد الجواد.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image