مساكين أولئك المبهجون بلا غاية ربحية، مساكين حتى في وداعهم، يتآمر عليهم العالم بظروفه المادية والصحية أحياناً، والوبائية أحياناً أخرى... وها هو جورج سيدهم، صديق ضحكنا الطفولي، يرحل اليوم بأحد مستشفيات مصر الجديدة، عن عمر 82 عاماً، وذلك قبل دقائق قليلة من حلول وقت تطبيق حظر التجول في السابعة مساء، بسبب تفشي وباء كورونا، تاركاً عالماً عانى فيه سنوات عمره الأخيرة، بين المرض والعجز واعتزال الناس قهراً، ليطبق عليه الحظر حياً وميتاً، وليودعه أحبابٌ قليلون من أهله، ويُحرم الباقون من جمهوره من إلقاء السلام عليه، حيث تُغلق قاعات العزاء وتقتصر الجنازات على أسرة المتوفى فقط، على أن تقوم كل أبرشية بتخصيص كنيسة واحدة للجنازات، وتُمنع الزيارات إلى جميع أديرة الرهبان والراهبات، حسبما يقتضي الوباء العالمي من فروض العزل الصحي والتباعد بين الناس، وبحسب قرارات السلطات المختصة.
قطعة أخرى من طفولتنا تموت... لنقول له عن بُعد: "إلى لقاء في عالم أقل غدراً وتباعداً وقسوة".
البدايات والنهايات وجهاً لوجه
كنا في الصغر نسعد بأفلام الظهيرة في التلفزيون المصري، خاصة الأفلام الكوميدية، وكان أطفال الحي لا تردهم الشمس من الشوارع إلى بيوتهم إلا تحت إلحاح فيلم لأحد أبطالهم المفضلين: إسماعيل يس، عبد الفتاح القصري، الضيف أحمد أو جورج سيدهم.
كان من بين الأسماء التي تُعيدنا قسراً إلى بيوتنا، معجبين بتكوينه الهُلامي المكوّر، والذي استغله ليتحّول إلى أيقونة بصرية في السينما والمسرح المصري، كان يمثل لذة الأكل التي تفجر آبار الضحك.
لمع كنجم لفرقة "ثلاثي أضواء المسرح" بجوار "الضيف" و"سمير" في ستينيات القرن الماضي. لم يحظ بنجومية مطلقة لعمل منفرد، لكنه بقي في دائرة الضوء في مخيلة جيل كان يضحك لمجرد ظهوره العابر. ما كان لأحد أن يمنعنا من أن نضحك عليه، ونشاركه النظرة وشهوة الأكل، في زمن كان أغنى وألذ مما نحن فيه، لكن فيروساً قاتلاً لا تراه عين يمنعنا الآن حتى عن صلاة وداعه، حيث لا كنائس ولا مساجد مفتوحة الأبواب الآن في مصر، كما انتقلت طقوس التجنيز من حيز الشعبي إلى حيز أضيق بحضور الأهل فقط، الذين ربما يُعدون على أصابع اليد الواحدة، إذ اتخذ الأزهر والأوقاف والكنيسة في مصر، قرارات بوقف الصلوات الجماعية، السبت الماضي 21 آذار/ مارس 2020، وذلك لمدة أسبوعين، لتلحق مصر بحكومات دول مجاورة اتخذت مثل هذا الإجراء، وعلى رأسها السعودية التي علقت الصلاة في الحرمين، لمواجهة الموت المحمول على ظهر الفيروس المسمّى "كوفيد 19".
كان من بين الأسماء التي تُعيدنا قسراً إلى بيوتنا، معجبين بتكوينه الهُلامي المكوّر، والذي استغله ليتحّول إلى أيقونة بصرية في السينما والمسرح المصري، كان يمثل لذة الأكل التي تفجر آبار الضحك
جلطة من أخ
في مستشفى صغير بحي مدينة نصر شرق القاهرة، أصيب جورج سيدهم بأول جلطة له في تسعينيات القرن العشرين، لم تكن بسبب إجهاد العمل، لكن بسبب الحزن والغدر، حيث حكى الفنان سمير غانم لبرنامج "شيخ الحارة"، أن شقيق جورج استولى على ممتلكاته، وأموال فرقة "الثلاثي" التي كان يديرها الراحل، وفرّ هارباً إلى الولايات المتحدة.
كم قاسية تلك الحياة على شخص لم يكن يدير سوى سلعة الضحك، بأن يضحك عليه أخوه- إن صحّت الرواية- من أجل بضعة أشياء زائلة.
نعود إلى الضحك... نعود إلى جورج
لا يمكن فصل الكوميديان في أحيان كثيرة عن المادة التي يخلقها، فالمُضحك وضحكه روحان في جسد، يصعب استخراج هذا من ذاك، لذا أعتبر أن جورج هو الضحك نفسه وليس المُضحك، وليس أدل على ذلك من مشهد أكل البيض الشهير في مسرحية "المتزوجون"، والذي يحكيه سمير غانم عن رفيق مسرحه وعمره، فالمتأمل للمشهد لا يعرف من أين يأتي الضحك، هل من تلك الزوجة المهووسة بخدمة معدة زوجها "حنفي"، بطل المسرحية؟ هل من استسلام الزوج الفقير لالتهام قطع البيض المفروضة عليه من زوجة لا تدرك للحياة أي معنى خارج حدود شهوة الأكل؟ أم أن جورج نفسه هو نتاج هذا الضحك وتفاعلاته؟ وأحاول أن أتخيل أن ممثلاً آخر حلّ محل جورج في المسرحية: هل كنا سننعم بوجود مثل هذا المشهد الحزين الهزلي؟ لعل في الحزن شيئاً من الكوميديا أو هو وجهها المبتسم.
ما كان لأحد أن يمنعنا من أن نضحك عليه، ونشاركه النظرة وشهوة الأكل، في زمن كان أغنى وألذ مما نحن فيه، لكن فيروساً قاتلاً لا تراه عين يمنعنا الآن حتى عن صلاة وداعه، حيث لا كنائس ولا مساجد مفتوحة الأبواب الآن في مصر
بَصَلة الحياة الأولى
حين وُلد في سوهاج بصعيد مصر في 28 أيار/ مايو 1938، ظنّ أهله أنه "ميت" لأن ولادته كانت متعثرة، وقد حكى الفنان جورج سيدهم، خلال لقائه مع الإعلامي طارق حبيب، في برنامج "اثنين على الهواء"، إنه وُلد صامتاً دون حركة، فوضعته القابلة تحت الفراش، ثم دخلت إحدى الجارات إلى الغرفة بعدها، وقامت بشق بصلة ومرّرتها تحت أنفه، فما كان منه إلا أن صرخ معلناً أنه لا يزال حياً.
في نيسان/ إبريل عام 1970، رحل فجأة الضيف أحمد، الضلع الأهم في فرقة ثلاثي أضواء المسرح، ليتحمل جورج مسؤولية إدارة الفرقة. مات الضيف قبل أن يكمل تصوير فيلم "لسنا ملائكة"، فودعه صديقه جورج بكلمات مؤثرة في مشهد ختامي بالفيلم:
الآن مرّت السنوات، لتكون هذه آخر مرة نرى فيها جورج سيدهم.. قطعة أخرى من طفولتنا تموت... لنقول له عن بُعد: "إلى لقاء في عالم أقل غدراً وتباعداً وقسوة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...