ليس كوميدياناً بالمرّة.. بل مطرباً لا يعرف النشاز إلى صوته طريقاً.. ربما يكون ذلك الحكم صادماً لمحبي الراحل الخفيف إسماعيل يس، لكن هل يمكننا أن نتماهى مع أحكام الماضي دون تفنيد ما أدى إليها؟ هل كل مَن أوتي فتحة فم كبيرة نُحيله إلى قسم الضحك؟ بهذه الأحكام السطحية وما شابهها وجب أن يكون صلاح جاهين ممثلاً فكاهياً لا شاعراً ولا رساماً ولا سيناريست..
قد تستغرب ذهنية الجمهور حالياً تقبّل إسماعيل يس مطرباً عاطفياً مثلاً، وتفسير ذلك يرجع إلى أن الجمهور تم تغذيته باطنياً عبر سنوات أن إسماعيل يس له معادل موضوعي وحيد يتمثل في ملامحه "المشلفطة" و"بُقه" الواسع، لكن عقل الجمهور كان من الممكن إطعامه مدخلاتٍ أخرى في سيناريو آخر، لم يحدث للأسف، ساعتها كان الجمهور لن يرى ملامحه الباعثة على الضحك، تماماً مثلما حدث مع محمد قنديل وعبد العزيز محمود ومحمد عبد المطلب، ومن قبلهم زكريا أحمد وعبد الحي حلمي، الذين لم يكونوا "يتمتعون بأي قدرٍ من الوسامة" حسب "معايير جمال ما"، هي بغالبيتها ظالمة.
استمعوا مثلا هنا لأداء "إسماعيل" وهو يغني مطلع أغنية "في يوم من الأيام" بحضور مطربها الأصلي، عبد الحليم حافظ، لتروا كيف يؤدي "سُمعة" لحناً عاطفياً مؤثراً بمهارة تكاد تكون مثالية وربما تتفوق على "حليم" ذاته، بشرط أن تفصلوا أداءه الصوتي عن الحالة الفكاهية التي أحاطت به ظلماً وأخرجته من سياقه الطربي:
هذا المجهول الذي أشار على إسماعيل يس، القادم من مدينة السويس إلى القاهرة حالماً بأن يكون منافساً لمحمد عبد الوهاب في عالم الطرب، يجب محاسبته، وأمثاله في كل زمان، على إفقادنا حنجرة مهمة كانت جديرة بأن تنضم إلى سلسلة أهم مطربي العصر، فـ"إسماعيل" كان خامة صوت مطلوقة في الفضاء، لا يعتمد على الأداءات المستعارة، وقد سألتُ بعض الأكاديميين عن تصنيف "سُمعة" –أحد أسماء شهرته – كمطربٍ متكامل، فأجمعوا على أن الرجل تعلم الموسيقى وكانت له تجارب تلحين اعتمد فيها على آلات الإيقاع التي ناسبت مونولوجاته الساخرة كأنه ناقد اجتماعي.. وقالوا إنه صوت تطريبي من العيار الثقيل، لم يخطئ خطأ واحداً في قفلةٍ أو جمل مُعقدة، خاصة حينما جاور صوته أصواتاً مدربة مثل محمد فوزي وشادية وسعاد مكاوي.
لعنة السوق ولقمة العيش
من الذي جعل من إسماعيل يس كوميدياناً فقير الحركات ومنعه من الغناء كأي مطرب موهوب؟ ولماذا؟
الابن الوحيد لصائغ ميسور الحال، المولود عام 1912 في شارع عباس بمدينة السويس، شرق دلتا النيل، اتجه إلى القاهرة في عمر 17 سنة، بداية ثلاثينيات القرن العشرين، ومعه 6 جنيهات سرقها من جدته، آملاً في تحقيق حلم عمره بأن يكون مطرباً، لكنه حين ضاقت به الحال وخسر الـ6 جنيهات سريعاً، عمل صبياً بأحد مقاهي شارع محمد على بوسط القاهرة وأقام بفنادق شعبية صغيرة، ثم التحق بالعمل مع الأسطى "نوسة"، أشهر راقصات الأفراح الشعبية وقتها، لكنه تركها ليعمل وكيلاً بمكتب محامٍ، ثم عاد يفكر في حلمه الفني فذهب إلى بديعة مصابني، صاحبة الكازينو الشهير على نيل العاصمة المصرية، بعد أن دعمه توأمه وصديق عمره وشريك رحلة كفاحه، المؤلف الكوميدي الفتلة أبو السعود الإبياري، لكن قبلها كان قد تم تصنيفه عقب فرح أحياه بأن ملامحه ستساعده على أداء المونولوجات الفكاهية، وعليه أن ينسى مسألة الطرب هذه إلى الأبد... للأسف انصاع "إسماعيل"، تحت وطأة الحاجة إلى لقمة عيش، وسمت الرضا بما أتيح له نتيجة تكوينه غير الصُّلب، وتمثلت له العودة إلى السويس مهزوماً شبحاً أخافه من ترك القاهرة، وقبل أن يكون على هامش النجوم، ولعل عبد الوهاب قد ارتاح - من قبيل الفكاهة - بأن تم عزل منافس له قبل أن يبدأ السباق أصلاً.
قد يستغرب الجمهور حالياً تقبّل إسماعيل يس مطرباً عاطفياً مثلاً، وتفسير ذلك يرجع إلى أن الجمهور تم تغذيته باطنياً عبر سنوات أن إسماعيل يس له معادل موضوعي وحيد يتمثّل في ملامحه "المشلفطة" و"بُقه" الواسع
ذاك الذي وجّه إسماعيل يس إلى الكوميديا أفقدناً مطرباً فذًّاً، وضمّ إلى الكوميديا ممثلاً ضعيفاً ذا حركاتٍ محدودةٍ بالشفتين والعينين، أدت في النهاية إلى انطفاء نجمه ونهايته المأساوية حين أفلست كوميدياه بظهور مَن هم أكثر موهبة
ما أسهل أن تُقولب إنساناً في وظيفة ما
حتى لو لم يكن "إسماعيل" يملك ما يجعله متماهياً مع مكانه هذا، فقوانين التكيف ستحدد سلوك الكائن عبر شحن آلة التصديق، التي تجبره على التحور لوناً وتركيباً، ليواري سوأة اختلافه عن عالم لفظ تكوينه الأصلي.
ذاك الذي وجّه إسماعيل يس إلى الكوميديا ارتكب جريمة، أفقدناً مطرباً فذًّاً، وضمّ إلى الكوميديا ممثلاً ضعيفاً ذا حركاتٍ محدودةٍ بالشفتين والعينين، أدت في النهاية إلى انطفاء نجمه ونهايته المأساوية حين أفلست كوميدياه بظهور مَن هم أكثر اطلاعاً وموهبة وحيوية، لكنها لعنة الأسواق يا "سُمعة"، فأحياناً تحتاج إلى من يسدّ ثغراتها، بغض النظر عن "هل هو الشخص المناسب لذلك أم لا؟"، كما أنها أخطاء توجيه المواهب في مصر، وغياب المؤسسات، والركون إلى معايير سوقٍ هش، وهذا ما يجعل الموهوبين لقمةً سهلةً أمام آلة النهش، وبتلك الآلة خضع إسماعيل يس في نهايات حياته إلى أن يقبل بالظهور في إعلان نظارات شمسية مقابل مبلغ كبير كان هو بالتأكيد في حاجة إليه، بعد الحجز على كثير من ممتلكاته بدعوى الضرائب المتأخرة، وحين حاول استغلال علاقاته بالسّلطة حينها، كانت موازين القوى قد تغيرت وثقله، كواحد من أصحاب الجماهيرية، انتهى، لذا لم يُلتفت إلى طلبه، رغم صدور قرار ناصري بمساعدته، لكن السادة المنفذين آثروا أن يقضوا عليه لأنه لم يعد تلك الدجاجة التي تبيض ذهباً... لم يعد مطلوباً في دنيا التسويق العسكري للفرد المجند وكرامة الخدمة في جيوش الأوطان، تماماً كما أطّرت نظرية "خيل الحكومة": رصاصة تنهي حياته لئلا يكون عبئاً على الحياة الاستهلاكية التي توظف الناس في غير أماكنهم، وتمتص رحيقهم، وتقضي عليهم حين تنتهي مدة صلاحيتهم.
بمَن العيبُ إذن؟
هل كان على "إسماعيل" أن يولد في صلابة ومكر عبد الحليم ليعيش ويفرض نفسه؟ طيب... ماذا سنفعل إن وجدنا موهوباً ذا سماتٍ شخصية ينقصها حُسن الإدارة؟ هل سنسحقه ونعيّنه في البوفيه؟
إن الذي فخّخ مشوار "إسماعيل" بقنابل الكوميديا ربما كان شخصية عنصرية تتهكم في تلك اللحظة على "خَلق إسماعيل"، وربما كان فاشلاً عدوَّ نجاح، أراد أن يضع الجميع في خانة أمثاله تحت شعار "ماحدش هيتعلم هنا".
نعم ابتسم الحظ قليلاً لـ"إسماعيل" ونجح.. ربح الكثير من المال في فترة قصيرة وصار ملء السمع والبصر ككوميديان يضمن للمنتجين بيع وتوزيع أفلامهم، لدرجة أنه كان يشارك في 18 فيلماً في آنٍ، علاوة على عمله بفرقته المسرحية، لكن لحظة الانهيار آتية لا محالة، فلا يمكن أن تخدع الآخرين طول الوقت... وقعت إمبراطورية سُمعة التي بنيت على إمكانياتٍ ضحك ضئيلة، بينما كان من الممكن أن يبني إمبراطورية طرب غير قابلة للهدم، لو أن المخرج وضعه في مكانه الصحيح بـ"الكاست".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...