شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
كورونا ودمشق… لأول مرة نتشارك شيئاً مع العالم

كورونا ودمشق… لأول مرة نتشارك شيئاً مع العالم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 23 مارس 202001:40 م
Read in English:

Thanks to Corona, Damascus Is Trending With The Rest of the World

لأول مرة نتشارك شيئاً مع العالم، نعيش معهم وباء عالمياً، لأول مرة نحن زملاء أوروبا والعالم المتحضر، نتشارك مآسي لا تخص موقعنا الجغرافي وحياتنا البدائية التي تجاوزها مصطلح العالم الثالث منذ زمن، أفكار قابعة بين فوضى الأفكار المُظلمة ومركبات النقص الكثيرة المختبئة في تلافيف مخ من ولد في هذه البلاد.

نوع جديد من الخوف، مختلف عما اعتدنا عليه، جديد على خبراتنا ومعايشتنا لكافة أنواع الكوارث، لم تصل إليه حتى أكثر خيالاتنا قتامة، جاء هذا الخوف ليعري شجاعتنا الزائفة، ولتتضاءل أمامه جميع الادعاءات بازدراء المصائب، على اعتبار أننا عايشنا الكثير من الأيام القاسية، ولتصبح الدعوات اليومية لقدوم النيزك باعتباره الخلاص الأخير، مجرد ترهات لا معنى لها أمام غريزة البقاء الطاغية على كل شيء، حتى في أحلك الظروف وأكثرها قسوة وبشاعة.

أفكر بالكلمات المناسبة لكل هذا الجنون، بالتأكيد ليست: "أحب دمشق هوايا الأرق"، لا زلت أحب دمشق القابعة في الذاكرة فقط، لو كان نزار قباني حياً، هل سيظل مقتنعاً بـ"أنا الدمشقي لو شرحتم جسدي، لسال منه عناقيد وتفاح؟"، وهل كان الإلهام أتى محمود درويش ليكتب: "في دمشق، ينام الغريب على ظله واقفاً مثل مئذنةٍ في سرير الأبد"؟

ربما اليوم، الكلمات الأكثر مقاربة لدمشق وهي تحاول الحفاظ على ما تبقى من كبريائها، هو ما قاله الشاعر الراحل آدم حاتم: "أقف على قمم الخسارة وأدعو الله أن يتوجني أميراً على الخراب"، ليس لدينا أغاني لتمجيد خسارات دمشق كما "وهران رحتي خسارة" أو "روحي يا وهران بالسلامة"، وهران التي أحس بخساراتها رغم أنني لم أزرها يوماً، إلا من خلال أغاني الراي الدافئة المقاربة لوجداننا المليء بالخسائر، وأشجان الغربة والوحدة والفقدان.

جاء هذا الخوف ليعري شجاعتنا الزائفة، ولتتضاءل أمامه جميع الادعاءات بازدراء المصائب، على اعتبار أننا عايشنا الكثير من الأيام القاسية، ولتصبح الدعوات اليومية لقدوم النيزك باعتباره الخلاص الأخير، مجرد ترهات لا معنى لها أمام غريزة البقاء الطاغية على كل شيء

تستمر المقارنات الشبيهة بالهلوسات، استرجاع كل سيناريوهات الرعب، ومحاولة سلسلتها حسب كمية الذعر التي تولدها ذكراها، المشاعر المنسية عند الركض هرباً، بعد سقوط القذائف الواحدة تلو الأخرى على كل حارة أغادرها، أو زخات الرصاص الاحتفالية التي رافقتني حتى الوصول إلى مدخل البناية، أو دقات القلب المرتجفة عند كل مرور اضطراري جديد في مكان التفجير الذي جرى منذ أيام، أو البحث عن المكان الواقع تماماً في منتصف البيت، لمواجهة صاروخ منتصف الليل، والجلوس على الأرض ومتابعة بوستات الفيسبوك المكررة المدهوشة دائماً من قوة الصوت وكأنها أول مرة، ولكنها تذكرنا نوعاً ما بأننا لازلنا أحياء، وستمضي الليلة كما مضت سابقاتها لتشرق شمس يوم جديد، بينما المشاعر التي يثيرها الوباء اليوم لا زالت غامضة وغير مكتشفة بعد.

ربما اليوم، الكلمات الأكثر مقاربة لدمشق وهي تحاول الحفاظ على ما تبقى من كبريائها، هو ما قاله الشاعر الراحل آدم حاتم: "أقف على قمم الخسارة وأدعو الله أن يتوجني أميراً على الخراب"

ماذا لو استمرت العزلة لأشهر؟ ما هو شكل الحياة الجديدة؟ لطالما كانت المدينة تعاني من الازدحام، ولكنه نوع من الازدحام المرافق للخواء، فالكثافة السكانية لا تعني الحياة بالضرورة، قضيت طفولتي ونصف مراهقتي في حي المزرعة الدمشقي، ورغم التصاق الإنسان عادة بالمكان الذي يشهد بداية تشكّل ذاكرته، لكنني لم أحبها يوماً، كنت أحس برودة شوارعها، برودة قاطنيها، نوافذها المغلقة وشرفاتها المخصصة للكراكيب، لم يكن فيها تلك الزوايا التي يتسكع فيها الشباب، ونادراً ما تسمع فيها صوت ضحكات الفتيات، أو أي صوت صاخب يوحي بالحياة، وكأن شوارعها قد أحيلت للتقاعد منذ زمن. ذات الشعور يرافقني اليوم، البرد القارس المخيم على كل حيّ، تلك البرودة التي تسري في الأطراف رغم كل الأقمشة الدافئة الملتصقة بالجلد، وكأن كل شارع أضحى "حي المزرعة"... ما هو الشعور المفتقد في هذه المدينة؟ لا روح فيها، أجساد سائرة خارجة من مسلسلات "الزومبي"، دون أن ندري في أي موسم نحن الآن، ومن سيكون "السرفايفر" أو الناجي الوحيد في الموسم الأخير، أو أن المسلسل سيغلق لكون حتى المآسي، لشدة تكرارها، تصبح مملة وغير مثيرة للاهتمام، فنحن نفقد مع الوقت، ومع تكرار المآسي حتى لأقرب الأشخاص، أي إحساس بالتعاطف معهم.

لطالما أحببت الهروب من الواقع، كأن أكون بطلة لإحدى رواياتي المفضلة، ولكن بالتأكيد لم أتمنَّ يوماً أن أكون إحدى شخصيات رواية "العمى" لخوسيه ساراماغو، أو "الطاعون" لألبير كامو، ولم أرغب أن أعيش ما عاشه سكان وهران في الرواية، بعد أن اجتاحهم وباء الطاعون: "وهكذا أصبحوا يتلاطمون أكثر مما يعيشون، ولا ملجأ لهم إلا أيام لا وجهة لها، وذكريات قاحلة، وظلال هائمة، لم تكن لتقوى على البقاء لو لم تنشب جذورها في أرض آلامهم"... لربما كان العيش مع أبطال "الحب في زمن الكوليرا" لماركيز أكثر سحراً، حيث الحب قادر على هزيمة العجز والشيخوخة والزمن وحتى أقسى الأوبئة، يبقى الحب في الرواية، وفي الواقع أيضاً، هو الدافع للاستمرار والحياة، حيث "كل الطرق تؤدي إلى الحب الذي يشتد كثافة كلما اقترب من الموت".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard