يأتي هذا المقال ضمن الملفّ الذي أُطلق منذ شهر مارس/أذار 2020, في قسم "رود تريب" بـرصيف22، والمعنوَن: "داوِ الهمومَ بقهوةٍ سوداءِ... المقاهي العربية".
تخطّت القهوة كونها مجرّد مشروب لا يتعدّى الخمس رشفات، حتى باتت مُلهمة للأدباء والشعراء، وعلى إثرها يكتبون أعذب الكلمات، وفي مدحها يسطرون أشهر الأبيات؛ فمن اسمها اشتقّ الناس عنواناً لأماكن تجمعهم، وهي المقاهي، فيها يتسامرون، ومنها ينطلقون في ثورات هادرة، بعضها يخشاه السلطة، فيلجأون إلى غلقها. وعلى مناضدها جلس حالمون وكتاب وشعراء، يحتسون القهوة، ويتغزلون في مَرارتها! لدرجة حَدَت بالبعض أن يشبهها بالمرأة، مثل محمود درويش، ونزار قباني، ومن قبلهما جبران خليل جبران.
وبمرور الزمن، واعتماد القهوة لدى العوام كمشروب يدلّ على عمق شاربه، صار احتساؤها مرتبطاً بالاستماع إلى فيروز، دلالة على الاختلاف والتميز. لكن ذلك الادّعاء سرعان ما انكشف زيفه على يد صانعي "الكوميكس" على مواقع التواصل الاجتماعي.
وبعيداً عن الهائمين في عشق القهوة، والمرتكنين عليها ادّعاءً للعمق، ماذا عن تاريخ ذلك السائل الغامق الغامض المرّ الذي حيّر الباحثين في أمره، ما إذا كان للجنّ أو الملائكة دخلٌ في اكتشافه؟ ولماذا ذاب في عشقه الأولياء الصالحون ومشايخ الصوفية؟
مشروب ظلَمه اسمُه فعوقِبَ بالمَنع
في أوائل القرن العاشر الهجري عرف العرب القهوة على نحو خفيّ، يشربها أصحاب الكيف، مصحوبة بطقوس قريبة ممّا يجري في الخمارات، فاضطرّ السلطان المملوكي قنصوة الغوري، إلى منعها، ما دامت مصحوبة بجوّ السُّكر.
ذلك القرار الذي اتخذه الغوري، جاء على إثر محضر أرسله إليه ناظرُ الحسبة في مكة، خاير بك المعمار، قصّ فيه ما رآه خلال عودته من المطاف إلى بيته، بأنه "رأى في طريقه ناساً مجتمعين بالمسجد الحرام في ناحية منه قد جمعهم السيفي قرقماس الناصري، يزعم أنه قد عمل مولداً للنبيّ، فلمّا أقبل عليهم طفّوا الفوانيس التي كانت موقودة، فاتّهمهم في ذلك، وأرسل إليهم، وكشف أمرهم، فوجد بينهم شيئاً يتعاطونه على هيئة الشَّرَبة الذين يتعاطون المسكر، ومعهم كأس يديرونه ويتداولونه بينهم، قرقماس المذكور هو الساقي لهم بالقدح المذكور".
ربّما كان من سوء حظّ هذا المشروب الجديد أن أُطلق عليه اسم "القهوة"، الذي كان من أسماء الخمر عند العرب، وحرص المؤرخون المعاصرون في بلاد الشام على التمييز بين القهوتين، إذ أطلقوا على الجديدة "قهوة البن" لتمييزها عن القهوة القديمة (الخمرة)
فلما سأل ناظرُ الحسبة عن ذلك الشراب، قيل له إنه شراب اتُّخذ في هذا الزّمان، يسمى "القهوة"، "يُطبخ من قشر حبّ يأتي من بلاد اليمن، يقال له البنّ، وأن هذا الشراب المذكور قد فشا أمره بمكة، وكثر، وصار يباع في أماكن على هيئة الخمّارات. يجتمع عليه بعض الناس من رجال ونساء بِدفٍّ ورباب، وغير ذلك من آلات الملاهي".
من جانبه، أصدر قنصوة الغوري مرسوماً ذكر نصّه عبد القادر الأنصاري الجزيري في كتابه "عمدة الصفوة في حل القهوة"، جاء فيه: "وأما القهوة فقد بلغنا أن أناساً يشربونها على هيئة شرب الخمر، ويخلطون فيها المسكر، ويغنّون عليها بآلة، ويرقصون ويسكرون. ومعلوم أن ماء زمزم إذا شرب على هذه الهيئة كان حراماً. فليُمنعْ شُرّابُها من التظاهر بشربِها والدّوران في الأسواق".
ورغم أن مرسوم السلطان المملوكي حرّم الطّقوس، ولم يحرّم المشروب ذاته، فكثير من الفقهاء ذهبوا إلى تحريم المشروب ذاته، وفقاً لما أشار إليه محمد الأرناؤوط، في كتابه "التاريخ الثقافي للقهوة والمقاهي"، بقوله: "ثارت مواجهة عنيفة استمرّت حوالي قرن من الزّمن بين المؤيدين والمعارضين لهذا المشروب الجديد، وما نشأ عنه من تقاليد في المجتمع (ارتياد المقاهي). وربّما كان من سوء حظّ هذا المشروب الجديد أن أُطلق عليه اسم القهوة، الذي كان من أسماء الخمر عند العرب، ولأجل ذلك كان يحدث التباس بين القهوتين لدى الباحثين في التاريخ الحضاري للمنطقة (...) لذلك حرص المؤرخون المعاصرون في بلاد الشام على التمييز بين القهوتين، إذ أطلقوا على الجديدة "قهوة البن" أو "القهوة البنيّة" لتمييزها عن القهوة القديمة (الخمرة).
الملائكة والجنّ يتنافسان على اكتشافها
الروايات محصورة في نشأة القهوة من حيث المكان، ما بين اليمن وبلاد الحبشة (إثيوبيا). أما بخصوص مُكتشفها، فتكشف الروايات على اختلافها عن وجهٍ آخر من وجوه ذلك الشراب العجيب؛ فيروي ابن العماد الحنبلي في كتابه "شذرات الذهب في أخبار من ذهب"، أن سكان إحدى المدن كانوا مصابين بمرض خطير، فعجزوا لذلك عن استقبال الملك سليمان، الذي جاء لزيارتهم على بساط الريح مع حاشيته من الجنّ، فنزل جبريل على سليمان، وأمره بتكليف الجنّ أن يأتوا بثمر البنّ، وأن يحرقه ويطبخه بالماء ويسقيهم، ففعل، فشفاهم الله.
ولا يبتعد عبد القادر الأنصاري الجزيري في كتابه "عمدة الصفوة في حلّ القهوة" عن أسطورية اكتشاف القهوة، في روايتين: الأولى يعتمدها عدد من المستشرقين أو الغرب بشكل عام، مفادّها أن النبي محمّد حين حلّ به الحزن الشديد بعدما كذّبه قومُه، نزل عليه جبريل، حاملاً في يده ثمرَ البنّ، وسقاه إياه، فذهب عنه الحزن.
وقّع رئيس أساقفة كانتربري سنة 1637 مذكرة إلى مجلس العموم البريطاني، طالب فيها بتحريم القهوة، كما طالب بمعاقبة كلّ مسيحي يعتنق الإسلام، وباتت حبوب البنّ آنذاك تُعرف باسم "حبة محمّد"
ولعلّ اهتمام الغرب بنسبة القهوة إلى نبيّ الإسلام، آتٍ من صلتهم بحاضرة العالم الإسلامي آنذاك، إسطنبول، وفقاً لما ذكره سعيد السريحي في كتابه "غواية الاسم... سيرة القهوة وخطاب التحريم".
وأشار السريحي إلى أن الغرب أكّد على تلك الرواية تجاوباً مع "النزعة الاستشراقية نحو الشرق، وسحر لياليه وطقوسه، أو صدّاً عن القهوة التي رأوا فيها امتداداً للإسلام والمسلمين، الذين كانوا يناصبونهم العداء، ويرون في انتشار كلّ ما هو متّصل بهم امتداداً لنفوذهم، وهو ما حمل لاند، رئيس أساقفة كانتربري، على أن يوقع سنة 1637 مذكرة إلى مجلس العموم البريطاني، طالب فيها بتحريم القهوة، كما طالب بمعاقبة كلّ مسيحي يعتنق الإسلام (...) وباتت حبوب البنّ آنذاك تُعرف باسم (حبة محمد)".
أما فيما يخصّ حصر الخلاف في منشأ القهوة بين اليمن والحبشة فقط، فيقول سعيد السريحي: "ذلك أن العودة إلى هذين الموطنين عودة للوطن الأول للإنسان، سواءً تمثّل في اليمن، حاضنة العرب الأولى، أو إفريقيا، المهد الأول للبشرية (...)، أو كأنما تعرفه إلى القهوة في هذين الموطنين تعرّف على ما هو أصيل وحقيقي، يتماثل في أصالته مع أصالة الإنسان قبل أن تُبدّله الهجرة، وتُغيّر مذاقَه المشروباتُ التي تعرّف عليها في البلدان التي حطّ فيها رحالَه حين تغرّب عن وطنه الأول".
للقهوة أبٌ صوفي!
من بين كلّ عشّاق القهوة، كان للصوفيين غرامهم المختلف عن غيرهم، وحبٌّ لذلك المشروب يصل إلى درجة الهيام، كونهم يعتمدون على روايات ثلاث في نشأتها، جميعها تؤكد أن مكتشفها كان أحد شيوخ الطريقة الشاذلية، وهم: محمد بن سعيد الذبحاني، وعلي بن عمر الشاذلي، وأبو بكر بن عبد الله الشاذلي المعروف بالعيدروس أو العيدروسي.
من بين كلّ عشّاق القهوة، كان للصوفيين غرامهم المختلف عن غيرهم
ويستدلّ محمد الأرناؤوط على عمق الصلة بين الصوفية والقهوة، بأن الجزائريين يطلقون على القهوة اسم "شاذلية" نسبة إلى الشاذلي. وفي دمشق مطلع القرن العشرين، كان صاحب البيت في أحد الضواحي إذا أخذ إبريق القهوة من على النّار يسكب الفنجان الأول على الأرض، "لأنه حصّة الشاذلي"، بحسب الأرناؤوط.
واستدلّ الأرناؤوط على هيام أبناء الطريقة الشاذلية بالقهوة، بما كتبه الشاعر السعودي محمد الشبيتي، في مطلع قصيدته "تغريبة القوافل والمطر": "وزِدنا من الشاذلية حتى تفيء السحابةُ/ أدِرْ مُهجة الصبح/ واسكبْ على قلل القوم قهوتَك المرّة المُستطابة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...