طقوس شرب القهوة في القاهرة العثمانيّة: شراب المتصوّفة والأرستقراطيين
كانت القهوة تخزّن في البيوت القاهريّة خلال الفترة العثمانيّة كما تخزّن الحبوب ومستلزمات الطعام، وارتبط شربها بتدخين التبغ، ورصدت دراسةٌ للدكتور ناصر أحمد إبراهيم، بعنوان "آداب وطقوس شرب القهوة في القاهرة العثمانيّة"، أن استضافة الضيف كانت تبدو ناقصةً في القاهرة العثمانيّة، لو دخل البيت ولم يحتسِ القهوة، حتى ولو أكل، ولكنه يجوز أن يشرب القهوة ولا يأكل.
مع نهايات القرن الثامن عشر بلغ عدد المحلّات التي تقدّم القهوة في القاهرة 1200 مقهى
بدأ انتشار القهوة في مصر خلال القرن السادس عشر، وكان المتصوّفة سبب انتشارها، وتردّد على ألسنة الناس المقولة الشهيرة: "القهوة شراب أهل الله"، لأنها تساعد على السهر وممارسة الذكر والمناجاة ليلاً، ومع نهايات القرن الثامن عشر بلغ عدد المحلّات التي تقدّم القهوة في القاهرة 1200 مقهى، حسبما ترصد دراسة ناصر أحمد.
كانت القهوة هي "الشراب المختار عند المصريين"، ولكنها تبوّأت مكانةً أكثر أهمية في مجالس الوجهاء "أصحاب اليسار الذين كانوا يشربون منها في خلال النهار خمسة عشر فنجاناً بل وعشرين فنجاناً"، يقول كلوت بك (1793: 1868) الطبيب الفرنسي الذي استقرّ بمصر، في كتابه "لمحة عامة إلى مصر".
قد لا يعلم معظمنا اليوم أنّ القهوة في القاهرة العثمانيّة كانت شراب المتصوّفة والأرستقراطيين
بدأ انتشار القهوة في مصر خلال القرن السادس عشر، وكان المتصوّفة سبب انتشارها، وتردّد على ألسنة الناس المقولة الشهيرة: "القهوة شراب أهل الله"، لأنها تساعد على السهر وممارسة الذكر والمناجاة ليلاً
في القاهرة العثمانية، طاقم سرفيس القهوة، بما فيه من أطباق أو إبريق أو فناجين، قد تصنع جميعها من الذهب أو الفضة، وقد ترصّع بأحجارٍ كريمة...من هنا كانت طقوس شرب القهوة متكلّفة
وكان لشرب القهوة في البيوت الأرستقراطيّة عادات وطقوس غاية في الترف، وربما ساهمت تلك العادات في أن تبقى القهوة هي المشروب الأرستقراطي في مصر، بعد أن تغيّر المزاج العام عقب الاحتلال الإنجليزي (1882م)، وأصبح الشاي الذي أدخله الإنجليز لمصر هو المشروب الشعبي حتى يومنا هذا.
طقوس شرب القهوة وآدابها
القهوة في المنازل الأرستقراطية كانت مكلفة جداً لصاحب المنزل، ففي البيت أو على الأحرى القصر كان يوجد "مدقّ بنّ" لطحن حبوب البنّ، له عامل مختصّ، وملحق بغرفة الاستقبال مكان يسمى "بيت القهوة"، به يَعُدّ الخدم القهوة، حسبما ترصد نيللي حنا في دراستها "بيوت القاهرة في القرنين السابع عشر والثامن عشر".
ولتقديم القهوة والتبغ، يُعيّن طاقما عملٍ من الخدم، ولكلّ طاقم قائد في القصر، فهناك "القهوجيّة" برئاسة "قهوجي باشا"، وكذلك "الشبكجيّة" الذين يجهّزون الدخان ويقدّمونه.
وحسب الدراسة إياها، كتب نائب القنصل الفرنسي بالقاهرة جان كوبان (1646 1838)، تفاصيل دقيقة للمشهد الطقوسي المقترن بعملية تقديم القهوة، وذلك لدى استقباله بديوان آغا الإنكشاريّة:
"استقبلنا الآغا بالديوان الذي كان مفروشاً بسجّادةٍ رائعة الجمال، وبعد وقت قليل من حفاوة الاستقبال، أمر بأن يحضروا لنا الشربات والقهوة، فجاء أربعة من الخدم يرتدون الدُّولِمان Dolimans (وهو معطف واسع عند الإبط ضيقهما عند الرسغ)، مصنوع من قماش الكتان الأبيض الرقيق، ويلفون أحزمةً من السَاتَان الأحمر الموشّى بالذهب على خصر كلّ منهم، وعلى رؤوسهم طواقي من القطيفة المخمليّة، تدور حولها عمامة صغيرة من قماش القطن الرقيق، ويرتدون الكلسون الطويل ذي اللون الأرجواني الواصل حتى الأقدام، وينتعلون حذاءً مدبب الطرف مصنوعاً من الجلد الأصفر.
وعلى حين قدّم اثنان من هؤلاء الخدم فوط الحرير إلى سيّدهم، وجدتهما يجلسان أمامي على ركبهما، فيما قدّم لنا الاثنان الآخران مشروب القهوة في فناجين البورسلين، مع جلوسهما كذلك على ركبهما، وبعد ثلاثة أرباع الساعة من الزيارة غادرت المكان في رفقة الآغا".
يتفاوت عدد الخدم المختصّين بالقهوة بين بيتٍ وآخر، حسب درجة الثراء، ولكن في المتوسّط كان هناك 4 من الخدم يشتركون في هذا الطقس، أحدهم يستقبل الضيف ويوصله إلى قاعة "السلاملك"، ويبخّر المكان قبل تقديم "القهوة"، ثم يأتي الخادم الثاني ليقدم فوطةً من الحرير للضيف ليضعها على حجره، ثم يُقدّم له القهوة في فنجان من البورسلين الفاخر، وأحياناً من الفضة المذهّبة.
أما الخادم الثالث فينزع عن الضيف فوطة القهوة، ويقدّم له "الشربات" التي عادة ما كانت تلي شرب القهوة ومصحوباً بفوطةٍ جديدة، يضعها أيضاً على حجره، أما الخادم الرابع واﻷخير، فهو الذي يتولّى غسل يدي الضيف بماء الورد، ثمّ يناول الضيف فوطةً أخرى لتنشيف يديه، ويتولّى رشَّ لحيته ووجهه بالماء المعطّر، وأخيراً يأتي بأعواد البخور ويبخّر المكان مرّة أخرى، حسبما يذكر جوفی ميكيله فنسليبو، في كتابه "تقرير الحالة الحاضرة لمصر".
طقوس تقديم القهوة وتناولها
يصبّ الخدم القهوة في الفناجين ثم يقدّمونها للحاضرين ممسكين ظرف الفنجان (هنا مثال عنه: رابط، ومثال ثان: رابط) من أسفله بأطراف الأصابع، فيتلقّى الزائر الفنجان بالقبض عليه بالإبهام والأصابع الثلاثة التالية له؛ فالفنجان ليس له يد أو ماسك كما في هذه الأيام، وحين يأخذ الخادم الفنجان بعد فراغه، يتلقّاه بطريقةٍ تشبه التي قدّمه بها، بوضع يده اليمنى على فتحة الفنجان وتركيز قاعدة الظرف على يده اليسرى، هكذا أخبرنا كلوت بك.
ولم هذا كله؟ يردّ كلوت بك، بأن طاقم سرفيس القهوة، بما فيه من أطباق أو إبريق أو فناجين، قد تصنع جميعها من الذهب أو الفضة، وقد ترصّع بأحجارٍ كريمة... الأمر لا يحتمل الكسر! وكذلك فإنك كضيف لابد وأنك ذو ثراءٍ فاحشٍ أو سلطةٍ كبيرة، ولذلك يطغى هذا الطابع المتكلّف.
الصورة لقطعة من متحف الفن الإسلامي في قطر (MIA)، جاء تعليقاً عليها: "صُنع حامل فنجان القهوة هذا في سويسرا لسوق المنتجات العثمانية الفاخرة، ويمثل دليلاً على الحرفية العالية للصائغ الذي صممه وغنى مالكه. ويشير الاستخدام المفرط للياقوت إلى تمتع مالكه بثراء كبير وأنه تم تصميمه بحسب رغبة المالك. والكمية الكبيرة من الأجزاء المفرط بها أثناء تقطيع وإعادة تقطيع كل حجر كريم مستخدم يُظهر أن المالك لديه من الأموال ما هو كافٍ للإسراف في التبذير."
ويضيف المتحف: "كان العثمانيون يميلون إلى شرب القهوة في أكواب من الخزف لها شكل الكشتبان دون مقبض. وبما أن هذه الأواني ستصبح ساخنة جداً حالما يتم سكب القهوة فيها، فإنه سيكون هناك حاجة لاستخدام الظرف لحماية رؤوس الأصابع الحساسة للشخص الذي يحتسي القهوة. وعلى عكس الفنجان العادي، غالباً ما يكون الظرف مزيناً بشكل كبير ويعكس ثروة وذوق مالكه." (رابط القطعة)
قواعد تقديم القهوة
ولقواعد تقديم القهوة أهمية حسب المركز الاجتماعي والمرتبة الوظيفيّة، يقول كلوت بك:
كان على الخدم أن ينتبهوا جيّداً لضرورة مراعاة الفروق الاجتماعيّة بين السادة الحضور، إذ كان يتعيّن أن يقدّموا القهوة في أوّل الأمر إلى الشخص الذي يؤهّله مقامه أو رتبته أو ثروته لأن يحوز شرف الأسبقيّة على غيره في الخدمة، وإذا وُجِدَ بين الحاضرين أكثر من واحد يستحقّون هذا الاعتبار فإن فناجين القهوة تُقدّم إليهم في آنٍ واحد وعليهم قبل تناول الفنجان الذي يُقدّم إليهم أن يحيوا بعضهم بعضاً.
أما إذا كان الزائرون أحطّ مرتبةٍ من مضيفهم، فلا يصحّ تقديم القهوة إليهم إلا بعده بحسب ترتيب مجالسهم منه، والواجب عليهم في هذه الحالة أن يحيّوا صاحب البيت بالإشارة قبل تناول الفنجان، وكلما تلقَّى تحيةً أجاب عليها برفع فنجانه إلى موازاة وجه، بحسب كلوت بك.
كذلك قضت التقاليد بأن لا يُبادر ببدء الشراب بين الضيوف إلا مَنْ كان أعلى مقاماً ومكانةً.
وبعد ذلك كله، يجب الانتباه إلى أن القهوة لا تُشرب إلا مصّاً بطرف الشفتين، ومن غير إمالة الفنجان، وإذا أراد الضيف إظهار الاحترام لصاحب البيت، فيحوّل رأسه إليه تحوّلاً خفيفاً، ولا يشرب من القهوة إلا الشيء اليسير منها.
وحين يرُدُّ الفنجان، يبعد ذراعه عن جسده قليلاً، مع إبداء التحيّة التقليديّة المتبعة للمضيف أو لأهمّ سيّد (أو سيّدة) في المجلس.
ويجب ألا يتحدّث مع الخادم، أو مع رب البيت في عمل إلا بعد شرب القهوة، فهذا سوء أدب، هكذا نقلت دراسة ناصر أحمد عن المصادر التي أرّخت لتلك الفترة.
صورة المقال من مقتنيات متحف بيرا في تركيا (رابط القطعة).
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...