"القراءة والكتابة داخل السجن" هو العنوان الفرعي لكتاب "حُرز مكمكم" الصادر هذا العام عن دار صفصافة، للمصري أحمد ناجي، المقيم الآن في الولايات المتحدة الأمريكية، بعد أن سُجن في مصر لمدة سنتين بتهمة خدش الحياء العام، لن نناقش "منطقية" التهمة ولا سقوط السلطة القمعية، لأن توجيه السباب لها أو تفنيد منطقها لن ينفي حقيقة أن ناجي خسر سنتين من عمره في السجن، بسبب القضاء الفاسد الذي تمارس الرقابة الأخلاقية على المخيلة واللغة.
لا يوجد ترتيب زمني واضح للنصوص داخل الكتاب، إذ نقرأ يوميات في السجن منتقاة من أصل لا نعرف عدده، كذلك هناك مقاطع يكتب فيها ناجي أفكاره عن العلاقة بين فضاء السجن والكتابة بوصفها نشاطاً عقلياً وجسدياً، يُهَدد بسبب طبيعة الحياة داخل السجن، ككيفية الجلوس وأسلوب الكتابة على الفخذ، كيفية إخفاء المسودات وتقنيات إصلاح الأخطاء أثناء التدوين على دفتره الصغير، يكتب ناجي أحياناً بضمير الأنا وأحياناً يستخدم صيغة المخاطب مع ذاته.
ما جدوى الكتابة إن كان سينتهي الكاتب في السجن؟
يشتم الكتابة واللغة العربية ونفسه على ألعابه الخطرة، فما جدوى الكتابة إن كان سينتهي الكاتب في السجن، يحاول أن يُقلّب منطقياً ما حصل معه، منذ لحظة رفع الدعوى إلى حين صدور الحكم، ويتجنب الأمل الزائف بعفو رئاسي، يحاول أن يكون عقلانياً في فهمه للسلطة وخطابها وقرارها، وينتهي الأمر بشتمها، لا حل أمام سلطة عمياء سوى الشتم أو السخرية والتشفّي منها بذات الكلمات التي أدانتها.
مرافعة حميمية وساخرة ضد الحماقة والجدية
الكتاب مرافعة حميمية وساخرة ضد الحماقة والجدية، نتعرف فيها على ناجي نفسه وطفولته، وعلاقته مع الكتابة و"معارك الأدب"، وسخريته العميقة من السجن المصري نفسه، يحاول ناجي أيضاً التحرر من السلطة الأخلاقية والمعرفية التي يحويها أدب السجون و"الحقيقة" التي يدّعيها، فهو لم يسجن بسبب موقف سياسي، وسجنه ليس جزءاً من تاريخ النضال الحزبي، بل دخل السجن لأنه كتب كلمات بذيئة، المحكمة نفسها لم تحددها ولم تنطقها، وكأن هناك خزان كلمات فصحية ومحكية يحرّك كلاب السلطة كي تنهش من ينطقها أو يكتبها، دون أن نعرف بدقة ما هي هذه الكلمات، فالقضاء المفرط في أخلاقيته، إلى الآن، لا يكشف عن اللغة التي جرّمت ناجي، والتي اتهم بسببها بتقويض دعائم الأسرة ونشر الانحطاط، أي لا يسمّي اللفظ الدقيق الذي جرّم بسببه.
خسر سنتين من عمره في السجن، بسبب القضاء الفاسد الذي تمارس الرقابة الأخلاقية على المخيلة واللغة، واليوم نقرأ روايته: حرز مكمكم... القراءة والكتابة داخل السجن
يراهن ناجي على الكتابة كشكل من أشكال المرح واللعب، هي أسئلة جدية وغير جدية يطرحها الكاتب على العالم واللغة وذاته، فالشكل الذي اتبعه ناجي في الكتاب جزء من تعليقه على أدب السجون، لا يريد نقل تجربة الرفاق في النضال، فهم بالأصل ليسوا رفاق، هم أشخاص مساكين وغير مساكين، تجمعهم علاقات نفعية وحذر، لا شيء مشترك بينه وبينهم، لكنه قادر على التكيف، والكتابة ذاتها قادرة على التكيف، هو يتعاطف مع بعضهم ويستغرب من بعضهم الآخر، ويكتشف لغاتهم المخفية دون أن ينتمي لهم، فهناك دوماً "قناع الكتب" الذي يحميه ويحافظ بسببه على عزلته النسبية و"صوابه".
يكتب ناجي ضد الأدب التقليدي والسلطة التقليدية واللغة التقليدية، انتصاراً للعب واللهو مع الكلمات في أشد اللحظات قسوة، للتبول بوجه السلطة لا بوصفها فقط مفهوماً فوكودياً مجرداً، بل أفراداً نعرفهم ويسميهم ناجي بأسمائهم، هم كتلة بشرية تدافع عن الأخلاق الوطنية وتؤدي الطاعة لمتعة الطاعة ذاتها، يحركهم السخف والخوف على النظام العام الذي يثير القيء.
والذي يخبرنا ناجي عنه منذ بداية الكتاب، حيث حاصرته لوحات الكيتش المرسومة على جدران السجن الخارجية، وهنا تظهر السلطة بأشد أشكال سخفها، هي تحافظ على المظاهر والتزيين والزخرفة حتى لو كانت مبتذلة، ذات الأمر ينطبق على ورقة حيثيات الحكم على ناجي، والتي نقرأ أجزاء منها في الكتاب وتعليقات ناجي عليها، المثير للحنق والسخرية أنها نشرت دون همزات أو تنقيط، السلطة وقضاتها أصحاب لغة مختلفة عن تلك اليومية والأدبية، لغة هجينة يمتزج فيها الجهل مع الكراهية والتنوير والفضيلة، هي أكثر ما يثير الاستفزاز في قضية ناجي و حديثه عنها، خصوصاً أن الادعاء وضع تعريفات للأدب، الجمال والشعرية.
وهنا يظهر رعب خفي لدى قارئ كتاب ناجي، أي واحد منا ضمن الجغرافيات العربية ممكن أن يخضع لحكم كهذا، السلطة في بلادنا ضد اللعب، و لا حاجة لها لتبرير ذلك، هي سلطة ذات لغة خاصة، ما قبل نحوية، مشابهة للغة المشعوذين، معناها لا يفهمه إلا من كتبها.
يشير ناجي إلى العبء الأيديولوجي الهائل الذي تحمله بعض أشكال الكتابة، ودعوات التنوير التي يحملها بعض الكتاب ممن دافعوا عنه أمام القضاء، ويشير بوضوح إلى عيوب الكتابة النموذجية، المدرسية، القويمة، التي ترتقي بأخلاق الأمة، هي دروس في النضال السياسي، لا لعب ولا تسلية فيها، لكن ما يبعث على الأمل، أن "القراءة" لم تخذل ناجي، الكتب حاضرة دوماً، الجيدة والرديئة منها دوماً أحاطت بناجي، فشل بالاستمناء، اعتلاه الحر والرطوبة، حُرم من أصدقائه، لكن الكتب لم تخذله، هم أصدقاء المتعة والحزن، أما الكتابة فليست خلاصاً و لا ترويحاً عن النفس، بل لعبة خطرة، دفع ناجي ثمن كسر قواعدها لكنه لم يتوقف عن ممارستها.
اكتب/ي كأنك تستمني/ين، لمتعتك الشخصية!
يحضر موضوع الجدية في الكتابة عدة مرات ضمن "حرز مكمكم"، والجدية هنا المقصود بها أن تتحول الكتابة إلى أداة للتنوير وكل تلك الكلمات التي يؤمن بها "كبار الكتّاب".
أحمد ناجي يكتب لأجل المتعة لا لبناء الأمة أو الرقي بأخلاقها، ونحن أصدقاؤه، من نعرفه ولا نعرفه، نقرأ لأجل المتعة
لكن ناجي يرى أن هناك رغبة خفية وراء الكتابة، ألا وهي المتعة الذاتية لدى الكاتب، تلك التي تختبئ عادة وراء رسائل سياسية وجمالية، خصوصاً أن الاعتراف بهذه المتعة قد يهدد "صورة الكاتب" ووظيفته التاريخية، لكن تباً لذلك، أحمد يكتب لأجل المتعة لا لبناء الأمة أو الرقي بأخلاقها، ونحن أصدقاؤه، من نعرفه ولا نعرفه، نقرأ لأجل المتعة، وإن رفع أخيراً نخباً للصداقة، فنرفع أيضاً أنخابنا لأجل الصداقة، ولأجل قواعد اللعب التي نحاول خرقها يومياً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.