بعد حصار المدينة وهزيمتهم، يُرسل الصليبيّون كتاب شروط الاستسلام للأمير العربي، لكنه يفاجئهم بأنه يطلب بدلاً من الفدية الماليّة "هيلين التورونيّة" لإخلاء سبيل الحاميّة الصليبيّة. من هذا الطلب الغريب تبدأ أحداث رواية الكاتب اللبناني "شربل قطّان" الأخيرة والتي تحمل اسم "التورونيّة"، ومنه تتفرّع الحكايات والأحداث لتروي قصّةً تجري أواخر القرن الثاني عشر وبدايات القرن الثالث عشر.
يكون هذا الطلب لا مثار استغراب الصليبييّن فحسب، بل العرب أيضاً، لكن "غياث الدين قراقوش" يفصح عن الأسباب، فيروي ذكريات طفولته في عكّا، حين بدأت المعارك بين "صلاح الدين الأيوبي" والملك الصليبي "ريتشارد" الملقّب قلب الأسد، وكيف حاصر الأخيرُ المدينةَ، وأخذ أهلها رهائن، مانحاً "صلاح الدين الأيوبي" مهلةً ليستسلم قبل أن يصفّيهم.
وضعت الأقدارُ الأميرةَ "هيلين" في درب "قراقوش" فساعدته وأمّه لينجيا من الموت، وحمل الصغير في داخله شعوراً بالامتنان الممزوج بالحبِّ للشابة التي ظلَّ طيفها يلاحقه كلّ تلك السنين، وما إن انتصر في إحدى المعارك على الصليبيين حتى طلبها تحديداً، مرسلاً لها حين طلبت منه توضيح النيّات، شريطاً أحمر داخل جعبة.
"كان الغرض بداخلها بسيطاً جداً. خبّأه منذ أمد طويل بانتظار اليوم الموعود. كان يأمل دوماً أن يجاريه القدر ويضع هيلين في طريقه وها هي اللحظة قد وافته. شعر بتردّدٍ عميقٍ، فالتخطيط شيء والتنفيذ شيء آخر. حين فكّر فيها وفي أنها على وشك أن تعرف مبتغاه تسارعت دقّات قلبه. بعد تردّدٍ عاد إلى الرسولين الصليبيين (...) سلّمهما الجعبة الصغيرة وأفصح لهما: من الغرض تُستخلص النيّات".
يجدل "قطّان" في روايته الكثير من الحكايات الفرعيّة ضمن الحكاية الأساسيّة، ويدخل الكثير من الشخصيات التي لها حكاياتها المستقلّة، لكنها تؤثّر بحبكة الرواية وتتأثّر بها، ومن هذه الشخصيات "عيسى العوّام" الذي كان له دورٌ كبير في نقل الأخبار أثناء الحصار، و"العرّافة" التي يشتريها الأمير من السوق والتي نتعرّف على ماضيها مع تطوّر السرد، وكذلك "العطار" الذي يلجأ إليه "قراقوش" بعد أن يستيقظ ذات يوم فجراً، فيرى سيفاً مسجّى عند حافة فراشه، ومباشرة يدرك أن من وضعه هم "الحشّاشون"، لا الصليبيين، فيستدعي "العطار" لمعرفته أنه الوحيد الخبير في أساليبهم وطرقهم، وهو من يستطيع معرفة الرسالة التي يريدون إبلاغ الأمير بها.
بعد حصار المدينة وهزيمتهم، يُرسل الصليبيّون كتاب شروط الاستسلام للأمير العربي، لكنه يفاجئهم بأنه يطلب بدلاً من الفدية الماليّة "هيلين التورونيّة" لإخلاء سبيل الحاميّة الصليبيّة. من هذا الطلب الغريب تبدأ أحداث رواية الكاتب اللبناني شربل قطّان الأخيرة والتي تحمل اسم "التورونيّة"
لماذا أراد "الحشّاشون" من "قراقوش" أن يسرع في القضاء على الإفرنج، وما هو سرّ "الضياء الصافي" الذين يريدون استغلال فوضى الجيوش لسرقته من الملك الإفرنجي، وكيف وصل أصلاً إليه بعد أن أودعه تاجرٌ يهودي أمانةً لدى تاجرٍ مسلم، وباعه الورثة بعد ذلك مفرّطين بهذه الأمانة: أسئلة تتابعها رواية "التورونيّة"
هكذا، نصبح أمام عنصرٍ جديدٍ يدخل على الرواية، ويرفدها بحكايةٍ جديدة، ورويداً رويداً تتكشف الأسرار والغوامض، وندرك لماذا أراد "الحشّاشون" من "قراقوش" أن يسرع في القضاء على الإفرنج، وما هو سرّ "الضياء الصافي" الذين يريدون استغلال فوضى الجيوش لسرقته من الملك الإفرنجي، وكيف وصل أصلاً إليه بعد أن أودعه تاجرٌ يهودي أمانةً لدى تاجرٍ مسلم، وباعه الورثة بعد ذلك مفرّطين بهذه الأمانة.
"عاد خمارتكين إلى مخيّم قراقوش واختلى به وبأخيه. أسلمهما المخطوطة التي وجدها داخل خفِّ الحشاش، وأطلعهما على ما باح به المجرم، ثم سرد لهم قصّة الضياء الصافي. بدأ قصّته عن تاجرٍ مسلمٍ من أهل حلب. (...) في يوم من الأيام دخل عليه أحد أعيان الجالية اليهوديّة، وأودعه أمانةً صغيرةً، صندوقاً بحجم كف اليد، مصنوعاً من خشب الجوز، قفله بسيط، عبارة عن زردة حديدية صغيرة يسهل فتحها".
ربما، لا يمكننا أن نصنف رواية "التورونيّة" على أنها رواية تاريخيّة، فصحيحٌ أنها تتكئ على التاريخ وتستلهم أحداثه، وتورد شخصيّاتٍ حقيقيّةً بحكاياتها، مثل شخصية "العوّام" وشخصية "البطريرك هيراكليوس" ومعشوقته "إيسكيلا"، إلا أن هناك قسم من الشخصيات متخيَّل بالكامل، والأحداث أيضاً متخيَّلة. ويمكن أيضاً أن نضيف أن هذه الرواية التي تستلهم التاريخ لا تكتفي بحكايات التاريخ وأسئلته، بل تطرح مواضيع وأسئلةً ما زالت تثار حتى اليوم، فتحكي عن الحب، والإيمان، والله، والجهاد، والحرب، وهي تطرح هذه الأسئلة شابكةً إياها ضمن دراما النصّ، من دون مباشرة وخطابيّة، وهو ما يُحسب لها.
عودةً إلى بداية الحكاية، وهو الطلب الذي يطلبه الأمير "قراقوش"، فإن "هيلين التورونيّة" سيكون لها شرط وحيد للموافقة على الزواج منه، وذلك بعد أن استطاع وحده من بين جميع الرجال الإجابة عن سؤالها إجابةً صحيحة، فماذا سيكون شرطها؟ وهل سيستطيع تلبيته؟ وما هو جواب سؤالها البسيط؟ هذه أسئلة مشوّقة تحمل صفحات الرواية إجابات عنها وعن غيرها.
"سألته: ما هو نقيض الحب؟ لم يتوقّع سؤالاً من هذا النوع، وخاصة في وقت مصيري كهذا. ولكن بمعرفته بها، عرف إن إجابته ستشكّل عاملاً مهمّاً في قرارها. تزاحمت المفردات التي تعبّر عن أضداد ما سألت، من ضغينةٍ وكرهٍ وبغض، إلا أنه وجد تلك المفردات تافهة لا تعبّر عن حقيقة الموضوع (...) فأجابها: نقيض الحب هو...."
شربل قطّان: كاتب لبناني من مواليد 1970. انتقل إلى جنوب إفريقيا عام 1990 حيث تابع دراسته العليا وحاز شهادة في المعلوماتيّة. "التورونيّة" هي روايته الثانية، بعد "حقائب الذاكرة" التي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية عام 2012. الناشر: دار نوفل – هاشيت أنطوان / بيروت، عدد الصفحات: 264، الطبعة الأولى: 2018.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...