تنطلق الرواية الأخيرة للروائي الجزائري "الحبيب السائح"، والمسمّاة بـ"أنا وحاييم"، من صداقةٍ فريدةٍ جمعت بين اثنين هما "أرسلان بن القايد" و"حاييم بنميمون"، منذ طفولتهما بشقاوتها وشيطناتها، وشبابهما والتجارب التي عاشاها، إلى مرحلة ما بعد استقلال الجزائر.
تبدأ الرواية من دخول "أرسلان" إلى البيت الذي كانت تقطن فيه أسرة "حاييم"، فيمرُّ شريط الذكريات، ويبدأ بسرد أحداث حياة ٍكاملةٍ، عاشها الاثنان برفقة بعضهما البعض، دون أن يعيق نموَّ هذه الصداقة وعمقها أن الأوّل مسلم والثاني يهودي.
"وقفتُ، على الرصيف المقابل، وقفةً لم أقفها من قبل، محزون الخاطر، أمام دار حاييم تبدو ساكنة مثل كائن تحجّر، ملتفّة على فراغٍ بات يسكنها منذ أن أطاح الدهر، قبل ثلاثة أشهر، بآخر أهلها العابرين. تقدّمتُ. عند الباب الصامت، ذاك الذي رأيت حاييم يخرج منه بمحفظته قبل ثمانية وعشرين عاماً كي نتوجّه معاً لأوّل مرّةٍ إلى مدرسة جول فيري (...) ثم دخلت فانتابني مرة أخرى شعور بأن السكون قد يكون بهذا الثقل الذي ينوء به الرواق".
يستعيد "أرسلان" نشأته مع صديقه في مدينة سعيدة، ودراستهما الابتدائيّة فالثانويّة. يحكي عن عائلتيهما وحكايات أفرادها، وعن التجارب التي مرّا بها في مراهقتهما ويفاعتهما، وصولاً إلى الدراسة الجامعيّة حيث ينتقلان إلى الجزائر، فيقرّر الأوّل دراسة الفلسفة، والثاني دراسة الصيدلة.
تؤرّخ الرواية الأخيرة للروائي الجزائري "الحبيب السائح"، والمسمّاة بـ"أنا وحاييم"، للمقاومة ضدّ الاحتلال الفرنسي للجزائر، ولمشاركة اليهود في مواجهة الفرنسيّين
يختار "الحبيب السائح" أن يكتب روايته الأخيرة "أنا وحاييم"، بما يشبه سرداً ذاتيّاً يكتبه بطله عن نفسه وعن صديقه، وهو يتذكر باسترجاعاتٍ طويلةٍ، الماضي، مختاراً شخصية يهودي جزائري ليشير إلى أن اليهود شكّلوا جزءاً من مكونات الجزائر، وكانوا يتكلّمون اللغة نفسها ويمارسون الحياة نفسها
تصوّر الرواية ما تعرّض له الجزائريّون أيام الاحتلال الفرنسي من تمييزٍ عنصري، إذ يطلق الفرنسيّون على أبناء البلد كلمة "الأنديجان" وهي صفة محمّلة بالاستعلاء عليهم، وفي فترات دراستهم يعاني الصديقان من هذا التمييز، على الرغم من أن والدي "حاييم" تجنّسا بالجنسيّة الفرنسيّة، تبعاً لقانونٍ كان يسمح لهم بذلك آنذاك، وحين يسأل الابن أباه عن سبب رغبته بالجنسيّة، يجيبه الأب بأن ذلك ردّ فعلٍ لما تعرّض له أجدادهم أثناء الحكم العثماني، الذي اعتبر اليهودَ ذميّين، وفرض عليهم الجزية. غير أن العائلة لم تبدّل اسم الابن باسمٍ أوروبي كما فعلت عائلات اليهود التي استفادت من قانون التجنيس نفسه، وهذا ما جعله دوماً يرى النزعة العنصريّة من قبل الفرنسيين، ومن دخل أرض الجزائر من جنسيّاتٍ أخرى، مثل المالطيّة والإيطاليّة والإسبانيّة أيام الاحتلال.
"كانوا في غالبيتهم، خاصّة المحظيين منهم بالنظام الخارجي، ينظرون إلينا، أنا وحاييم، نظرة أهل المدينة إلى الريفيّين. وكانوا، لاسمينا، قد رتبونا بقوة أحكامهم المسبقة، ضمن خانة الأنديجان –تلك كانت نظرة الأقدام السوداء والأوروبيين جميعاً إلى غيرهم من الأهالي في البلد كلّه- فدليلهم، بالنسبة إلى حاييم بنميمون، أنه لا يزال يستعمل اسماً كان يجب على عائلته أن تغيّره باسم أوروبي".
تؤرّخ الرواية للمقاومة ضدّ الاحتلال، ولمشاركة اليهود في مواجهة الفرنسيّين، فبعد أن يلتحق "أرسلان" بصفوف الثوّار، نجد أن "حاييم" هو الآخر ينخرط في المقاومة لكن بطريقةٍ مختلفة، إذ يوفّر الدواء للجرحى من المقاتلين، ويضع صيدليته بكلِّ ما فيها تحت خدمتهم، ويكون له دور في إنقاذ "زليخة" التي ستصبح فيما بعد زوجةً لصديقه. كلّ ما فعله لن يشفع له لاحقاً، فبعد حصول الاستقلال يُنعت باليهودي، ويُطالب بالرحيل مثل باقي الفرنسيين والأقدام السوداء، لكن الأخير رغم كلّ الضغوطات يصرّ على البقاء في بلده، حتى عندما تشترط عليه حبيبته "كولدا" أن يسافر معها إلى فلسطين كي تقبل بالزواج منه.
يختار "الحبيب السائح" أن يكتب روايته بما يشبه سرداً ذاتيّاً يكتبه بطله عن نفسه وعن صديقه، وهو يتذكر باسترجاعاتٍ طويلةٍ الماضي، مختاراً شخصية يهودي جزائري ليشير إلى أن اليهود شكّلوا جزءاً من مكونات هذا البلد، وكانوا يتكلّمون اللغة نفسها ويمارسون الحياة نفسها، دون أن يفرّق بينهم وبين باقي مكوّنات البلد شيء، إلى أن حدث أوّل شرخ، حين جاء الاحتلال وأقرَّ قانون التجنيس، ثم ما تلى ذلك من مضايقاتٍ تعرّض لها اليهود بعد الاستقلال.
حياةٌ مثيرة عاشها الصديقان إذاً، لكنها انتهت بوجع الانكسار والفقد. يكتب "أرسلان" لصديقه ذكرياتهما المشتركة كلها، وفي ختامها يبوح له:
"إلى أن أرحل أنا مثلك من هذا العالم وأُدلّى في قبري بوجهي إلى القِبلة، فألتقيك أو لا ألتقيك، اطمئن على أنك في ذهني لم تعمّر في هذه الدنيا إلا لحظة تشبه تلك التي استغرقتها سباحتنا بين ضفتي الوادي يوم طاردنا ألفونسو باتيست".
الحبيب السائح، كاتب وروائي جزائري، من مواليد عام 1950. له عدّة مجموعاتٍ قصصيّة، وعشر روايات، من أبرزها: "زمن النمرود"، "تلك المحبة"، "الموت في وهران"، "كولونيل الزبربر". ترجمت معظم رواياته إلى اللغة الفرنسيّة. فاز بجائزة الرواية من ملتقى عبد الحميد بن هدوقة بالجزائر عام 2003. وصلت روايته "أنا وحاييم" إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية عام 2019.
المؤلف: الحبيب السائح/ الجزائر، الناشر: دار مسكيلياني/ تونس – دار ميم/ الجزائر، عدد الصفحات: 366، الطبعة الأولى: 2018
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...